سأظل أمانع حتى آخر سوري


منذر خدام
الحوار المتمدن - العدد: 6207 - 2019 / 4 / 21 - 21:08
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

سأظل أمانع حتى آخر سوري
منذر خدام
يعد مفهوم "الممانعة" من أكثر المفاهيم السياسية التباسا، وفي الوقت ذاته فهو من أكثر المفاهيم كلفة، إذ استجر ثمنا باهظا، دفعه السوريون من دمائهم ومن ومصائرهم ومن عمرانهم، ومن مقومات وجودهم. و"الممانعة" التي اختارها النظام كعنوان لاستراتيجيته السياسية لها معاني كثيرة، أضعفها على الاطلاق ممانعة اسرائيل التي بدلالتها أشتق المصطلح أساسا، كتعبير عن وضعية سلبية هي في أحسن حالاتها تعبير عن عجزه عن القيام بأي رد فعل على ما تقوم به اسرائيل من اعتداءات متكررة. ومن حرص أصحاب استراتيجية الممانعة على استمرارها فقد حرصوا ايضا على استمرار استراتيجية العجز عن الرد. لا يحتاج المرء إلى مزيد من امعان الفكر حتى يدرك أن الصراع مع اسرائيل هو صراع حضاري تتسع ميادينه لتشمل جميع ميادين الحياة، وليس فقط الميدان العسكري، وإن حصيلة هذا الصراع التاريخي، حتى اليوم، هي تفوق اسرائيل الحاسم في جميع الميادين العلمية والتكنولوجية والاقتصادية والسياسية والعسكرية والاجتماعية، وغيرها، فلا مجال للمقارنة بين من وصل إلى القمر وبين من لا يزال يغرق في مستنقع التخلف الشامل. وبجردة حساب بسيطة، لو كنا نحسب، لوجدنا ان تكاليف الممانعة تجاه اسرائيل خلال نحو خمسة عقود كانت أكثر من كافية لإحداث نهضة حقيقية شاملة تمكننا من الاستغناء عن مصطلح "الممانعة" واستبداله بمصطلح "العين بالعين والبادي أظلم".
مع ذلك علي أن اعترف، رغم المهانة الكبيرة التي اشعر بها، ويشعر بها غيري من السوريين الحريصين على كرامة بلدهم وشعبهم، وهم يرون الاعتداءات الاسرائيلية شبه اليومية على بلدهم، قبل الأزمة وخلالها، إن في القول " سوف نرد في الوقت المناسب" كتعبير عن الممانعة، بما يعني فعلا عدم الرد، بعض الحكمة، حكمة الضعيف وليس المقتدر، فالرد على اعتداءات اسرائيل قد يجلب مزيدا من الدمار لمقدرات البلد والشعب، فهي الأقوى والأقدر.
وإذا كان مفهوم "الممانعة"، كما ذكرت اعلاه، قد اشتق أصلا بالعلاقة مع اسرائيل إلا أن النظام قد وجد له استخدامات أخرى عديدة في مجال علاقته مع شعبه، حيث يشغل في هذه العلاقة موقع المقتدر وليس الضعيف. كان عليه أن يحمي بلده وشعبه من هول الكارثة التي حلت بهما، من خلال تنفيذ الاصلاحات التي وعد الناس بها في بداية عهده الجديد، والاستجابة لمطالب الشعب بالتغيير الجذري والشامل للنظام السياسي بعد أن انتفض مطالبا به، بدلا من المساهمة في قيادته إليها. لست في وارد القيام بجردة مفصلة لتكاليف ممانعة النظام للاستجابة لمطالب كثير من السوريين الذين غصت بهم ساحات وميادين المدن والبلدات السورية خلال الأشهر الأولى من انطلاق انتفاضتهم، الأمر الذي اوصل البلد والشعب إلى ما هم فيه من ضعف ومهانة، بل سوف اكتفي ببعض المؤشرات الكلية.
في تقرير صادر عن البنك الدولي رصد معدو التقرير الخسائر الاقتصادية والاجتماعية وغيرها التي تعرضت لها سورية من جراء الحرب الدائرة فيها حتى بداية سنة 2017. بحسب التقرير فإن الخسائر التراكمية في رصيد رأس المال المادي بلغت 226 مليار دولار أي نحو أربعة أضعاف الناتج المحلي السوري في عام 2010 كما يقدره البنك. يشير التقرير أيضا إلى أن نحو 7% من المنازل في سورية قد تم تدميرها كلياً، إضافة إلى نحو 20% منها قد طاله التدمير الجزئي. يقدر معدو التقرير الخسائر البشرية بين 400 و470 ألف وفاة، عداك عن نزوح نصف سكان البلد عن أماكن سكنهم. وفي استقصاء معدو التقرير للمحرك الأقوى للآثار الاقتصادية الناجمة عن الصراع يجدونه في تعطل التنظيم الاقتصادي، وهو بحسب رأيهم يتجاوز حجم الأضرار المادية. لقد أدى الصراع إلى تدمير عوامل الإنتاج وإعاقة عمليات التواصل الاقتصادي بين مختلف المناطق السورية، بل حطم في كثير من الحالات الشبكات الاقتصادية والاجتماعية وسلاسل التوريد، مما حد كثيرا من الحوافز لمتابعة الأنشطة الاقتصادية. تقدر الخسائر الناجمة عن كل ذلك بما يتجاوز خسائر تدمير رأس المال بـ 20% في السنوات الأولى للصراع، وتسبب في تراجع الاستثمار بنحو 80% وذلك من جراء تزايد المخاطر وتراجع مؤشر الربحية.
من جهة أخرى تسببت العقوبات الدولية بتراجع الصادرات السورية بنسبة 92% بين عامي 2011 و2016. تشير التقديرات إلى أن العجز في الحساب الجاري قد بلغ نحو 28% من إجمالي الناتج المحلي في عام 2016، بعد أن كان لا يزيد عن 0.7% في عام 2010، وكان تمويل هذا العجز يتم من خلال السحب من احتياطات النقد الأجنبي التي كانت تقدر بنحو 21 مليار دولار في عام 2010، لتصير نحو مليار دولار في عام 2015. وانخفضت إيرادات الموازنة من نحو 23% من الناتج المحلي في عام 2010 إلى نحو 3% في عام 2015 وذلك بسبب تراجع عائدات النفط والضرائب وانهيار التجارة مع أهم الشركاء التجاريين بسبب العقوبات. ونتيجة لذلك، ارتفع الدبن العام الإجمالي من 30%من إجمالي الناتج المحلي عام 2010إلى 150% عام 2015. ومن أجل الحد من تفاقم عجز الميزانية خفضت الحكومة السورية الدعم لكثير من المنتجات فارتفعت أسعار زيت الوقود عشرة أضعاف في عام 2015 مقارنة بأسعارها في عام 2011، وارتفعت أسعار السكر والأرز بنحو2.3 ضعف خلال الفترة ذاتها.
لقد كانت الأضرار الناجمة عن الصراع بالغة على الأرواح البشرية نتيجة التشرد والمغادرة القسرية لمكان السكن والعمل. لقد تشرد أكثر من نصف السكان الذین كانوا یعیشون في سوریة قبل الصراع، ووفقا لمفوض الأمم المتحدة السامي لشؤون اللاجئين، فإن العدد الإجمالي للسوریین المسجلین حالیا كلاجئین خارج البلاد في لبنان وتركیا والأردن والعراق ومصر وشمال أفریقیا یبلغ 4.9ملیون. وبالإضافة إلى ذلك، فأن أكثر من 800ألف مواطن سوري طلبوا اللجوء في أوروبا في عامي 2015 و .2016. ولا تشمل هذه الأرقام حوالي 0.4ملیون إلى 1.1ملیون لاجئ سوري غیر مسجل في لبنان والأردن وتركیا والعراق. وبلغ عدد النازحین في الداخل نحو 5.7ملیون شخص في ینایر/كانون الثاني 2017، وظل نحو 56 % منهم داخل محافظاتهم . لقد كان أثر الصراع بالغا على معدلات الخصوبة، وعلى العمر المتوقع فتراجعت كثيراً.
يمكن القول أن التقرير يعطي صورة تقريبية عن المشهد الاقتصادي والاجتماعي في سورية خلال السنوات الست من الأزمة. يؤخذ على التقرير عدم دقة بعض المعطيات، والاستنتاجات. وهذا أمر متوقع نظرا لصعوبة الوصول إلى المعطيات الدقيقة بسبب ظروف الصراع، وإن الاعتماد على تقنيات الاستشعار عن بعد، ونماذج المحاكاة على أهميتها لا تغني عن المسح الميداني .
وبالعودة إلى التقرير فإننا الخسائر الاقتصادية التي يقدرها بنحو 226 مليار دولار لا تشمل سوى رأس المال المادي الذي تم تدميره ، وليس رأس المال المادي الذي تم تهجيره. فبحسب مصادر عديدة تم نقل الكثير من المصانع السورية ورؤوس الأموال إلى الخارج، وهي بحسب أقل التقديرات لا تقل عن نحو 50 مليار دولار. من جهة أخرى فإن الأرقام المتعلقة بالخسائر في الأرواح غير دقيقة، فعدد القتلى من مختلف الأطراف لا يقل عن 700ألف قتيل، عداك عن الجرحى المعاقين بسبب الصراع، واللذين لا يقل عددهم عن نحو 1.2 مليون شخص. هذه الخسائر البشرية سوف يترتب عليها مشكلات اجتماعية خطيرة في المستقبل لجهة إعادة التوازن بين عدد الذكور والإناث في المجتمع السوري. بحسب بعض التقديرات فإن أكثر من مليون أنثى في سن الزواج لن تجد فرصة للزواج. يضاف إليها خروج نحو أربعة ملايين طفل من دائرة التعليم، وهؤلاء سوف يشكلون عبء على المجتمع والاقتصاد في المستقبل. خسر المجتمع السوري واقتصاده أيضا كوادر عديدة تقدر بما لا يقل عن مليون شخص صرف عليها مليارات الدولارات لإعدادها وتأهيلها، عداك عن خسارة دورها في إعادة الإعمار.
لا يلحظ التقرير الخسائر غير المباشرة وهي تلك المتعلقة بإعادة الإعمار. من وجهة نظر فلسفة التنمية فإن جميع الأموال التي سوف تنفق على إعادة الإعمار، وتلافي الآثار الناجمة عن الصراع هي خسائر، فالصراع المسلح جعل نقطة الانطلاق في التنمية منخفضة جدا.
لا يلحظ التقرير أيضا الخسائر الناجمة عن تحطيم منظومة القيم العامة، وإعادة تكوين الشخصية السورية من منظور قيم استسهال العنف، والسرقة والخطف، والغش، عداك عن سوء التغذية الناجم عن ارتفاع الأسعار. أضف إلى كل ذلك فقدان سورية لاستقلالها السياسي وتوزيعها إلى مناطق نفوذ لعدد من الدول المتدخلة في شؤونها الداخلية، وانقسام السوريين بينها.
وإذ يقف التقرير عند نهاية عام 2016، فمن المنطقي القول ان الخسائر التي لحقت بسورية في مختلف نواحي الحياة قد ازدادت كثيرا في عام 2017، واستمرت بالزيادة في عام 2018، وسوف تستمر تزداد حتى يوضع نهاية لهذه الأزمة غير المسبوقة في التاريخ. ففي اخر تقرير لمنتدى دافوس لعام 2018 حول حصة الفرد من الدخل الوطني في دول العالم شغلت سورية المرتبة الأخيرة بنحو 479 دولار للفرد الواحد، وفي تقرير حول جودة التعليم ما قبل الجامعي خرجت سورية من التصنيف، اما في ما يتعلق بالتعليم الجامعي فقد شغلت الجامعات السورية المراتب الأخيرة عربيا. اليوم اكثر من 85% من الشعب السوري يعيش تحت خط الفقر، يفتقر إلى مقومات وجوده الأساسية. بحسب بعض الدراسات فإن الأسرة السورية المكونة من خمس أشخاص تحتاج إلى دخل يصل إلى 300 ألف ل.س لكي تعيش عند مستوى تأمين مستلزمات وجودها الرئيسة. لقد صار الدخل الاسمي للمواطن السوري يقاس بالكيلوغرامات من البندورة والبطاطا كنوع من التندر والدعابة في ظاهره، لكنه في حقيقته تعبير عن هول الكارثة التي وصلت إليها حياة السوريين هذه الأيام. لقد ارتفع مؤشر الأسعار أكثر من عشرين ضعفا في حين لم يرتفع مؤشر الدخل الاسمي أكثر من ضعف واحد.
يؤكد تقرير للأمم المتحدة أن سورية سوف تحتاج إلى نحو ثلاثين سنة لكي تعود إلى ما كانت عليه قبل الأزمة في عام 2010، هذا في حال تأمنت ظروف ملائمة محليا واقليميا ودوليا، يأتي في مقدمتها تغير النظام السياسي القائم. لقد قلنا مرارا، ولا يضير القول مرة أخرى أن العديد منالدول التي باستطاعتها مساعدة الشعب السوري على اعادة اعمار بلده( ومنها دول اوربية وعربية) اعلنت صراحة أنها لن تشارك في عملية إعادة الاعمار إذا بقي النظام السياسي على حاله دون تغيير جذري وشامل.
بصورة عامة، وعلى افتراض ان تسوية سياسية ما سوف يتم التوصل إليها في نهاية المطاف، سوف تحول النظام الاستبدادي القائم إلى نظام ديمقراطي، بما يشجع الدول المانحة على تقديم المساعدة في اعادة الاعمار، وهو افتراض أقرب إلى الرغبة والحلم منه للواقع، سوف تظل الحاجة ماسة لتأمين مجموعة من الشروط والظروف لجذب الاستثمارات المحلية والعربية والدولية إلى سورية. من هذه الشروط والظروف نذكر الآتي:
1-ينبغي خلق مناخ سياسي عام ملائم في الداخل، يعزز من قيم الحرية، والمسؤولية، وسيادة القانون، يؤدي إلى مزيد من الأمان، والاستقرار، والشعور بالطمأنينة.
2-ينبغي خلق الظروف التي تتيح لجميع فئات الشعب السوري المشاركة في عملية اعادة الاعمار،وفي مقدمة ذلك اعادة هيكلة الدولة على أساس اللامركزية ونقل الصلاحيات من المركز
إلى الوحدات الادارية.
3-ينبغي خلق مناخ سياسي ملائم في الخارج من خلال العمل على عودة العلاقات الطبيعية بين سورية والدول العربية، ودول الجوار الاقليمي بصورة خاصة، وبقية دول العالم بصورة عامة.
4-ينبغي تغيير النهج الاقتصادي القائم، على التدخل الحكومي الواسع، في الشأن الاقتصادي، واعتماد سياسات أكثر انفتاحاً.
5-ينبغي القيام بإصلاحات مؤسساتية عميقة، تطال البيئة التشريعية، والقضائية والإدارية، خصوصا لجهة حماية الملكية، والعقود، وتشجيع المبادرات، وتسهيل المعاملات، وتسوية المنازعات، وغيرها.
6- الاستمرار في تحفيز القطاع الخاص على الاستثمار، من خلال تحقيق الاستقرار الاقتصادي الكلي، وخلق فرص للاستثمار، وتطوير السياسة الضريبية، ونظام الجباية، وسياسة التمويل، وإصلاح النظام المصرفي.
7- ينبغي تشجيع الاستثمار في المجال البشري، وفي مجال التكنولوجيا، باعتبارهما مجالين محفزين للاستثمار، في المجالات الأخرى.
8-ومما له أهمية استثنائية، لجعل عجلة الاقتصاد تدور بسرعة، هو تحسين توزيع الدخل، وردم الفجوة الكبيرة، بين حصة الأجور والرواتب، وحصة الأرباح والريوع، من الناتج المحلي.
9-لا بد من التركيز، على تطوير الصناعة التحويلية، وعلى الزراعة، والكف عن تصدير المواد الخام، بما فيها النفط، لصالح إنشاء صناعة بترو كيميائية متنوعة، وصناعة غذائية، ونسيجية، موجهة نحو التصدير أساساً، ونحو إحلال الواردات اشتقاقاً.
10- قد يكون مفيداً، خلال السنوات الخمس القادمة، التركيز على المشروعات الصغيرة المكثفة للعمل، بهدف امتصاص قوة العمل العاطلة، وفي الوقت ذاته، التأسيس للاستثمار في مشروعات عالية التقانة، خصوصا في مجال الصناعات الثقيلة، التعدينية، والبتروكيميائية، وغيرها.
11-ينبغي تطوير القطاع السياحي، نظرا لأهميته الاستراتيجية، خصوصا، وإن سورية تتمتع بمزايا نسبية عديدة، وهامة، في مجال الصناعة السياحية، بكل أنواعها، وفروعها.
12- لا بد من اتخاذ إجراءات حاسمة، قانونية، وإدارية، للقضاء على ما يسمى باقتصاد الظل القائم اساسا على الفساد.