ما بين نيسان الانتفاضة ونيساننا الحاليّ


سعود قبيلات
الحوار المتمدن - العدد: 6205 - 2019 / 4 / 19 - 22:36
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     






«نيسان أقسى الشهور».. هكذا وصفه ت. إس. إليوت. ولكنّ نيسان 1989 الأردنيّ، رغم قسوته هو أيضاً، إلا أنَّه تحوَّل إلى ذكرى خالدة مجيدة؛ حيث مثَّلتْ انتفاضة نيسان 1989 حدثاً مفصليّاً مهمّا في تاريخ الدولة الحاليّة في الأردن؛ فبنتيجتها، كُشِفَ الغطاء عن بدء تآكل القاعدة الاجتماعيّة التقليديّة للنظام، وأوصل الشعب إلى النظام رسالةً قويّةً مفادها أنَّه لا يستطيع الاستمرار بالحكم بوساطة أسلوب الترهيب والقمع الفظّ المباشر والمنهجيّ الذي مارسه طوال مدّة الأحكام العرفيّة.

في فترة الأحكام العرفيّة، ألوف الناس زُجَّ بهم في السجون، ومُنِعوا من العمل والسفر، ولوحقوا، وطورِدوا، وتعرّضوا للتعذيب في زنازين المخابرات، وهُدِرَتْ كراماتهم، وسُلِبَت حقوقهم الإنسانيّة، وحُرِموا مِنْ حقوقهم كمواطنين، وفُرِضَتْ عليهم مصائر غير طبيعيّة. وألوف، مثلهم، اضطرّوا للعيش في المنافي تجنّباً لبطش السلطات.

ولذلك، فإنَّ كلّ مَنْ يعبِّر عن رأيه الآن بوضوح، ومَنْ يمارس دوراً نشيطاً في المعارضة، فلا تتعرّض حقوقه وحياته لكل تلك الانتهاكات الفظّة التي كانت تجري سابقاً، إنّما هو مدين بذلك لانتفاضة نيسان.

ولقد كشفت الانتفاضة، بالمقابل، أنَّ نضالات المعارضة اليساريّة وخطابها التقدّميّ الديمقراطيّ لم يذهبا سدى؛ فالناس عندما خرجت إلى الشارع، ابتداءً مِن معان التي لم يكن لليسار وجودٌ ملموسٌ فيها، لم تجد سوى شعارات اليسار ومطالبه لترفعها في وجه السلطة الحاكمة.

اندلعت الانتفاضة في 17 نيسان من العام 1989، وبدت مفاجئة للنظام وللمعارضة على السواء. ولكنّها، في الحقيقة، كانت حصيلة للسياسات الاقتصاديّة الليبراليّة التي كان النظام قد بدأ بانتهاجها قبل ذلك بسنوات، خصوصاً في عهد حكومة زيد الرفاعيّ؛ حيث تمًّ الشروع – آنذاك – ببيع ممتلكات القطاع الحكوميّ، وراحت المديونيّة تتزايد بشكلٍ مطّرد. ثمّ جاء هبوط سعر صرف الدينار إلى أقلّ مِنْ نصف قيمته السابقة بين ليلة وضحاها في تشرين الأوّل من العام 1988، ليزيد منسوب السخط والاحتقان لدى مختلف الفئات الشعبيّة. وفي 16 نيسان 1989، أعلنت حكومة زيد الرفاعيّ عن زيادة أسعار الوقود والموادّ الغذائيّة الأساسيّة، لتكون هذه هي الشعرة التي قصمت ظهر البعير.

وأستعيرُ، هنا، مِنْ موضوع للدكتور محمّد المناصير، عن انتفاضة نيسان، بعض أرقام رفع الأسعار التي قد تبدو طريفة الآن:

(أسطوانة الغاز مِنْ دينار و800 فلس إلى دينارين؛ لتر البنزين الخاصّ مِنْ 210 فلسات إلى 270 فلساً؛ لتر البنزين العاديّ مِنْ 180 فلساً إلى 220 فلساً؛ السولار والكاز مِنْ 65 فلساً إلى 75 فلساً.. الخ).

تزامنت هذه الإجراءات مع انتهاء حرب الخليج الأولى (بين العراق وبين إيران). ونعرف بأنَّ تلك الحرب جلبت العديد من المنافع الاقتصاديّة للنظام الحاكم في بلادنا ولبعض الفئات الاجتماعيّة؛ حيث تحوّل اعتماد العراق في تصديره واستيراده على ميناء العقبة (لذلك، كان طبيعيّاً أنْ تبدأ الانتفاضة باحتجاجات سائقي الشاحنات وسيّارات الأجرة في معان على رفع أسعار البنزين.. خصوصاً بعدما خسروا معظم عملهم في النقل بين الأردن وبين العراق). وتزامنت تلك الإجراءات الاقتصاديّة، أيضاً، مع إعلان فكّ الارتباط مع الضفّة الغربيّة في العام 1988؛ الأمر الذي ألقى ظلالاً كثيفة على مستقبل الدور الوظيفيّ للسلطة الحاكمة في ما يتعلّق بالقضيّة الفلسطينيّة.

اندلعت شرارة الانتفاضة في معان (وكان يتبع لها لواء العقبة، قبل تحوّله إلى محافظة)، ثم انتقلت إلى محيطها؛ ثمّ امتدّت إلى مدينة الطفيلة وقراها؛ ثمّ إلى الكرك وقراها؛ ثمّ إلى محافظة العاصمة (كان يتبع لها لواءا الزرقاء ومادبا، قبل أنْ يتحوَّلا إلى محافظتين)؛ وإلى محافظة البلقاء؛ ومحافظة إربد (كان يتبع لها لواءا جرش وعجلون قبل أنْ يتحوّلا إلى محافظتين)؛ ومحافظة المفرق.

وكانت شعارات الانتفاضة في البداية معيشيّة اقتصاديّة؛ لكنّها سرعان ما أصبحت سياسيّة تطالب بالحريات العامّة وإسقاط الحكومة وبقانون للأحزاب وإلغاء الأحكام العرفيّة.

الشرائح التي خرجت إلى الشارع – آنذاك – هي تلك التي كان النظام قد دمّر نمط معيشتها، فتحوّلت من الاعتماد على الإنتاج الزراعيّ إلى الاعتماد على الوظيفة الحكوميّة أو العمل في هيئات القطاع العامّ، وبعد برامج الخصخصة والهيكلة وجدت نفسها على الرصيف وبلا مصدر رزق.

كيف واجه النظام الانتفاضة؟
واجه النظام الانتفاضة بقدرٍ كبير من الشدّة والعنف، واستخدم القوّات الأمنيّة بمختلف أنواعها لإخمادها؛ وفرض حظر التجوّل على مدينة معان، ونشر الحواجز الأمنيّة على مداخل المدن التي شهدت احتجاجات، وشنًّ حملة اعتقالات واسعة شملت العديد من المشاركين في الاحتجاجات، كما شملت كوادر الأحزاب اليساريّة والقوميّة وأبرز أنصارها.. مَنْ شارك منهم في الاحتجاجات ومَنْ لم يشارك؛ حيث بلغ عدد المعتقلين مِنْ محافظة معان وحدها 500 معتقلاً كانوا جميعهم تقريباً مِنْ خارج الأحزاب السياسيّة، وكان قسماً كبيراً منهم أطفالاً وقد تمّ التعامل معهم بأساليب قمعيّة فظّة قُصِدَ بها إذلالهم والحطِّ مِنْ كراماتهم مِنْ دون أيّ مراعاة لطفولتهم.

أقتبس، هنا، هذه الشهادة مِنْ أحد معتقلي انتفاضة نيسان كتبها بعد مدّة طويلة مِنْ ذلك التاريخ. يقول:

«ولا أنسى أنه بينما أفراد الأمن كانوا يسوقون مجموعة جلّها من أطفال معان، الذين خيّم الخوف والذهول على وجوههم، كان هناك طفل دون العاشرة بسنوات (ولم يكن الوحيد بهذا العمر) تأخر في المسير عن الجميع، وقد اعتراه الذعر وراح ينادي أمه مستغيثاً، بينما هو يبكي (طفل. ماذا بوسعكم أن تقولوا..!؟)؛ ولا داعي لذكر طريقة التعامل معه، لأنها في كل الأحوال لن تكون مناسبة للتعامل مع طفل مكانه الروضة لا سجن سواقة الصحراوي، ويفترض أن تتعامل معه "مس" رقيقة لا سجان متغطرس!»

وهذا في حين كان أغلب معتقلي الكرك حزبيين أو نشطاء سياسيين، وقد بلغ عددهم 47 معتقلاً. والأمر نفسه ينطبق على معتقلي إربد وقد بلغ عددهم 66 معتقلاً.. ثلثهم تقريباً مِنْ طلبة جامعتي اليرموك والعلوم والتكنولوجيا؛ كما ينطبق أيضاً على معتقليْ محافظة العاصمة (وكانت تتبع لها – آنذاك – كما أشرنا أعلاه، مادبا والزرقاء وقراهما)، وبلغ عددهم 82 معتقلاً. وبلغ عدد المعتقلين من السلط ومحيطها، خصوصاً الفحيص، ثمانية معتقلين.

وكان عدد المعتقلين المسيّسين حوالي 117 معتقلاً؛ حوالي 68 منهم كانوا أعضاء في الحزب الشيوعيّ الأردنيّ.. وهذا عدا عن أعدادٍ كبيرة من المطلوبين والمطاردين الذين فشلتْ محاولات اعتقالهم بالصدفة (وكاتب هذه السطور كان أحد هؤلاء. وهذه قصّة أخرى أنوي أنْ أرويها في وقتٍ لاحق).

غير أنَّ مَنْ يجب أنْ يحظى دائماً بأكبر الاهتمام والامتنان والتقدير هم الشهداء الذين بذلوا دماءهم في هذه الانتفاضة على مذبح حقوق الشعب الأردنيّ الوطنيّة والاجتماعيّة والسياسيّة والإنسانيّة، وهم يستحقّون منّا أنْ نستذكر أسماءهم في كلّ مناسبة لها علاقة بكفاح الشعب الأردنيّ مِنْ أجل الحريّة والديمقراطيّة والتقدّم الاجتماعيّ.

وهم:
من الكرك: يعقوب سليمان قطاونة، وإبراهيم مطيع قطاونة؛

ومن الطفيلة: محمد العوران؛

ومن معان: أحمد حسين السعودي، وسامي الرواد، وعمر أبو رخية، وسليمان تيم أبو هلالة، ويحيى مرزوق عبكل آل خطّاب، ومحمود النسعة، وصقر علي هويمل الخطيب، وهارون أبو حيانة، وعامر كريشان؛

ومن الحسينيّة: رافع مليح العودات، وعوض طاهر الحجايا.

وهذا عدا عن مئات الجرحى، الذين لا تتوفّر أسماؤهم أو معلومات وافية عنهم، مع الأسف.

هؤلاء الشهداء والجرحى تتجاهلهم السلطة الحاكمة، وأحزاب المعارضة أيضاً.. مع الأسف! وهذا يقودنا إلى مسألة أخرى أساسيّة، وهي أنَّ الانفراج* السياسيّ الذي حدث في البلاد بعد انتفاضة نيسان، لم ينطوِ على اعتراف من السلطة الحاكمة بما اقترفته من انتهاكاتٍ كبيرة لحقوق الإنسان خلال عقودٍ طويلة. وبناء عليه، فهي لم تتحمّل مسؤوليّة هذه الانتهاكات وتبعاتها.. من التعويضات المادّيّة والمعنويّة وما إلى ذلك.. مثلما فعلت بلدان أخرى عديدة.. منها المغرب وجنوب إفريقيا وعدد مِنْ بلدان أميركا اللاتينيّة.. في إطار ما عُرِفَ بعمليّة «الحقيقة والمصالحة».

وأحد أسباب هذا الخلل، هو أنَّ أحزاب المعارضة لم تضع هذا الأمر على جدول أعمال نضالاتها ومطالباتها.. خصوصاً في لحظة التحوّل الحاسمة التي أعقبت انتفاضة 1989. وبدلاً مِنْ ذلك، توافقت مع النظام (ضمناً على الأقلّ) على مبدأ طيّ الصفحة وعفا الله عمّا سبق، مكتفيةً منه بتفضّله بمنحها تراخيص للعمل العلنيّ شاكرةً ممتنّة. الأمر الذي سرعان ما شجّع النظام على العودة إلى أساليبه القمعيّة السابقة المدانة، كلّما صادف فعل معارضةٍ جدّيّ. ولا تزال ملفّات جميع المعارضين السابقين والحاليين مفتوحة حتّى الآن.. بدلاً مِنْ إغلاقها وفتح ملفّات أخرى لكلّ الذين كانوا مسؤولين عن سياسات التجاوز على حقوق الإنسان وحقوق المواطن.

ونعود إلى ردود فعل النظام على الانتفاضة: إلى جانب القمع، ما لبث النظام أنْ وجّه بعض الإشارات التي تفيد بأنّه ينوي تقديم عددٍ من التنازلات التي تستجيب لمطالب الانتفاضة والقوى الوطنيّة والتقدّميّة. فقد كان الملك حسين – آنذاك – في زيارة لواشنطن مع رئيس وزرائه زيد الرفاعيّ، فسارع بالعودة، وفي مطار عمّان نقل الإعلام صورة لاستقباله مِنْ دون أنْ يظهر رئيس وزرائه معه. ثمّ في خطابٍ له نقله التلفزيون الرسميّ مساء يوم 26 نيسان 1989 وعد الملك بإجراء مراجعة شاملة ومعالجة جذريّة لأسباب الاستياء والاحتجاج، وإجراء انتخابات نيابيّة مِنْ شأنها أن تقوِّي أسس المشاركة الشعبيّة، كما وعد باستخلاص النتائج والعبر من الأحداث التي شهدتها البلاد.

ونعرف جميعاً العمليّة التي جرت بعد ذلك. ومِنْ أبرز محطّاتها، المبادرة إلى إلغاء عددٍ من الإجراءات العرفيّة التعسّفيّة؛ حيث تمّ الإفراج عن جميع جوازات السفر المحجوزة، وإلغاء قرارات منع السفر، وإعادة المفصولين لأسباب سياسيّة إلى أعمالهم.

بعد ذلك، أُجرِيَت الانتخابات النيابيّة، فأوصلت عدداً من المحسوبين على المعارضة إلى البرلمان؛ ثمَّ جرى إلغاء الأحكام العرفيّة وقانون مكافحة الشيوعيّة، ووُضع قانون لترخيص الأحزاب، وشُكِّلَت لجنة مِنْ مائة شخصيّة لصياغة ما سُمّي «الميثاق الوطنيّ». نتج عن أعمالها في النهاية نصٌّ إنشائيٌّ فضفاض لم يرقَ إلى مستوى الصيغة الميثاقيّة وبقي حبراً على ورق. أمّا مطالب الانتفاضة الاجتماعيّة والاقتصاديّة فقد تمّ تجاهلها. وعلى النقيض مِنْ ذلك، بقي نهج التبعيّة على حاله، بل إنّه تعمّق وتوطّد مع هيمنة أنصار الليبراليّة المتوحّشة على كلّ مفاصل السلطة. وسرعان ما انخرط النظام في التسوية السياسيّة مع العدوّ الصهيونيّ إلى أنْ وصل إلى «وادي عربة» سيّئة الصيت التي وضعت البلاد تحت الهيمنة الإسرائيليّة المباشرة.

والآن..
إذا كانت انتفاضة نيسان قد كشفت بدء اهتراء القاعدة الاجتماعيّة للنظام وأنّه لم يعد قادراً على الاستمرار بإخضاع الناس بأساليب القمع الفظ المباشر، فإنّ الحراك الحاليّ الشعبيّ قد كشف أنّ القاعدة الاجتماعيّة للنظام أصبحت في الحضيض. وهذا بغضّ النظر عن الحجم المحدود لمشاركة الناس في فعاليّات الحراك.

وأبعد مِنْ ذلك، كشف الحِراك الحاليّ بأنّ نهج التبعيّة والشكل الأوتوقراطيّ المستحكم للنظام أصبحا موضع معارضة متصاعدة مِنْ أوسع قطاعات المجتمع الأردنيّ.

لقد تمّ العبث بدستور 1952، رغم كلّ نواقصه، بشكلٍ منهجيّ، طوال العقود التي تلت انقلاب القصر على حكومة سليمان النابلسي الوطنيّة.. الحكومة الوحيدة في التاريخ الأردنيّ التي انبثقت مِنْ برلمان منتخب انتخاباً نزيهاً. وجاءت التعديلات الأخيرة التي أُجرِيَتْ على الدستور لتفرغه مِنْ روحه، وليصبح نصّه على أنَّ «الأمّة مصدر السلطات» كلاماً بلا معنى.

على أيّة حال، سابقاً كان النظام أوتوقراطيّاً بحكم الأمر الواقع؛ أمَّا بعد التعديلات الدستوريّة الأخيرة، فأصبح أوتوقراطيّاً بالنصّ الدستوريّ أيضاً. وهكذا، فالملك يمسك بيده جميع السلطات والصلاحيّات، كما أنَّ عدد موظّفي الديوان الملكيّ بالآلاف، وهم يُملون سياساتهم وقراراتهم على جميع أجهزة الدولة. ما يعني أنّهم أصبحوا دولة فوق الدولة. أمّا الحكومات والنوّاب فهم مجرّد واجهات وأقنعة لم تعد تستر شيئاً.

خارج التاريخ والعصر
أثناء إعدادي لهذه الورقة، خطر لي أنْ أتقصّى عن الأنظمة الملكيّة وما يماثلها الموجودة حاليّاً في العالم، فوجدت أنَّ عددها واحدٌ وأربعون نظاماً؛ منها نظام إمبراطوري واحد في اليابان، ودوقيّة واحدة في لكسمبورغ، وستّ إمارات، وسلطنتان، وواحدٌ وثلاثون مملكة. ووجدتُ أنًّ اثنين وثلاثين مِنْ هذه الأنظمة أصبح ميراثها الأرستقراطيّ مجرّد فلكلور، وأصبح دور رأس الدولة فيها فخريّاً ورمزيّاً.. أي بلا سلطات تنفيذيّة وبصلاحيّات بروتوكوليّة فقط، وأنَّ مَنْ يتولّى السلطات التنفيذيّة فيها هو الحكومات المنبثقة مِنْ مجالس نيابيّة منتخبة. وهذا في حين أنَّ الدول التسعة الباقية هي دولٌ أوتوقراطيّة قروسطيّة، وهي دول الخليج والأردن وسلطنه بروناي.

هل نحن في ذيل العالم؟

لا أظنّ ذلك. مَنْ هم في ذيل العالم فعلاً هم أولئك الذين يفرضون بالقوّة على بلدانهم وشعوبهم هذا النمط القروسطيّ من الحكم الذي تتحوّل الشعوب فيه مِنْ مواطنين إلى رعايا، والحكّام مِنْ خُدّام للشعوب والدول إلى أسياد لهما، والولاء مِنْ كونه واجباً على الحاكم للوطن والشعب إلى كونه واجباً على الشعب للحاكم.

وبالنسبة لشعبنا الأردنيّ، فهو، مثل كلّ الشعوب الحيّة، يستحقّ أنْ يُحكم بطريقة عصريّة وديمقراطيّة متحضّرة، بل بشكلٍ أدقّ: مِنْ حقِّه أنْ يستردّ بلده ويحكم نفسه بنفسه؛ فهذا الشعب دأب، منذ أوائل عشرينيّات القرن الماضي، أي منذ تأسيس الدولة الحاليّة في الأردن، على النضال مِنْ أجل أنْ تقوم في بلاده سلطة وطنيّة ديمقراطيّة متحرِّرة مِنْ قيود التبعيّة والاستبداد. وفي الميثاق الوطنيّ الأردنيّ الذي صدر عن المؤتمر الوطنيّ الأردنيّ الأوّل في العام 1928، برهانٌ ساطع على هذه الطموحات والأحلام الموءودة.

كيف يتعامل النظام مع الحِراك الحاليّ؟
يحاول النظام الالتفاف على الحراك الحاليّ، بالأساليب القمعيّة القديمة.. كاعتقال بعض نشطائه، وممارسة الضغط عليهم لدفعهم إلى التراجع، وفصل بعضهم من العمل، وحشد مجموعات «الولاء والانتماء» لتأكيد ولائها وانتمائها للحكم.. وكأنّها أبدت في يومٍ من الأيّام غير ذلك!

ولكن، رغم كلّ ذلك، يلفت النظر تميّز الحراك بالمثابرة والصلابة وطول النفس، رغم محدوديّة عدد المشاركين فيه ورغم استنكاف الأحزاب عن المشاركة الكثيفة في فعاليّاته، وقلّة مشاركة ذوي الخبرة السياسيّة فيه.

وبالمقابل، يلفت النظر، أنَّ مهرجانات «الولاء والانتماء» (الولاء والانتماء للسلطة طبعاً، وليس للوطن) التي سعت السلطات إلى إقامتها ضدّ الحراك، قد فشلت فشلاً ذريعاً في التأثير على الحراكيين، كما أنَّها فشلت فشلاً كبيراً في حشد أعداد كافية من المشاركين فيها.

على أيّة حال، أخشى أنَّه إذا لم تتمّ الاستجابة لاشتراطات الواقع الجديد المحيط بنا، وإذا استمرّتْ بالمعيّة السياسات الاقتصاديّة الاجتماعيّة المعاديّة للأغلبيّة الشعبيّة، فإنَّنا مقبلون على كارثة. أقول كارثة وليس تغييراً؛ لأنَّ النظام قام خلال عقودٍ طويلة بتجريف الحياة السياسيّة بشكلٍ ممنهج، وحرم الشعب الأردنيّ مِنْ وجود قوى وطنيّة فاعلة وحركة وطنيّة ناضجة تقوده إلى التغيير وفق برنامج علميّ مدروس. الأمر الذي سيجعل هذا الاحتقان المتفاقم في صدور الناس ينتهي بانفجارٍ يقود إلى الفوضى وليس إلى التغيير. والأمل معقودٌ على أنْ يتطوّر الحِراك، فيسدّ شيئاً مِنْ هذه الثغرة القاتلة ويدرأ الكارثة. كما لا يزال ثمّة أمل بأنْ يدرك الوطنيّون والتقدّميّون المهمّات الوطنيّة الضروريّة الملقاة على عواتقهم، فيضطلعون بها بكلّ ما يملكون مِنْ شجاعة وشعور بالمسؤوليّة.

ولهذا بالذّات، نحافظ على انتظام وقفة «الدوّار الرابع» (سواء أكثر عدد المشاركين فيها أم قلّ)، لتكون عنواناً للتغيير الديمقراطيّ يمكن أنْ يقصده الناس في لحظة الانفجار المتوقّعة.. بدلاً مِنْ أنْ يذهبوا إلى الفوضى.

في الذكرى السنويَّة الثلاثين لانتفاضة نيسان المجيدة، ننحني بإجلالٍ كبير لعظمتها، ونكتب بمداد المجد أسماء شهدائها وجرحاها على طيَّات قلوبنا وعلى شغاف أرواحنا، ونستذكر بتقديرٍ عالٍ تضحيات الناس الذين دفعوا أثماناً باهظة خلالها.. بل وقبلها أيضاً، مِنْ أجل حريّتنا وكرامتنا جميعاً وحقوقنا ومستقبل بلدنا والأجيال الحاليَّة والأجيال القادمة. بل مِنْ أجل أنْ لا تكون هناك حاجة، مطلقاً، للشجاعة أو للبطولة، كلّما أردنا أنْ نقوم بفعلٍ سياسيٍّ عاديٍّ وبسيط، وكلّما مارسنا بعض حقوقنا الطبيعيَّة المشروعة.

وعلى رأي بريخت: بئس الوطن الذي يحتاج إلى أبطال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* سُمِّي زوراً بالديمقراطيّة.