حول السودان والجزائر .


فريد العليبي
الحوار المتمدن - العدد: 6200 - 2019 / 4 / 13 - 18:40
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

حتى لا يسقط السقف .‏
يبدو أن الانتفاضات العربية لم تدرك بعد نهايتها ، فقد انقضت حتى الآن قرابة تسع ‏سنوات على انطلاقها في سيدي بوزيد التونسية ، وفي كل مرة ساد الاعتقاد فيها أنها قد ‏أكملت دورتها ، ودفنت نهائيا ، إلا وتفجرت مجددا لتشمل أقطار جديدة ، وفي آخر ‏العنقود نشهد الآن حبتيها السودانية والجزائرية ، فالأمواج البشرية الهادرة تملأ الساحات ‏والشوارع في العاصمتين ، الخرطوم والجزائر ، ومدن وقرى كثيرة أخرى ، وترفع ‏الرايات والشعارات ، وتتلى الخطابات ، وتعزف الموسيقى وتصدح الأناشيد والأهازيج ‏، وتتردد الأصداء في بقية الأقطار ، كما في العالم كله.‏
ومثلما كان عليه الحال في تونس سنة 2010 فإن مفجر الأحداث في الجزائر والسودان ‏سنة 2019 هو نفسه ، ونعني أزمة سياسية مستفحلة ، مظهرها الاستبداد ، وجوهرها ‏أوضاع اقتصادية بائسة ، فقد ترهل النظام السياسي العربي برمته ، وبلغ شيخوخته ‏وأضحى عاجزا عن مسايرة التاريخ ، فقد ولى زمانه ، ولكن المفارقة أنه لم " يفهم " ‏ذلك إلا وأصوات المنتفضين تحاصره وتكاد تكتم أنفاسه.‏
و قد حاول ذلك النظام في كل مرة فاجأته فيها الأحداث تقديم تنازلات لحل المعضلة ‏الاقتصادية السياسية ، ولكنه كان يفعل ذلك في غير أوانه ، فكانت محاولاته فاقدة لكل ‏قيمة ، مما عمق الهوة بينه وبين المنتفضين ، الذين رددوا في سرهم وعلنهم تلك ‏الكلمات : لن نرضى بغير الرحيل .‏
واليوم يتفتت ذلك النظام في الجزائر والسودان ، كما بالأمس في تونس وليبيا ومصر ‏واليمن ، وينقسم على نفسه ظاهريا على الأقل ، فبينما تضعف قبضة السلطة السياسية ‏تقوى قبضة السلطة العسكرية ، مصورة نفسها باعتبارها من يحمى المنتفضين والبلد ‏بأكمله وكثيرا ما تحتمي الجماهير بالجيش وتدعوه الى لعب دوره في إزاحة الحكام ‏الفاسدين المستبدين . وإذا كانت الانتفاضات السابقة قد اصطدمت بقمع شرس فإنها الآن ‏تجري في ظل قمع أقل شراسة ، فالنظام السياسي العربي رغم كسله قد تعلم ولو متأخرا ‏أن طريق القمع مسدود . ‏
وفي الجانب الآخر من اللوحة ، نرى منتفضين مفعمين بالشجاعة وحب الوطن ، ‏يملؤهم الأمل ، مستعدين للتضحية بكل شئ في سبيل المستقبل ، نساء ورجالا ، صغارا ‏وكبارا ، فليس لهم ما يخسرونه غير البطالة والفقر والمرض ، وإذا كانت عواطفهم ‏جياشة متقدة فإن أفكارهم ظلت أقل حيوية ، مما مكن في أحيان كثيرة مستبدين جددا من ‏مخاتلتهم وخداعهم ، مستثمرين تلك العواطف لصالحهم ،عازفين على أوتار الدين ‏والطائفة والعشيرة والمذهب ، مما ولد الانقسامات والفتن ، فسقط السقف في أكثر من ‏قطر عربي على الحكام والمحكومين في نفس الوقت . ‏
واليوم يتعلم المنتفضون في الجزائر والسودان في كل يوم دروسا جديدة ، ويخطون ‏خلاصة تجاربهم في كتاب الانتفاضات ، مستفيدين من الأحداث التونسية والمصرية ‏والليبية واليمنية والسورية الخ ... مبرهنين أن النظام السياسي العربي ليس وحده من ‏يتعلم ، وإنما هم أيضا يفعلون ذلك ، وقد كانت الدروس قاسية للطرفين ، وعندما ‏يدركون أهمية الفكرة للثورة سينتقل معهم الوطن العربي كله الى لحظة أخرى ، ‏وسيترك الظلام مكانه لكي تكبر دائرة الضوء أكثر فأكثر ، ولن يجد المستبدون ‏الجدد بعدها ما يستثمرونه ، كما ستتبخر أحلام المستعمرين ، ولن يسقط وقتها سقف ‏الوطن على أحد ، وسوف يحاسب تحته بالعدل كل من أساء إليه وباع جزءا من أجزائه ، ‏فالثورة ليست شعارا فقط ، وإنما هي فكرة أيضا ، تنير دروب الحياة . ‏
‏ ‏

تصريح صحفي حول الوضع في الجزائر :

لا يزال التوتر السياسي سائدا في الجزائر على خلفية الأزمة السياسية التي فجرها ‏الموعد الانتخابي وتقديم بوتفليقة لترشحة لعهدة جديدة ولم تفلح حتى الآن التنازلات ‏التي قدمتها السلطة في خفض منسوب ذلك التوتر وحتى استقالة بوتفليقة لم يكن لها الأثر ‏الكبير في هذا المجال فالحركة الاحتجاجية رفعت من سقف مطالبها لكي تقول أن الحل ‏يكمن في تغيير النظام برمته وقد نجحت الى حد ما في المحافظة على تماسكها ‏وديمومتها غير أنها ظلت حتى الآن مفتقرة الى التنظيم ووضوح الأهداف وإحكام ‏أساليب العمل بما يطرح ظلالا من الشك حول نجاحها على المدى الاستراتيجي .‏
و يدور الصراع في الجزائر رئيسيا بين الشعب من جهة والنظام السياسي من جهة ‏ثانية غير ان موازين القوى لا تزال راجحة لفائدة الطرف الثاني الذي لا تمثله فقط ‏السلطة السياسية وإنما أيضا السلطة العسكرية والأمنية فضلا عن السلطة الاقتصادية ‏وبيد تلك السلطات الكثير من الأوراق التي لم تستعمل بعد وهي جاهزة لكي تدخل ‏ميدان المعركة في حال شعر النظام الجزائري بتهديد استراتيجي واللافت أنه عندما ‏تحركت قوات مغربية الى الحدود مع الجزائر سرعان ما رد الجيش الجزائري بتنظيم ‏مناورات عسكرية بالذخيرة الحية شاركت فيها مختلف التشكيلات العسكرية .‏
والى جانب ذلك هناك صراعات أخرى ، ومنها صراع القوى الامبريالية على الجزائر ‏التي يمنى كل طرف منها النفس باستثمار ما يجري لصالحه في بلد غني بثرواته النفطية ‏وموقعه الاستراتيجي في خارطة العالم فضلا عن صراع قوى عربية واقليمية للغرض ‏نفسه .‏
و في معترك هذا الصراع يحاول الاسلام السياسي والليبراليون وقوى أخري ذات ‏ايديولوجيات عرقية الاستفادة من الحضور الجماهيري الواسع وتوجيهه الى هذه الناحية ‏أو تلك و يمكن تفجير التناقضات المتحكمة بالعلاقة بين تلك القوى بسهولة في حال ‏وجد النظام الجزائري مصلحة في ذلك ولكنه لم يلجأ الى هذا الاسلوب حتى الآن لادراكه ‏مخاطره في بلد اكتوى بنار ما أصطلح عليه بالعشرية السوداء، بما يفتح المجال أما ‏القوى الدولية والعربية والاقليمية التي تحدثنا عنها فتعمل على تغذيته واستثماره وهو ما ‏سيرتد على الجزائر بأسرها ولن يفلت من تداعياته أجوارها .‏
ومن هنا نخلص الى أن الحدث الجزائري لا يزال تحت السيطرة وان التنازلات التي ‏أقدم عليها النظام كانت في جانب منها اختيارية لذلك يجري ترميم النظام بالنظام نفسه ‏وسيتواصل هذا العمل خلال الأشهر القليلة القادمة .
جريدة المجهر التونسية .