سمير أمين: في نقد حلم انكسر  


عصام الخفاجي
2020 / 8 / 12 - 23:51     

 نشر الموضوع لاول مرة في 2019 / 4 / 8

دُفن سمير أمين حيث يليق به، في مقبرة بير لاشيز التي تضم رفاة مناضلي كوميونة باريس 1870. هنا يرقد عشرات الثوريين ممن وقفوا أمام فرق الإعدام بعد أن هُزمت ثورتهم التي أقامت لبضعة أشهر أول "سلطة نافية للسلطة" في التاريخ، سلطة تقضي على الدولة لتقيم محلّها سلطة الكوميونات، سلطة التجمّعات الطوعية للعمال والكادحين التي تتولّى إدارة شؤون المجتمع بشكل مساواتي، سلطة لم يهزمها غير استدعاء الحاكم "الوطني" الإمبراطور لويس بونابرت (إبن أخ نابليون بونابرت) لجيش الدولة الألمانية التي لم يمض على تأسيسها غير عقدين من الزمن لكي تحتل بلده وتقضي على أولئك الحالمين الفوضويين.
أن يرقد مفكّر مناضل (ولعل سمير كان يفضّل أن أقدم صفة "المناضل" على "المفكّر") إلى جانب مناضلين ليست الرمزية الأهم هنا. عشرات من أحبّتي من شتى الجنسيات دُفنوا (أو أوصوا بدفنهم) هنا أو في مقبرة هايغايت في لندن حيث يرقد كارل ماركس. رمزية رقود سمير في بير لاشيز تكمن في كونه مناضلا تشارك مع أبطال الكوميونة في حلم لم يكن مؤسّسا على واقع. لا الشروط المادية- الإقتصادية ولا وعي البشر كانا مؤهّلين لإقامة مجتمع كهذا. كأن هايغايت وبيرلاشيز رمزين لرفقة متصارعة. الثوري كارل ماركس حذّر ثورّيي الكوميونة: لم تحن شروط الثورة بعد. لكنه، إذ ثار شيوعيو باريس، وقف بكل طاقته معهم.
وهكذا هي علاقتي مع سمير. تناوس ٌبين رؤية هايغايت ورؤية بير لاشيز: حلم نتشارك فيه حول ضرورة وحتمية تجاوز الرأسمالية كمنظومة علاقات استغلال. تبنّينا، سمير وأنا، منهج التفكير المادي التاريخي (الماركسي وفق التعبير الشائع)، اعتنقنا معا رؤى رافضة للماركسية السوفييتية، انتمينا إلى تيّار لم تكن له الغلبة في أوساط اليسار يرى أن أن نظم الإستبداد القومية (الناصرية والبعثية وغيرها) تبني نظم استغلال طبقي جديدة لا نظما اشتراكية، رفضنا التطويب السوفييتي لتلك النظم.
لكنّنا اختلفنا على كل ماعدا ذاك. وماعدا ذاك، إذن سيسأل القارئ؟ "ماعدا ذاك" هو جسم هائل من التنوّع في صفوف اليسار، أنتج صراعات فكرية وسياسية حادة، لكنه أنتج أيضا حراكا فكريا شديد العمق أغنى الفكر الإنساني وتأثرت به معظم التيارات الغربية يمينا ويسارا، صراعات تبدأ من النظرية وتنتهي بالرؤى السياسية.
يبدأ الخلاف من رؤية التيار الفكري الذي انتمى إليه سمير لواقع العالم الرأسمالي وموقع بلدان العالم الثالث فيه، ليتفرع إلى تفسير إمكانات تطورها وآفاقه، وصولا إلى التساؤل عن معنى الحديث عن سيطرة الرأسمالية وكيفية تجاوزها نحو نظام أكثر عدالة.
لوهلة من الزمن سبقت انهيار الإتحاد السوفييتي بسنوات، بدت تلك الأسئلة ساذجة. كان ثمة احساس خلال ثمانينات وتسعينات القرن الماضي بأن تلك الأسئلة ومن انهمكوا في محاولة الإجابة عليها باتت تراثا قد يُحتفى به لكن مكانه هو كتب تاريخ الفكر وعليه أن يغادر مسرح النقاشات النظرية والسياسية المعاصرة. إحساس نتج عن الشعور اليميني واللبرالي الظافر بأن عصر الإشتراكية والتفكير الإشتراكي قد انتهى وأن التجارب السوفييتية والصينية وغيرها كانت لحظة عابرة في التاريخ.لا شك أن كثيرا من أسئلتنا باتت من مخلّفات الماضي حقا، وهي إذ نتأملها من منظارنا المعاصر لا منظار عقد الستينات الثوري، ساذجة مثلما هي الأجوبة عنها.
لكن أسئلة اليسار الجوهرية ظلت قائمة وعادت لتلهب حماس قطاعات واسعة من سكّان كوكبنا اليوم: من المسؤول عن الأزمات التي هزّت العالم منذ 2008؟ وعن اتساع الفجوة بين الدخول خلال ربع القرن الأخير؟ أين يكمن الخلل في نظامنا القائم؟ كيف نفسره؟ بل كيف نفسّر النظام القائم؟ ما الذي يستدعي التغيير فيه؟ كيف نغيّر؟ وما الذي نريد أن نقيم بديلا عنه؟ لم يكن يورغن هابرماس، إذن، مخطئا حين أعلن بأن "شبح ماركس سيظل شاخصا فوقنا" حتى بعد سقوط التجارب التي أرست مشروعيتها على فكره.
 
معرفة سمير
لعلها مفارقة أن يكون انتماء سمير وانتمائي إلى مدارس اليسار الثوري فكريا سببا في تأخر تعرّفي عليه شخصيا. كانت أولى عباراته حين التقينا أوائل التسعينات: C’est la malédictiction d’etre un militant إنها لعنة أن تكون مناضلا!
تمثّلت "اللعنة" في أن بلدانا عدّة كانت تمنع دخول أحدنا، وأخرى كانت تنظر بريبة إلى جوازات السفر التي نحملها، وأخرى... وأخرى. لحقت تلك اللعنة بسمير قبل أن تلحقني بعقدين على الأقل. فسمير ينتمي إلى جيل أساتذتي وبيني وبينه عشرين عاما. كان وطنه، مصر، محرّما عليه. لم يتطلّب الأمر جهدا كبيرا من أجهزة الأمن المصرية، ذات الخبرة العريقة في ميدانها، لكي تحدّد أن "حسن رياض" مؤلف كتاب "مصر الناصرية" L’egypte nasserienne لم يكن غير سمير أمين، ذاك الشاب الذي ذهب لدراسة الدكتوراه في فرنسا وكان له سجل أحمر كعضو في تنظيم "الراية" الشيوعي المصري الذي خالف التيار السائد في الحركة الشيوعية المصرية، أي "حدتو" (الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني) وبنى تحليلاته للوضع المصري على أساس أن ثورة 23 يوليو 1952 لم تكن غير انقلاب فاشي. فكيف نلتقي؟
كان عمري ثلاثين عاما حين فوجئت بأن سمير أمين رشّحني للمساهمة، إلى جانب أسماء كبيرة لامعة، في مشروع بحثي كبير عنوانه "المستقبلات العربية البديلة". أشرف عليه منتدى العالم الثالث الذي كان يديره من السنغال. كان قد تعرّف على اسمي بفضل أحد أبرز اقتصاديي مصر، د. محمود عبد الفضيل، الذي خصص صفحتين من كتاب له حول جديد الفكر الإقتصادي العربي لعرض عمل لي نشرته قبل عام. لكن مساهمتي في المشروع لم تكن لتشفع لي لكي أتمكّن من لقائه. فقد كنت منفيا في بيروت الحرب الأهلية أتنقل بجواز سفر صادر عن دولة "تثير الريبة" لأن نظامها السياسي يعتنق الماركسية هي جمهورية اليمن الديمقراطية (أي الجنوبية قبل وحدتها مع اليمن).
كان عليّ انتظار عقد من الزمن لكي تتاح لنا فرصة اللقاء، حين دعوته بصفتي محرّرا لكتاب دوري متخصص في العلوم الإجتماعية لزيارة دمشق حيث كنت أقيم. لم أكن أتخيّل أن سمير أمين الذي تملأ كتبه أكشاك دمشق، كان بحاجة إلى تصريح أمني يسمح له بالدخول، ولم أكن أتوقّع أن تعتذر جامعة دمشق عن دعوته لإلقاء محاضرة لأسباب لم يفصح رئيس القسم المعني عنها، لكنها كانت أمنية بلا شك.
أخذ سمير يساهم في الكتاب الدوري. في الأعداد الأربعة التي صدرت منه، نشر سمير ثلاث مساهمات. وتكرّرت اللقاءات فيما بعد في بيروت والقاهرة بعد أن رّفع الحرم على دخولي إليها أوائل التسعينات. لم يمنع الخلاف الفكري تواصل اللقاءات بل لعله كان سببا في ذلك. فقد كان سمير مساجلا رائعا يحتفي بالنقد ويرحّب به. 
في مقال ردّ فيه عليّ كتب مرحّبا بالنقاش "وأتمنّى أن أخوة آخرين يتدخلّون في النقاش بهذه الجرأة، فالأخ عصام أثار تساؤلات حقيقية علينا التفكير بها جميعا". طرفة نقلها هو عنّي إلى اصدقائنا المشتركين من الباحثين المصريين، تدلّ على رحابة صدره. فقد كان سمير يكتب بالفرنسية ونقوم نحن بترجمة نصوصه. لم يضع عنوانا للمقال الذي ردّ به عليّ، فكتبت له طالبا منه أن يقترح عنوانا. ردّ مخوّلا إياي بأن أختار العنوان. كتبت له من باب النكتة: مارأيك في عنوان "خير الكلام في الرد على أكاذيب عصام"؟
أردت لما سبق أن يكون مدخلا لرسم صورة عن السياق التاريخي لرؤى سمير أمين ولمدرسة فكرية مثّلت صرحا نظريا هيمن على الدراسات الأكاديمية طوال عقدين وكان سمير من أعمدتها. وأستبق عرضي الذي سيكون نقديا بالقول بأن كل الفكر اليساري الجاد ينبغي أن يكون محل نقد وأن كاتب هذه المادة لا يريد الإيحاء قط بأنه "خارج" أو "فوق" الأفكار موضع النقد.
في تاريخ "التخلّف"
لعل  "مدرسة التبعية dependency school" وهو الإسم الذي تعارف الدارسون على إطلاقه على التيار الذي مثّله سمير أمين (ولم يكن المنتمون إليه يؤيدونه) هو أول محاولة لتقديم تفسير شمولي يدرس تطور البلدان المتقدمة وتخلّف العالم الثالث كوحدة واحدة متشابكة مستندا إلى معطيات علوم اجتماعية متعددة. وقد تصدّر تيار التبعية مشهد دراسات العالم المعاصر طوال عقدين من الزمن وتراجع تأثيره تدريجيا حتى بات شبه منسيّ في حقول البحث الأكاديمي. ولعل منطقتنا العربية، التي غالبا ما تتعرّف على النظريات بعد عقود من طرحها ونادرا ما قدّم باحثوها دراسات نقدية جدّية لتلك النظريات، هي استثناء إذ لا تزال تحظى أفكار ذلك التيار بشعبية في الأوساط الأكاديمية بل وفي الوعي السياسي التقدّمي عموما.
ماهي مدرسة التبعية؟ وما السياق التاريخي الذي مهّد لظهورها ومن ثمّ أفولها؟
هنا عرض شديد الإيجاز لابد وأن ينطوي على تبسيط:
حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، لم تكن "دراسة التخلّف" أي دراسة اقتصاد ومجتمعات العالم الثالث وأسباب تخلّفه وسبل تجاوزه، فرعا مستقلاّ معترفا به في الأوساط الأكاديمية، بل ظل كثيرون (ومنهم كاتب هذا البحث) لا يعترفون به. ولم تكن هناك على أي حال أبحاث علمية تستحق هذا الإسم عن التراكيب الإجتماعية- الإقتصادية للبلدان أو المناطق الواقعة خارج العالم الرأسمالي المتقدم وخارج الإتحاد السوفييتي. كانت هناك دراسات لاحصر لها تتعلق بتواريخ أو اقتصاد بلدان محددة، وكانت هناك قلّة من الكتابات التقدمية التي تهاجم السياسات الإستعمارية التي تتعمّد إبقاء تلك البلدان متخلّفة.
مع تصاعد موجات التحرر الوطني ونيل غالبية شعوب آسيا وأفريقيا استقلالها خلال عقدي الخمسينات والستينات عمّ التفاؤل بين شعوب وقادة تلك البلدان بأن اللحاق بالدول المتقدمة، وإن تطلب وقتا وجهدا، إلا أنه أمر ممكن. وفي هذه الفترة بالذات ازدهرت الكتابات عن "التخلف". كانت الدراسات، وبعضها شديد الأهمية والعمق، تركّز البحث على العوامل المعيقة للتطور كنقص رأس المال أو ضيق السوق أو نظم الحكم الفاسدة وغيرها. هذا التوجه في مقاربة قضايا العالم الثالث كان ينطوي على منطق ضمني مفاده أن زوال عوامل التخلف سيضع البلدان المتخلفة على الطريق الذي سلكته قبلهم البلدان المتقدمة. وكان المنطق السائد في أوساط القادة وصانعي القرار أن رحيل الإستعمار واستعادة السيطرة على مصادر الثروة الوطنية التي كان يتحكّم بها سيفسح المجال أمام رأس المال المحلي لكي يستثمر في الصناعة وما على الدولة سوى خلق الشروط المناسبة لذلك بفرض قيود على استيراد السلع التي كان الغرب يغرق الأسواق المحلية بها وتشجيع رأس المال المنخرط في التجارة الخارجية على التوجّه للإستثمار في الصناعة. كانت تلك هي الستراتيجية التي تبنتها معظم البلدان المتحررة حديثا والتي عُرفت باسم "التعويض عن الإستيراد" import substitution.
وسرعان ما اكتشف مصممو تلك الستراتيجية أن البرجوازية المحلية لم تضخ إلا القليل من رؤوس أموالها في الصناعة وظلت تفضّل الإستثمار في التجارة الخارجية والعقارات فكان أن اتّجهت الدولة في كثير من البلدان إلى الحلول محل رأس المال الخاص بإقامة الصناعات وتأميم المؤسسات المالية والتجارية الخاصة. هكذا تكاثرت منذ أوائل الستينات نظم حكم ترفع شعارات "الإشتراكية العربية" و"الإشتراكية الأفريقية" و"الإشتراكية العلمية" وغيرها. ولم تكن حصيلة تلك التحوّلات غير مزيد من الإنتكاسات. فالمصانع التي أنشئت لإنتاج المواد الغذائية أو النسيج أو السلع الكيميائية أو الكهربائية، على سبيل المثال، ربّما استطاعت تغطية حاجة السوق المحلّية (بسلع رديئة) ووفّرت الأموال التي كانت تذهب لإستيراد تلك السلع. لكن ما لم ينتبه له قادة تلك الدول هو أن مشاريع كهذه قادت إلى عكس ما كانوا يسعون لتحقيقه، فمكائن وقطع غيار وصيانة كل تلك الصناعات المعوّضة عن الإستيراد كانت تستورد بمبالغ أكبر بما لايقاس من المبالغ التي كانت تذهب لإستيراد السلع التي تم إنتاجها محلّيا. والتوجّه المعلن للإستقلال الإقتصادي قاد إلى مزيد من التبعية، وتحويل البلدان المستقلّة من الإقتصاد الزراعي إلى الإقتصاد الصناعي أفضى إلى انهيار الزراعة من دون نهوض الصناعة بحيث باتت تلك الدول معتمدة على الخارج حتى في غذائها.
كانت حصيلة محاولة اللحاق بالبلدان المتقدّمة، باختصار، تزايد مريع في الهوّة بين العالم الثالث وبين الأخيرة من حيث مستويات المعيشة والإنتاجية. كان المزاج الطاغي في أوساط المثقفين وصانعي القرار وبين غالبية شعوب العالم الثالث معاديا للرأسمالية وكان أقصى ما سمحت به نظم الحكم الثورية  هو منح القطاع الخاص أدوارا مكمّلة لنشاط تقوم الدولة.
كان السؤال الملحّ: أين الخلل؟ وما البديل؟ القول بأن نظام السوق الرأسمالي هو الأكثر كفاءة وقدرة على تطوير بلدان العالم الثالث كان أقرب إلى الخيانة. كما أن التجربة السوفييتية حققت قفزات هائلة في ظل نظام رفض الرأسمالية وبات أكثر المنظّرين يمينية يعترف بأن الإتحاد السوفييتي خلال نصف قرن ما احتاج الغرب إلى قرن لتحقيقه، بحيث أن نقد النظام السوفييتي كان يبدأ بالإعتراف بنجاحاته ليتساءل عن الثمن الباهظ الذي تطلّبه النجاح من حيث التضحية بالحريات وعدم إشباع حاجات السكّان لكي تذهب الموارد إلى الإستثمار في صناعات ستراتيجية تستفيد منها أجيال لاحقة.
 
سمير أمين و "مدرسة التبعية"
هنا تقدمت مدرسة التبعية لتملأ الفراغ وتسعى لتقديم جواب على تلك الأسئلة.
تعود بدايات مدرسة التبعية إلى نهاية الخمسينات حين عرض الأرجنتيني راؤول بريبش إطروحته القائلة أن النظريات الإقتصادية والنيوكلاسيكية عاجزة عن تفسير العلاقات الإقتصادية القائمة بين ال"المركز" المتخصّص في الصناعة و"الأطراف" المتخصصة في الزراعة والصناعات الإستخراجية. الأحرى، من وجهة نظره، تفسير العلاقة وفق نظرية تقوم على "التبادل غير المتكافيء" (وهو عنوان كتاب سمير امين الأهم) ((Packenham 1992: 16. كان بريبش أول من صاغ مفهومي "المركز" و"المحيط"[1] اللذين باتا شائعين اليوم.
كان لهذه الإطروحة، التي بدت في صيغتها التجريدية شأنا أكاديميا، مفاعيل سياسية وفكرية هائلة إذ تلقّفها منظّرو اليسار "الجديد" (أي اليسار الماركسي الناقد للرأسمالية وللماركسية في صيغتها السوفييتية في آن) في فترة المد الثوري العاصف الذي اجتاح العالم خلال النصف الثاني من ستّينات القرن الماضي ليحوّلوها إلى برنامج متكامل للعمل. عرض أندريه غندر فرانك فكرته القائلة أن "المتروبول" و "الأفلاك" (وهي المقابل لمفهومي "المركز" و"الأطراف") يشكّلان جزئين لابد من وجودهما معا في النظام الرأسمالي العالمي، ذلك أن النظام الرأسمالي العالمي يقوم على التبادل الإحتكاري الذي يؤمّن نقل الفائض الإقتصادي من المناطق الخاضعة (الأفلاك) إلى المراكز الإمبريالية (المتروبول). وهذا النظام هو الذي يتحكّم بتوزيع السلطة السياسية وبأشكال تنظيم الإنتاج والبنى الطبقية للمناطق المختلفة. وعليه فإن الآليات التي تطلق التطور في المتروبول هي نفسها الآليات التي تسبّب التخلّف في الأفلاك.
 الإشتقاق النظري المباشر من هذه الإطروحة هو أن من الوهم الحديث عن إمكانية تحقيق تقدّم جذري في العالم الثالث "الأفلاك" ما ظل هذا العالم جزءا من النظام الرأسمالي العالمي. ذلك أن التطوّر غير المتكافئ ليس اختلالا يمكن تصحيحه من خلال تبني ستراتيجيات أو خطط تنمية "صحيحة"، بل هو شرط ضروري لوجود النظام الرأسمالي العالمي. التقدم والتخلّف، بتعبير آخر، وجهان لعملة واحدة. فتقدّم المركز يحتّم تخلّف المحيط، وتخلّف المحيط ضرورة لتقدم المركز. ولا سبيل للفكاك من أسر التخلّف إلاّ بالفكاك من الرأسمالية، أي بالثورة الإشتراكية التي تنقل البلد التابع إلى الإستقلال عن المركز.
ذلك أن ثمة استحالة لأن تنتج بلدان المحيط/ الأفلاك/ الأطراف برجوازية وطنية تقود ثورة أو تحوّلا رأسماليا يقضي على البنى العتيقة ويضع البلد على طريق التطور. برجوازية المحيط "كومبرادورية[2]، ذات مصلحة في استمرار علاقات التبعية وذات مصلحة في بقاء البنى قبل الرأسمالية لبلدانها. أكثر من هذا، يرى فرانك أن إقحام أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا في شبكة التبادل الرأسمالي منذ القرن السابع عشر جعل هذه المناطق رأسمالية أيا تكن البنى الإجتماعية- الإقتصادية القائمة فيها.
سرعان ما سيغتني تيار التبعية بإضافات نظرية مهمة وسيحتل سمير أمين الذي أصدر عمله الرئيس الأول بعد عام من صدور عمل فرانك موقعا مهما بين منظّريه، إذ ركّزت مساهماته على ثلاثة جوانب أتناولها فيما يلي.
 
 
التراكم على الصعيد العالمي
كان سمير أمين (إلى جانب أرغيري إيمانويل) أول من قدّم مقاربة جدّية للقضية التي تمحورت حولها مدرسة التبعية، والتي تعامل معها منظّرو تلك المدرسة الآخرون كبداهة: كيف يحصل هذا التطور غير المتكافئ بالضبط؟
يميّز سمير أمين بشكل قاطع بين عملية التراكم (ولنسمّها لأغراض التبسيط: عملية النمو) في المركز عن عملية التراكم في المحيط/ الأطراف. تطوّر المركز يتم عبر عملية "متمحورة على الذات"، أي أنها تتبع آليات تنشأ من داخلها: تنشأ الصناعات وتتطوّر الزراعة لسد حاجات السوق الداخلية بالدرجة الأساس، ويغذّي كل من قطاعات الإقتصاد وفروعه قطاعات وفروع أخرى، أي أن ثمة دائرة داخلية متكاملة تترابط فيها عمليات الإنتاج مع حاجات الإستهلاك من دون أن يعني هذا، بالطبع، الإستغناء عن السوق الخارجي. وليس الحال هكذا في الأطراف. فالتراكم هنا "تابع" أو خارجي لأنه يتحدد وفق حاجات المركز من المواد الخام أو المعادن أو النفط أو المنتجات الزراعية. هكذا يتشكل التخصص الدولي وفق مستويات الكلفة التي تتحدد بعاملين هما الإنتاجية والأجور. ولأن رأسمالية المركز نشأت في مرحلة مبكّرة فإنها تتمتع بتفوق هائل من حيث انتاجية العامل، كما أن قفزات التصنيع الأولى جرت فيها حين كانت الأجور واطئة لاتكاد تزيد عن متطلبات البقاء المادي على قيد الحياة، مثلما هو حال الأجور في الأطراف. نتج عن هذا، وفق مخطط سمير أمين، أن تكاليف الإنتاج ظلّت أقل في المركز مما هي عليه في الأطراف حتى بعد أن أخذت أجور العمال بالإزدياد. ذلك أن التطور العاصف في إنتاجية العمل عوّض عن تلك الزيادة فيما كان ركود الإنتاج في الأطراف سببا في ارتفاع كلفته.
بفعل نمط التخصص والتبادل غير المتكافئ هذا ساد نمط الإنتاج الرأسمالي في المركز قاضيا على أشكال التنظيم الحرفي والزراعة قبل الرأسمالية أما الأطراف التي لم يعد بوسعها المنافسة إلا في نشاطات تصديرية للمواد الخام فإن تطوّرها الرأسمالي يظل معاقا. "الرأسمالية الطرفية"، وفق تعبير سمير أمين، تعجز عن القضاء على أشكال الإنتاج قبل الرأسمالي لأن مجال توسّعها محدود وسوقها الداخلية تبقى ضيّقة وقطاعات اقتصادها المختلفة غير مترابطة إذ تتوجه القطاعات الحديثة إلى التصدير وتبقى السوق الداخلية معتمدة على الإستيراد أو على انتاج محلي قبل رأسمالي.
تعرّضت نظرية سمير أمين لنقد لا مجال لعرضه هنا لأن كثيرا منه ينطوي على نقاشات اقتصادية متخصّصة. أشير، على سبيل المثال، إلى نقد برور الذي توصّل إلى أن فرضيات سمير أمين حول تفاوت الإجور قد تؤدي إلى انطلاق عملية تطور رأسمالي في "الأطراف"، فيما كان رأي سمير أن التخلّف ليس غير تشكيلة رأسمالية طرفية وأن " عدوان نمط الإنتاج الرأسمالي انطلاقا من الخارج على هذه التشكيلات يشكّل جوهر مشكلة الإنتقال إلى الرأسمالية الطرفية" ((Amin 1970: 204 وبالتالي فإن البرجوازية المحلّية في الأطراف تظل كومبرادورية لا مصلحة لها في التصنيع بل تكمن مصالحها في تعظيم أرباحها من خلال تصدير المواد الخام واستيراد المنتجات الغربية في آن.
ولعل النقد الأشد جذرية لكل مدرسة التبعية هو عمل روبرت برينر المفتاحي الذي حاجج بأن أطروحات التبعية التي تنطلق من الماركسية إنما هي أقرب إلى مبادئ آدم سمث الإقتصادية مما هي إلى ماركس (Brenner 1977) إذ هي لا ترى في التطور الرأسمالي غير تراكم للثروة يكفي ضخّه في الإستثمار الصناعي لكي تنطلق عملية التطور, ولاترى أن العلاقات الطبقية القائمة هي التي تحدد شكل استخدام الفائض المتراكم من الثروة.
لكي يحاول سمير أمين البرهنة على فكرته باستحالة انتقال التشكيلة الرأسمالية الطرفية إلى رأسمالية "وطنية" من دون التخلّي عن تحليل البنى الطبقية، قام بصياغة رؤية خاصّة به لتاريخ النظم الإقتصادية- الإجتماعية.
 
 
سمير أمين مؤرخا أو تطويع التاريخ
لم يدّع سمير أمين أنه مؤرخ، لكنه تميّز عن أقرانه في مدرسة التبعية في إسناده لرؤيته لمآل علاقات الإستغلال بين المركز والمحيط إلى تفسير، بوسعي القول أنه انفرد به، لتاريخ التشكيلات الإجتماعية- الإقتصادية وتحوّلاتها على مستوى العالم. نظرية في التاريخ؟ ربما، ولكن إلى أي درجة كان سمير أمين موفّقا في صياغته النظرية؟
ينتقد أمين، مثل غالبية الماركسيين الذين خرجوا على التنظير السوفييتي التقليدي بل وحتى بعض الشيوعيين داخل المعسكر السوفييتي، مخطّطا خماسيا لتعاقب التشكيلات الإجتماعية- الإقتصادية عبر التاريخ البشري ويُنسب إلى ماركس يبدأ بمرحلة المشاعية البدائية، فالمرحلة العبودية، فالإقطاعية ومن ثم الرأسمالية وصولا إلى المستقبل الحتمي المنشود وهو المجتمع الشيوعي المساواتي. وتركّز النقد المتصاعد منذ منتصف ستّينات القرن الماضي على عدم وجود تتابع ضروري تلقائي ولاحتمي كهذا. فلا التحليل النظري الماركسي يشترطه ولا وقائع التاريخ غير الأوربي تسنده. لا تكمن مساهمة أمين هنا، بل في "ابتكاره" لنمط إنتاج مرّت به البشرية كلّها قبل الرأسمالية هو "نمط الإنتاج الخراجي Tributaire الذي يصفه هكذا:
 "نمط الإنتاج الخراجي يضع فوق المجتمع القروي جهازا اجتماعيا وسياسيا لإستغلال هذا المجتمع عن طريق فرض الخراج. ونمط الإنتاج الخراجي هذا هو الشكل الأكثر انتشارا بين الطبقات قبل الرأسمالية. وأنا أفرّق بين شكلين: أ. مبكّر و ب. متطوّر كما في نمط الإنتاج الإقطاعي الذي يتعرّض فيه مجتمع القرية لفقدان حقّه في امتلاك الأرض لصالح السادة الإقطاعيين." (Amin 1973: 13).
 تعرّض مفهوم "نمط الإنتاج الخراجي" الى الكثير من النقد، إذ أدمج طيفا واسعا من المجتمعات تمتد من المشاعات الأفريقية وتمر بالحضارات الآسيوية وصولا إلى أوربا الإقطاعية مما جعله مفهوما قليل الفائدة التفسيرية (Brewer 1990: 123). فعوض مخطط ماركس الكلاسيكي لتتابع أنماط الإنتاج الذي تعرّض للنقد بسبب تعميمه وجبريته التاريخية، صاغ سمير أمين تشكيلة اختزلت كل أنماط ماركس وأكثر منها تعميما. وسنلاحظ أن "ابتكار" أمين لنمط الإنتاج الخراجي لم يكن مجرّد سعي لتفسير التاريخ السابق للرأسمالية، بل كان مسعى للوصول إلى استنتاجات تتعلق بتوصيف وتحليل النظام الإقتصادي- الإجتماعي العالمي الراهن فضلا عن كونه مسعى لتقديم أساس نظري لرؤيته لصيرورة هذا النظام وأفاقه المستقبلية.
وفقا لسمير أمين، كان ثمة ثلاث تشكيلات "مركزية" قائمة على الخراج في العالم قبل الرأسمالي هي الصين والهند ومصر (لانفهم لمَ لم يدرج حضارة مابين النهرين ضمن تلك التشكيلات). وفي المقابل، كان ثمة "محيط" (أطراف) أقل استقرارا بكثير وكان تأثّر هذه الأطراف بالمراكز أكثر من تأثيره بها. كانت الأطراف المتوسطية، أي المطلّة على البحر الأبيض المتوسّط، تؤمّن العبيد للمركز. من هنا كانت مجتمعاتها عبودية. وأدّى انهيار تلك المجتمعات إثر غزو البرابرة إلى تحوّلات أفضت إلى قيام النظام الإقطاعي الذي أمّن شروط التحوّل فيما بعد إلى الرأسمالية. وكان حال التشكيلة المركزية الصينية شبيها بمثيلتها المصرية، إذ كانت اليابان هي التشكيلة الطرفية للصين. وكما هو حال الطرف المتوسّطي للحضارة المصرية، أنتجت اليابان نظاما إقطاعيا تحوّل فيما بعد إلى الرأسمالية.
عرضي لرؤية سمير أمين الموسوعية تبسيطي بالتأكيد. ولكن بوسعي القول، وبالقدر نفسه من التأكيد، أن رؤية سمير أمين تبسيطية إلى حدٍّ مخلٍّ. ثمة خلل فاضح في تأرخة الحضارات لم ينتبه له القارئ الغربي الذي كان شغوفا بتنظير ذي مضمون نضالي وثمة خلل أشدّ يتمثل في تفسير العلاقة بين الحضارات والتشكيلات المختلفة.
يتحدث سمير أمين عن انهيار نظام العبودية وصعود الإقطاع في "المحيط" في عصر الحضارات "المركزية" المصرية والهندية والصينية. لست قادرا على تأرخة الحضارتين الأخيرتين، لكن بوسعي (وبوسع إي تلميذ جامعي عربي مجتهد) أن يلحظ غياب ستة قرون حاسمة الأهمية في علاقة "المركز" في منطقتنا ب"المحيط" أي أوربا، هي فترة الحضارة الإسلامية. ثمة اختزال مثير للتاريخ هنا: الحضارة المصرية الفرعونية انهارت خلال الألف الأول قبل الميلاد و وانهار النظام العبودي الأوربي (وهو نظام لم يسُد إلا في بقع محدودة من أوربا، على عكس ما تخيّل ماركس ومؤرخو القرن التاسع عشر) بعد خمسة قرون من ذاك على الأقل.
لكن خلل نظرية سمير أمين لايكمن في أخطاء تحقيبه للتاريخ، بل في الإستنتاج الفكري الذي أراد الوصول إليه والذي ميّزه عن باقي منظّري التبعية. أراد سمير أمين أن يثبّت فرضيتين. الفرضية الأولى تقول أن تلازم المركز/ المحيط ليس ظاهرة مميّزة للعصر الرأسمالي فقط، بل هي كامنة في صلب كل التشكيلات الإجتماعية التاريخية. أما الفرضية الثانية، وهي الأهم، فتقول أن عمليات الإنتقال التاريخية من تشكيلة اجتماعية إلى أخرى أرقى منها تتم من داخل الأطراف لا المركز. اليابان التي كانت طرفا لتشكيلة الصين المركزية وأوربا التي كانت طرفا لحضارة مصر (ولنقل للحضارة الإسلامية) المركزية هما اللتان أنجزتا الإنتقال إلى الرأسمالية لتحتلاّ موقع المركز محيلتين بذلك ما كان مركزا إلى أطراف له. لنتذكّر أن "الأطراف" وفق تعريف منظري التبعية بمن فيهم سمير أمين هي المناطق التي تخضع لنظم اقتصادية- اجتماعية أدنى تطورا من النظم التي يخضع المركز لها. لكن نظرية سمير أمين تنقض نفسها. فهو الذي ميّز بين شكلين من أشكال نمط الإنتاج الخراجي، شكله الأول هو ماساد في المركز وما أسماه ب" الشكل المبكّر" والشكل الثاني هو الإقطاع الذي وصفه بأنه أكثر تطورا. هل كان نمط الإنتاج السائد في اليابان وأوربا أكثر تطورا من النمط السائد في المركز؟ يقدم سمير أمين إجابتين متناقضتين:
"حين يستكمل النمط القائم على الخراج تطوّره ينزع على الدوام تقريبا إلى إن يصبح إقطاعيا (وقد حصل هذا في كل من الصين والهند ومصر)" ((Amin 1970: 140 لكنه يعود في كتابه اللاحق (التطور عير المتكافئ) ليصف النظام الإقطاعي كنظام مميّز للأطراف ((Amin 1973: 16.
ماهو مصدر الخلل في نظرية سمير أمين عن التشكيلات قبل الرأسمالية وعمليات التحول من نظام إلى آخر؟ يكمن الخلل في رأيي في أنه بذل جهدا للبرهنة على ما لاوجود له، وهو الطابع الكوني للعلاقات بين التشكيلات قبل الرأسمالية، في وقت لم يكن ممكنا فيه الحديث عن اقتصاد أو حتى نظام عالمي.
نعرف جميعا أن التبادل التجاري كان قائما بين الصين والهند وبلاد المشرق منذ عصور. ونعرف أن شبكة التبادل وصلت إلى أيطاليا منذ القرن الثالث عشر. لكن هذا لا يسمح بالحديث قط عن نظام عالمي له تشكيلاته المركزية وأخرى محيطية. لم تكن ثمة أي منطقة في العالم يعتمد عيشها على ماتستورد من المناطق الأخرى بما يبرر تسميتها بأنها منطقة طرفية. ولا كان ثمة دولة يعتمد إنتاجها على التصدير إلى الخارج وإلا تعرضت لأزمة إن لم تجد أسواقا خارجية تستورد منها. كل هذه الظواهر والتلازمات ميّزت وتمّيز العصر الرأسمالي, ولكن حتى هنا لا يصح الحديث عن نظام اقتصادي عالمي إلا بعد حوالى ثلاثة قرون على ترسّخ النظام الرأسمالي في بريطانيا على الأقل.
حين نتحدّث عن خطوط التجارة و"طريق الحرير" المار من الصين عبر بلدان آسيا الوسطى وصولا إلى منطقتنا، تنطلق صور رومانسية في الذهن عن رحّالة مغامرين خاضوا طرقا غير مأهولة للحصول على حاجات أسواقهم. لكن تفسيرا بسيطا لمستوى التطور في تكنولوجيا المواصلات يبين كم تنطوى هذه الصور على كاريكاتيرات وقوالب مسبقة رسمتها الآيديولوجيا والآساطير. بعيدا عن مخاطر القرصنة على الطرق البحرية والبرية بوجه خاص، كان ثمة قيود على نوع وكمية المواد المنقولة عبر المناطق المختلفة. فمن المستحيل مثلا نقل الحبوب أو اللحوم أو المواشي من خلال طرق التجارة الخارجية. السبب الأول الذي لايغيب عن البال هو بالطبع أن موادا كهذه ستتعرض إلى التلف حتما عند تخزينها لفترات طويلة في ظل الظروف التقنية السائدة في القرون الوسطى وماقبلها. لكن ثمة عاملا أكثر أهمية يتعلق باقتصادية نقل مواد للأستهلاك الواسع عبر مناطق شاسعة جغرافيا (والمناطق ال"شاسعة جغرافيا" في ظل تقنيات النقل البرّي لذلك الوقت قد لاتزيد عن خمسين كيلومترا). إذ توصل هيرمان شوارتز في دراسة عن "الأسواق والدولة" إلى تكوين صورة عن الحجم الأمثل للوحدة المكتفية ذاتيا في أوربا قبل اكتشاف الطاقة البخارية وتوصل إلى أن تلك الوحدة يجب ألا تتجاوز دائرة قطرها عشرين ميلا. فعلى العربة التي تنقل القمح أو الذرة على سبيل المثال، أن تخلي جزءا من مساحتها لخزن أعلاف الخيل التي تقود العربات. فإذا تجاوزت تلك المساحة نسبة معينة من مساحة الجزء المخصص لتخزين الذرة أو القمح، لم يعد نقل البضائع مجزيا من الناحية الإقتصادية. وينطبق الأمر نفسه على السفن الشراعية التي كانت تستخدم للنقل في المحيط الهندي والخليج العربي، إذ لم يكن بوسعها نقل أحمال ثقيلة.
من هنا، فإن من قرأ قصص التلاقح الحضاري بين الدول والأمبراطوريات والحضارات قبل الرأسمالية سيجد سلعا تتكرر باستمرار في قائمة التبادل بينها، سلع نادرة تنتجها منطقة وتتعرف عليها أخرى فتبقى ضمن حاجات الطبقات العليا في المجتمعات المعنية وتباع بأسعار باهظة: المعادن الثمينة كانت السلعة الأساس التي "تصدّرها" أوربا لتستورد من الشرق في المقابل التوابل (التي ظلت سلعة نادرة حتى فترة متأخرة)، والحرير، والسجّاد والمصنوعات الزجاجية، والشاي والبن، وما أشبه من سلع.
إذن، لم تكن ثمة "تشكيلة" تتبع تشكيلة أخرى في العالم قبل الرأسمالي. كانت ثمة صناعات أو منتوجات لا يعتمد اقتصاد البلد المنتج لها على صادراتها لتأمين ازدهاره، ولا يعتمد عليها اقتصاد البلد المستورد لتأمين حاجاته الضرورية. والحق أن هذا ينطبق على القرون الأولى لترسّخ الرأسمالية في أوربا. من هنا يرتبط صعود النزعة القومية وبروز الفكرة القومية نفسها مع التحول البرجوازي للمجتمعات. ذلك أن الرأسمالية في بدايتها كانت ضعيفة تسعى بشق الأنفس لكي تغطّي حاجة السوق المحلية للبلد الذي تعمل فيه. وكان هذا السعي، والخوف من المنافسة الخارجية هو الذي دفعها إلى إذكاء الروح القومية لكي تفرض معاملة تمييزية على السلع القادمة من الخارج. كان الخوف من استيراد الذرة الرخيصة من أمريكا الجنوبية وغيرها وراء تشريع "قانون الذرة" الشهير في بريطانيا والذي يعدّ المؤرخون إلغاءه مؤشرا على نضج الرأسمالية البريطانية واستعدادها للدخول في منافسة مع البضائع الأجنبية.
إذن، فحتى القرن الثامن عشر، ما كان بالوسع الحديث، بالمعنى العلمي الصارم، عن نظام رأسمالي عالمي ومن باب أولى عن تشكيلة رأسمالية مركزية وأخرى طرفية. كانت السوق القومية حتى ذلك الحين هي الهدف الذي تسعى الرأسماليات للسيطرة عليها.
أختصر بالقول أن سمير أمين سعى إلى بناء نظام نظري يفسر عمليات الإنتقال من تشكيلة اجتماعية- اقتصادية إلى أخرى على نطاق كوني وعلى امتداد فترات تاريخية شديدة الإمتداد، فكان لابد من أن تعاني أجزاء من هذا البناء من ارتباك وتشوّش. والمؤسف أن تلك الأجزاء من بنائه النظرية كانت أعمدة ارتكاز رئيسة يهدد انهيارها بانهيار البناء كلّه. لقد بذل سمير جهدا للبرهنة على وجود ما لاوجود له، وهو الطابع الكوني للتشكيلات قبل الرأسمالية. وقاده هذا إلى مقارنات صورية حلمها تأكيد استنتاج ثوري سياسي كان راهنا وضاغطا على وعيه مفاده أن الثورة العالمية القادمة التي ستقلب الرأسمالية وتحلّ نظاما جديدا محلّها ستنطلق من الشرق. وليس ثمة تلخيص أكثر وضوحا لرؤيته هذه من مقدّمة كتابه التأسيسي "التراكم على مستوى عالمي": "إن نقد اقتصاد التطوّر هو الذي قادنا إلى عرض الإطروحة التي تقول أن أي نظام لايتمّ تجاوزه من مركزه بل من محيطه. وثمة مثالان يؤكّدان ذلك: أوّلهما ولادة الرأسمالية من محيط أنظمة الحضارات ماقبل الرأسمالية، والثاني الأزمة الراهنة للرأسمالية".
مثالان يؤكّدان؟ الأول يقوم على قراءة خاطئة وآيديولوجية للتاريخ والثاني يحوّل مايتمنّى حدوثه ولم يحدث بعد إلى واقعة تاريخية.
 
سمير أمين مناضلا:
ربما كان سمير أمين الأكثر انغماسا في التفكير السياسي والأكثر ارتباطا بالحركات الثورية من بين مفكّري مدرسة التبعية. كان شاغله الأكبر هو كيف تخرج "الرأسمالية الطرفية" من تبعيتها وتبني نظاما اقتصاديا- اجتماعيا متمحورا على الذات وفق تعابيره.
كان خيار سمير أمين هو تبنّي الفكر الماوي، أي أفكار الثورة الصينية وقائدها ماوتسي تونغ، وهو التيار الذي طغى في صفوف مثقفي اليسار الجديد الفرنسيين أواخر الستينات. بدت التجربة الصينية النموذج المثالي الذي حلم به سمير أمين، وقد أشار هو في أكثر من موقع إلى انحيازه المبكر للتوجه الصيني منذ عام 1957. كان تفسير ماوتسي تونغ للماركسية وكيفية بناء الإشتراكية قد تفارق كلّيا مع تفسير الإتحاد السوفييتي وسياساته منذ منتصف خمسينات القرن الماضي حتى بات الأخير يوصف في الأدبيات الشيوعية الصينية ك"إمبريالية اشتراكية". رفض ماوتسي تونغ مبدأ التعايش السلمي مع العالم الرأسمالي الذي تبنّاه السوفييت ورفع بديلا عنه شعار "الإمبريالية نمر من ورق"، ورفض الإصلاحات الإقتصادية التي تبناها الأخيرون بعد وفاة ستالين والتي سمحت باللجوء إلى بعض مؤشرات السوق، مثل الربحية، في تقييم أداء مشاريع الدولة، كما رفض الإنفتاح على الإقتصاد الرأسمالي العالمي والتبادل واسع النطاق مع الدول الغربية.
تطابقت رؤية سمير أمين لآفاق التحولات العالمية المقبلة مع رؤى الحزب الشيوعي الصيني الذي كان أحد مبادئه "ريح الشرق تهب على الغرب"، أي أن الصين هي التي ستبني المجتمع المتجاوز للرأسمالية وستلحقها الدول المتطورة في الإنتقال إلى الإشتراكية. فنظرية أمين المؤكدة على أن أطراف الحضارات المركزية هي التي تبني النظم الإقتصادية- الإجتماعية الأرقى تؤسس فكريا للمبدأ الصيني. 
أستبق سوء فهم فأقول: لم يكن سمير أمين تبريريا لنظام سياسي ولا كان بوقا آيديولوجيا لماوتسي تونغ. كان سمير أمين مفكّرا مناضلا آمن بأفكار الثورة الصينية. وتلك معضلة أوقعت كثيرا من المنظّرين المنخرطين في النضال السياسي، بمن فيهم ماركس، في مآزق نظرية إذ كانت رؤيتهم السياسية تضغط على وعيهم لكي ينتج مايتوافق معها.
في التزامه السياسي الذي ميّزه عن منظّري التبعية الآخرين، لم يكتف سمير أمين بتحليل واقع بلدان العالم الثالث فقط ولا اكتفى بطرح تنبّؤه بأن هذه البلدان سترسي أسس نظام عالمي جديد لا يفرض نفسه على الغرب فقط، بل سينقل تشكيلاته الإجتماعية- الإقتصادية بحيث تتماثل مع تشكيلات الشرق المتفوّقة، بل أنه كرّس جزءا كبيرا من كتاباته وجهده لطرح ستراتيجيات النضال من أجل الوصول إلى ذلك الهدف لا سيّما خلال ربع القرن الأخير من حياته المديدة.
تكريسه جلّ نشاطه الأخير لبلورة ومراجعة أفكاره السياسية كان مفهوما. ثلاثة تطورات هائلة كان لابد لها أن تدفع كل مثقف ذي عقل متفتّح إلى التأمل وإعادة النظر في بعض قناعاته على الأقل: انهيار الإتحاد السوفييتي وسقوط النظم الإشتراكية في أوربا الشرقية، وانتقال الصين المتسارع نحو النظام الرأسمالي وانتقال دول شرق آسيا من "الرأسمالية الطرفية" إلى "مراكز رأسمالية".
قبل تلك التحوّلات المزلزلة في المشهد العالمي كان أفق التطوّر واضحا أمام سمير أمين وغالبية الماركسيين حتى ممن لم يعتنقوا اللون الصيني للشيوعية. كان مشروع سمير أمين يقوم على إنجاز الثورة الإشتراكية التي تقودها الطبقة العاملة بالتحالف مع الفلاحين على غرار الصين وبناء الإشتراكية في الأطراف فهي الوحيدة القادرة على انتشال تلك البلدان من التبعية والتخلّف. في معرض سجاله معي عام 1992، كتب سمير "تجاوزت النظرة الماوية... فتوصّلت بالتدريج إلى أن بناء الإشتراكية في أطراف النظام هو في نهاية المطاف مشروع طوباوي وستراتيجيا غير فعالة للإنتقال إلى الإشتراكية العالمية.(أمين 1992 ب: 91).
لم يكن هذا نقدا ذاتيا جريئا فقط، بل كان إقرارا ضمنيا بخطأ نظريته في التاريخ التي تقول بأن تحوّل التشكيلات الإجتماعية إلى أشكال أرقى يتم على الدوام من داخل الأطراف لتنتقل بعد ذلك إلى التشكيلات المركزية. فهل دفع سمير نقده هذا إلى نهايته المنطقية بما يسمح بالتفكير بإمكانية انتقال بعض بلدان الأطراف على الأقل إلى المركز؟
المؤسف أن الجواب كان بالنفي. ذلك أن المفاهيم الأساس التي بنى عليها تحليلاته السابقة ظلّت تلعب دورا محوريا في منظومته الفكرية. فما بديله إن كان "بناء الإشتراكية في أطراف النظام مشروع طوباوي"؟ أجاب سمير: " أقول اليوم أن البديل هو أن تفرض القوى الشعبية تحالفا وطنيا شعبيا قائما على استمرار التناقض بين الإتجاه الرأسمالي والتقدم الإشتراكي اللذين يعملان في إطار المجتمع لمدة طويلة" (المصدر السابق: 93).
لم يحدد سمير أمين ما هدف هذا التحالف الوطني الشعبي؟ ما مشروعه؟ كيف يتجسد التناقض بين الإتجاه الرأسمالي والتقدم الإشتراكي بشكل ملموس؟ ما شكل النظام السياسي- الإقتصادي الذي سيبنيه هذا التحالف إن انتصر؟ كل هذه الأسئلة بقيت من دون جواب. حدّد سمير ما لايجب أن يكون عليه التحالف الوطني الشعبي وترك للقارئ أن يخمّن ما سيكون عليه.
لن يكون البديل الذي يسعى إليه التحالف الوطني رأسماليا بالتأكيد، فمنطلق سمير أمين في ردّه على نقدي له ".... نقطة الخلاف الرئيس في الموضوع كله: هل من الممكن تحقيق رأسمالية انطلاقا من وضع طرفي تكرّر في نهاية المطاف انجازات الرأسمالية المركزية أم لا؟ وبالتالي هل للبرجوازية المحلية دور تاريخي إيجابي لا يزال قائما ؟.... أقول فقط أن نظرتي للأستقطاب تؤدي إلى إجابة سلبية مبدئيا عن جميع هذه الأسئلة المترابطة". (المصدر السابق: 92). يستتبع هذا "... أن التحالف الشعبي يستبعد البرجوازية بصفة أساسية ومن حيث المبدأ" (ص. 96).
اعترض سمير على قولي أن ستراتيجيته عن التحالف الوطني الشعبي ليست غير إعادة صياغة للينينية بألفاظ أخرى. ذلك أن لينين غلّف سعي البلاشفة لإستلام السلطة في روسيا بشعار تحالف العمال والفلاحين والبرجوازيين الصغار الذي لا يبني الإشتراكية فورا بل يبقى على بعض عناصر اقتصاد السوق. هل يمكن أن يبقي تحالف كهذا على اقتصاد السوق إن لم يكن البرجوازيون في صفوفه؟ ومن هم الفاعلون في اقتصاد السوق إن لم يكونوا رأسماليين؟ لذا كان محتّما أن تقود التجربة اللينينية فورا إلى تعميم شامل لنظام ملكية الدولة نعرف ماترتّب عليه سياسيا واقتصاديا.
ظل أمين متمسّكا بأعمدة كان يراها تتهاوى سريعا. ظل يرفض الإعتراف بأن نشوء مراكز رأسمالية جديدة يعني أن ثنائية المركز/ الأطراف (ككل تنظير ينبني على ثنائيات متعاكسة) فقيرة القيمة التحليلية وأن التوسع الرأسمالي باتجاه الأطراف ليس ممكنا فقط بل أنه يتحقق أمام أعيننا، فهو يعلق على التجربة الكورية بوصفها استثناءا، بمعنى أن تكرارها غير ممكن، ويضيف" أنا أرى أن هذه التجربة هي الأخرى ستواجه التحدي نفسه، فإما أن تخضع في نهاية المطاف إلى مقتضيات الكومبرادورية وإما أن القوى الشعبية تغيّر مضمونها من خلال نضالها ضد ذلك النظام المحكم الذي "نجح" في التنمية الرأسمالية المعنية.".
ظل سمير أمين يرى أن التنمية "الحقيقية" لا يمكن أن تتحقق إلا ب"فك الإرتباط" بالعالم الرأسمالي. فيما كانت الوقائع تشير إلى العكس تماما.
 
عوضا عن الخاتمة: لنعد إلى البداهة
 
غالبا ما تستغرقنا النقاشات الفكرية المعمّقة لدرجة ننسى معها السؤال الأول الذي انطلق منه النقاش. يبدو السؤال الأول عندها بدهيا، بل ساذجا لشدة بداهته مع أننا نسينا الإجابة عنه. وإذ أستخدم ضمير المتكلم بالجمع ("نا") فلكي اؤكد أن النقد ليس موجّها إلى سمير أمين فقط، بل هو نقد ذاتي لنا جميعا، أعني المشتغلين بالعمل الفكري.
ما منطلق النقاش في المادة المكتوبة أعلاه؟ منطلقه كان المساهمة الكبيرة التي قدمتها مدرسة التبعية وسمير أمين في تثوير فهمنا لمعنى التخلّف ولفت أنظارنا إلى أن التخلف جزء من عملية كونية لا عناصر مفقودة في بلد ما يكفي التعويض عنها حتى تنطلق عملية التقدم. هكذا بدأ النقاش لينتقل إلى قدرة الرأسمالية على تحويل "الرأسماليات الطرفية" إلى "رأسماليات مركزية" (مع التحفّظ على التعابير). أو بتعبير آخر: هل استنفدت الرأسمالية إمكاناتها على التطور والتطوير؟ هل انتهى دورها الثوري في القدرة على القضاء على أنماط الإنتاج البالية؟ كان جواب مدرسة التبعية قاطعا، كما لاحظنا. لم يعد للرأسمالية دور سوى إدامة التخلّف والتبعية، وعليه فلا بد من طريق آخر هو بناء الإشتراكية وفكّ الإرتباط بالسوق الرأسمالية العالمية. تقدّم سمير أمين خطوة إذ توصّل إلى أن بناء الإشتراكية حلم طوباوي ولابد من طريق آخر انتقالي بين الرأسمالية والإشتراكية. فالإشتراكية حلم طوباوي، وبناء رأسمالية "متمحورة على الذات" أمر مستحيل في ظل النظام الرأسمالي العالمي، كما تقول مدرسة التبعية.
على الأسئلة المتعلقة باختراق بلدان يتزايد عددها للحالة الطرفية، أجاب سمير بأن الإستقطاب الرأسمالي لابد وأن يعيدها إلى ماكانت عليه، فستراتيجية اللحاق بالمركز وهم، والقول بأن ثمة إمكانية للتوسع الرأسمالي هو "استسلام للأمر الواقع"، على حدّ وصفه لموقفي:
"أعتقد أن هذا "الإستسلام" للأمر الواقع لن يساعد على كشف ستراتيجيا جديدة فعّالة. فالتوسع الرأسمالي الذي سيتم في الظروف الجديدة لن يحل مشاكل أطراف النظام، بل سوف تتفاقم الأوضاع في هذه الأطراف من جميع الجوانب الإقتصادية والسياسية والإجتماعية. وينطبق هذا الحكم على جميع الأطراف  سواء كانت الأطراف المصنّعة للعالم الثالث (الآن بصفة أساس أوربا الشرقية وروسيا وآسيا الشرقية وأمريكا اللاتينية) أم كانت أطراف العالم الرابع (أفريقيا والوطن العربي والعالم الإسلامي)" (السابق: 90).
علامَ يستند هذا التنبّؤ القاطع بأن "الأوضاع ستتفاقم من جميع الجوانب"؟ يقول أمين: "أعتمد في هذا الحكم على قولي السابق عن استحالة استيعاب الجيش الإحتياطي من خلال التنمية الرأسمالية المندرجة في النظام العالم، ولو في أفضل الفرضيات".
هاقد وصلنا أخيرا إلى تلمّس السؤال الأول، سؤال البداهة الذي يبدو ساذجا. السؤال الأول: هو ما معيار التقدم والتأخّر، بعد أن أتخمنا النقاش بتعابير التنمية المتمحورة على الذات والخلاص من التبعية وعجز برجوازية الأطراف عن أن تكون حاملة لمشروع التطور؟ لأطرحَ السؤال بشكل أكثر سذاجة: لماذا نريد إقامة هذا النظام الإجتماعي- الإقتصادي أو ذاك في الأطراف؟ لا أجادل في أن النظام الرأسمالي يقوم على استغلال قوة العمل، ولا أظن أن اثنين من اليسار يختلفان حول هذا الأمر. ولا أجادل في أن ثمة هوة تفصل بين مستويات الدخول بين الدول وفي داخل كل بلد قد تنجح الرأسمالية في تضييقها لكنها لن تستطيع القضاء عليها من دون أن تقضي على نفسها. ولا أجادل في ضرورة تجاوز الرأسمالية نحو نظام يحافظ على انجازاتها الهائلة ويطورها لكنه يُأنسنها ويكون أكثر عدالة. كل هذه القضايا تمس العالم كله بمركزه وأطرافه. إنما السؤال الذي انطلقت منه مدرسة التبعية وينطلق منه كل دارس للعالم الثالث أيّا كان اتجاهه وميوله الفكرية، كان وما يزال: كيف يخرج هذا العالم من تخلّفه؟
هنا السؤال الذي نسينا أن نسأله؟ أليس تحسّن مستوى عيش البشر هو المقياس؟ نسينا أن نستشير الوقائع وتحدّثنا عن قدرة أو عجز الرأسمالية الطرفية عن القضاء على البطالة، أي جيش العمل الإحتياطي.
 
الوقائع تقول أن نسبة البطالة في الصين، ولنتذكّر أن واحدا من كل سبعة من البشر يعيش في الصين، تبلغ ثلاثة ونصف في المئة وهي كذلك في كوريا أيضا، فيما تبلغ نسبة البطالة في قلب "رأسمالية المركز"، أي أوربا أكثر من عشرة بالمئة. نسينا أنه في ظل انطلاق العولمة وخلال ربع قرن فقط تحقق ما لم تستطع البشرية تحقيقة عبر تاريخها إذا تم انتشال 1,1 مليار إنسان من مستوى خط الفقر المدقع، إذ انخفضت نسبتهم من 36 بالمئة إلى عشرة بالمئة. ونسينا أن حجم الإقتصاد الصيني ازداد 44 ضعفا خلال الخمسة وعشرين عاما التي تلت "اطلاق الإصلاح الإقتصادي" عام 1987 وازداد الناتج المحلي الإجمالي خمسة أصعاف خلال السنوات الخمس عشرة التالية، وكل هذا بعد أن باتت حصة القطاع الخاص من الإنتاج الصناعي 78 بالمئة بعد أن كانت صفرا في منتصف الثمانينات.
كتب دو لاكروا، أحد أهم مؤرخي المجتمع العبودي في اليونان القديمة: "الوقائع مقدّسة. إنها تنتقم ممن يتلاعب بها بقسوة شديدة".
يقينا أن رسملة مجتمعات العالم الثالث من الصين إلى البرازيل مرورا بالهند أنتجت فجوات هائلة بين الدخول، وزادت من تلوّث البيئة وأنتجت مشاكل اجتماعية جديدة، لكن النقاش لايدور حول عدالة الرأسمالية، بل حول قدرتها على رفع مستوى رفاه البشر مقاسة لابمستوى الدخل وإيجاد فرص عمل للغالبية الساحقة من القادرين عليه فقط بل بانخفاض معدلات الأمية وزيادة العمر المتوقع للبشر. ولعل من المفارقات التي أثرتها في نقاشي مع سمير أمين هي أن الفجوة بين الدخول في تايوان، البلد الذي كان مبرر نشوءه معاداة النظام الإشتراكي في الصين وتبني الرأسمالية، كانت أقل مما كانت عليه في الصين حتى قبل انطلاقة الرأسمالية في الأخيرة.
كان كارل ماركس الناقد الأهم للأستغلال الرأسمالي يتحدث عن دورها التثويري الهائل، عن تقدميتها قياسا بالنظم السابقة عليها، وعن وحشيتها في آن. ويندر وجود باحث ماركسي عن العالم الثالث لم يستشهد بعبارته الشهيرة عن أن "مدفعية الرأسمالية تدّك أسوار أكثر الأمم بربرية وتجبرها تحت طائلة الفناء على تبنّي نمط إنتاجها". لعلّه يردّ النقد الآن من قبره على من انتقدوا "خطأه" إذ توقع أن تسود الرأسمالية معظم أجزاء العالم قبل أن تختفي من على مسرح التاريخ. لعله يرد النقد لمن خطّأ توقّعه بأن المجتمعات الرأسمالية الأكثر تقدما هي القادرة على تجاوز هذا النظام حين يستنفد قدرته على التطور. لعله يقول لهم الآن أن الرأسمالية لاتزال تمتلك مخزونا هائلة على القدرة على التطوير وأن على البشر الصراع بهدف أنسنتها لابهدف القضاء عليها.
 
 
 12 آب (أغسطس) 2018:
 
 
 
مراجع
أ‌.         بالعربية
-         الخفاجي، عصام (1992 أ) 1870- 1990: مستقبلنا في منظار التاريخ، في جدل، الكتاب الثاني: العرب في عالم أحادي القطب؟، عيبال للنشر، دمشق ونيقوسيا: 176-199.
-         الخفاجي، عصام (1992ب) التطوّر، التبعية، الرأسمالية: دراسة في تجربة شرق آسيا، في عصام الخفاجي (محرر) جدل: الكتاب الثالث: التبعية في عالم متغيّر، عيبال للنشر، دمشق ونيقوسيا: 103-120.
-         الخفاجي، عصام (1995)، التاريخ الغائب في نظرية التخلّف، النهج: 63-78.
-         أمين، سمير (1991أ) ثلاثون عاما من نقد النظام السوفياتي، في جدل: الكتاب الثاني: العرب في عالم أحادي القطب؟، عيبال للنشر، دمشق ونيقوسيا: 15-37.
-         أمين، سمير (1992: ب) التحالف الوطني الشعبي: ملاحظات توضيحية (ردّا على عصام الخفاجي)، في عصام الخفاجي (محرر) جدل: الكتاب الثالث: التبعية في عالم متغيّر، عيبال للنشر، دمشق ونيقوسيا: 79-102.
-         فالرشتاين (إيمانويل)، أريغي (جيوفاني)، أمين (سمير)، فرانك (أندريه غندر)، فونيتس (ماريا) (1991) الإضطراب الكبير، ترجمة د.عصام الخفاجي، دار الفارابي، بيروت.
 
ب‌.      بالإنكليزية والفرنسية
-      Amin, Samir (1970) Accumumulation a l’échelle mondiale, Anthropos, Paris
-      Amin, Samir (1973) L’échange inègale et la loi de la valeur, Anthropos, Paris.
-      Baran, Paul (1957) The Political Economy of Growth, Monthly Review Press, New York.
-      Brenner, Robert (1977) The Origins of Capitalist Development: A Critique of Neo-Smithian Marxism, New Left Review, no. 104: 25-94.
-      Brewer, Anthony (1990) Marxist Theories of Imperialism: A Critical Survey, Routledge, London
-      Dos Santos, Thomas (1970) The Structure of Dependence, The American Economic Review,231-236, March
-      Emmanuel, Arrighi (1972) Unequal Exchange: A Study of the Imperialism of Trade, New Left Books, London and Monthly Review Press, New York.
-      Al Khafaji, Isam (1994) Tormented Births: Passages to Modernity in Europe and the Middle East, I.B. Taurus, London and McMillan, New York.
-      Packenham, Robert A. (1992) The Dependency Movement: Scholarship and Politics in Development Studies, Harvard University Press, Cambridge, Mass and London, England.
 
 
 
 


[1]  أستخدم هنا تعبير "المحيط" لترجمة periphery بديلا عن تعبير "الأطراف" الذي درج العرب على استخدامه، فالتعبير الإنكليزي يحيل إلى "محيط الدائرة" في علم الهندسة.
[2] الكومبرادور مفردة برتغالية تعني التجار، وهم أول من أدخل الصين في شبكة التجارة العالمية. فيما بعد، استخدم الحزب الشيوعي الصيني هذه المفردة بشكل هجائي لوصف البرجوازية المحلية المتخصصة في التجارة الخارجية.