من تاريخنا الفلسطيني، في الذكرى ال 55 لرحيله: الأديب والمُفكر عباس محمود العقاد في مدينة يافا


جهاد عقل
الحوار المتمدن - العدد: 6193 - 2019 / 4 / 6 - 09:53
المحور: الادب والفن     



المفكر والكاتب عباس محمود العقاد، معروف لنا بمؤلفاته التاريخية والفكرية والفلسفية وغيرها، التي لم نتوان عن مطالعتها، معجبين بها خاصة مجموعة "العبقريات"، لكن لم نكن نعرف أنه كان قد زار بلادنا فلسطين في أواسط أربعينيات القرن الماضي، أي قبل 74 عامًا، وخلال هذه الزيارة كان قد أدلى بحديث هام لصحيفة "فلسطين" (*)، وبالتحديد بتاريخ 24/8/1945 سنقوم بنقل أهم ما جاء في هذا الحديث لأهميته.

من المعروف أن الكاتب عباس محمود العقاد من مواليد 28/7/1889 وكان قد رحل عنا بتاريخ 13/3/1964 اي قبل 55 عامًا.

البداية

عندما تقوم بالبحث والدراسة للعديد من المناحي التاريخية في فلسطين، تشعر بالغبطة والفخر بمجمل الفعاليات والقضايا التي تُجري البحث عنها، اذا كان ذلك في المجال السياسي او النقابي العمالي أو الثقافي، وفي إطار المجال الاخير أي المشهد الثقافي الفلسطيني، تجد أن فلسطين كانت مركزًا ثقافيًا وفنيًا راقيًا على الصعيدين المحلي والعربي، حيث كان قد زارها الكتاب والشعراء والفنانين العرب وقدموا العديد من الندوات والحفلات التي لقيت نجاحًا باهرًا.

ضمن هذه النشاطات الثقافية كان قد حلّ الكاتب والمُفَكّر عباس محمود العقاد الذي ذاع صيته وقتها وما زال، بما كتبه من مؤلفات أدبية وتاريخيّه وفكريّة وفلسفية وغيرها، حيث وصل فلسطين وبالتحديد الى مدينة يافا أولًا يوم الخميس 23/8/1945، وكما ذكرنا أعلاه قامت صحيفة " فلسطين" بإجراء حديث معه نشرته على صفحتها الأولى يوم الجمعه الرابع والعشرين من عام 1945، تحت عنوان "أحاديث فلسطين" ونشرت صورة له يبدو فيها شابًا وسيمًا وكان موضوع الحوار بعنوان:"مع الكاتب الكبير الأستاذ عباس محمود العقاد قضية فلسطين، الجامعه العربية وأشياء أُخرى".



حر آب في يافا

يصف لنا الصحفي "سليم....." الذي أجرى الحوار وكتب إسمه الشخصي فقط بداية اللقاء مع الكاتب عباس محمود العقاد كالتالي:" وصل أمس من القاهرة إلى يافا الكاتب العربي الكبير الأستاذ عباس محمود العقاد لإذاعة بعض أحاديثه القيّمة من محطة الشرق الأدنى، بناءً على دعوتها، وما نحسب أنّ الأستاذ العقاد بحاجة إلى تعريف، فهو الكاتب العربي الذي طبقت شهرته آفاق الشرق والغرب، وهو السياسي والبرلماني الذي سمعت وتسمع لصوته أروقة البرلمان المصري جلجلة مُدَوّية، وهو المؤلف العبقري الذي لا يزال يغذي المكتبة العربية بأروع التواليف والبحوث والدراسات، وقد إنتهزت هذه الجريدة فرصة وصوله فبعثت إليه بمندوبها الخاص، وأسفرت هذه البعثه عن الحديث القيّم التالي :"

ويواصل الصحفي وصف حالة اللقاء بالعقاد بالفندق وما رافق ذلك اللقاء من حر آب اللهاب فيكتب: "كان ذلك بعد ظهر أمس والأستاذ الكبير جالس بقامته الفارعة فوق كرسي من القماش في فندق الكونتننتال بيافا، وقد بدت على وجهه إمارات الضيق والتعب، فكان يتناول من حين الى آخر منديله ليمسح العرق المتصبب على جبينه ووجهه، فبادرني قائلًا - حر قوي يا سي سليم!...، قلت - الوقت صيف، والصيف لا يبَيّض الوجه في يافا وحبذا لو نذهب الى الشاطئ!...

وإرتاح الأستاذ للفكرة، فإمتطينا السيارة وقصدنا الشاطئ...وكُنت أفكّر طيلة الوقت في الحديث...كيف أبدأ به؟ وهل من اللياقة أخذ حديث منه وهو مُتعَب، فقد وصل من مصر هذا الصباح، وما هي الأسئلة التي تهم قراء فلسطين؟..." ويواصل الصحفي الحديث عن أية أسئلة سيوجهها للضيف.



قضية فلسطين قضية عادلة..أنا أقرب للتفاؤل



وعندما وصلت بهم السيارة الى شاطئ البحر في يافا التفت عباس محمود العقاد لمرافقه الصحفي سليم و "قال لي - فلسطين جميلة جدًا وأرفق كلمته بإشارة من رأسه وحاجبيه دلالة على الإيجاب..." يكتب سليم ردًا على ذلك " فبادرته قائلًا - والحر يا أستاذنا؟" فكان رد العقاد انه "ضحك وقال - الحر مشكلة لا تقتصر على فلسطين، إنها من مشكلات الشرق العربي بأجمعه...وأنا ممن يحبون هذه البقعة كثيرًا وأكثر مما تتصور...".

يصف لنا الكاتب لحظة دخولهم الى المقهى على شاطئ البحر ويقول : وإنزوينا في ناحية خليّة من كل عين..." ويبادر الضيف عباس العقاد بطلبه إجراء حديث صحفي معه فيرد العقاد قائلًا :" حديث إيه؟" ويقول الصحفي: "لفلسطين التي تحبها، وأدرك حالًا ما أرمي إليه " فقال العقاد: "يعني لجريدة فلسطين؟" وكان رد الصحفي: "الى فلسطين بواسطة جريدة فلسطين" فكان رد العقاد وهو مبتسمًا: "حُبًّا وكرامة وهات أسئلتك." ودار الحوار التالي:

"سّألته - ما هو رأيكم في قضية فلسطين وما هو مستقبلها السياسي كما يتراءى لكم؟

أجاب - قضية فلسطين قضية عادلة والذين يدافعون عنها يدافعون عن مسألة حياة وكرامة، ومهما يبلغ من تشاؤم للمتشائمين في مستقبل السياسة الدولية في العالم، فليس هذا المستقبل بالذي يساعد على إفناء أُمة حية تدافع عن وجودها، وتجد ممن حولها من أخواتها من يعاونها على الدفاع عن حقوقها، وأنا أقرب للتفاؤل من التشاؤم أو تغليب المخاوف !.

وكان العقاد يتطلع بهدوء وثقة، وكان صوته الأجش العميق يمس قلبي مسًا رقيقًا وددت معه لو أن جميع القراء شاركوني سماع حديث هذا الكاتب العظيم."



الجامعه العربية قوة لا يستطاع إغفالها

لسنا بمعرض نقاش أقوال الكاتب والبرلماني (السياسي)عباس العقاد وتوقعاته بما فيها "تفاؤله" من دور الجامعة العربية بما يتعلق بالقضية الفلسطينية، لكن ننقل بعض ما جاء في هذا اللقاء - الحوار، لمعرفة حقيقة ما كان يدور في الدول العربية بكل ما يتعلق بالقضية الفلسطينيه، والمؤامرة التي حيكت ما بين القوى الإمبريالية وفي مقدمتها بريطانيا والحركة الصهيونية ويتواصل الحوار في جريدة "فلسطين" كالتالي:

"سألته عن الجامعة العربية وعن الإجراءات التي ستتخذها الجامعة للدفاع عن فلسطين؟

أجاب - ليس هناك إجراءات في السياسة الدولية يمكن أن يُعتمد عليها غير توازن المصالح، فإذا كانت مصالح الدول الكُبرى تقضي عليها بإرضاء الأمم العربية فهذا هو أكبر ضمان لنجاح هذه الجامعة، وإن لم يكن هذا فلا فائدة هناك من السعي والتدبير، والذي أعتقده أنّ الجامعة العربية في العالم الحديث قوة لا يستطاع إغفالها، فليس إرضاؤها بأهون على الدول الغربية الكبرى من إرضاء غيرها.

قلت - لو فرضنا أن الدول الكبرى خذلت العرب في قضية فلسطين، فما هي الإجراءات التي يمكن للجامعة العربية إتخاذها عندئذ؟

قال - أولًا أنا أستبعد تُجمع الدول الكبرى على تأييد القضية الصهيونية أو أية قضية غيرها، إذ ليس هناك ما يقضي عليها بهذا الإجماع، وكل ما يمكن أن يقال،أن الأمم الغربية من أوروبية وأمريكية تشتمل على أناس يعطفون على قضية الصهيونية، وهذا وحده ليس كافيًا لإتخاذ إجراءات عملية حاسمة تؤدي الى النتائج الوخيمة التي لا بد أن تنتج عن إغتصاب حقوق العرب...

وسكت وأخذ يسرح ناظريه، في الأفق البعيد ثم أردف قائلًا : علينا الآن أن نعمل فلا نُضيّع الوقت...العالم يمشي سريعًا وقد تخطانا ويجب علينا أن نلحق به... وعلينا أن نهتم قبل كل شيء بمسألتين مهمتين،هما الإهتمام بالإقتصاديات والدعاية في البلاد الأوروبية والأمريكية لقضيتنا."

ويتواصل الحوار حول العديد من القضايا ومنها قضية إلقاء القنبلة الذرية من قبل الامريكان على مدينة هيروشيما في اليابان في الحرب العالمية الثانية في التاسع من أغسطس /آب 1945 ورأيه بموضوع حيازة القنبلة الذرية وإستعمالها وخطر تدمير العالم من هذه القنابل، هنا أجاب قائلا: "ولا أعتقد أن العالم سيبلغ من الجنون بحيث يسمح لعالم الحضارة التي بنيت بسواعد وعرق وعبقريات أجيال عديده من البشرية أن تزيلها إحدى هذه القنابل!"

لم يتواصل الحوار بعد ذلك ويختتم الصحفي حواره ويكتب:

"وهنا كانت الشمس تُرسل آخر إشعاعاتها الحمراء على الأفق قبل المغيب وتسربل المياه الزرقاء بلونها الوردي فتظهر بأجمل لوحة رسمتها يد الإبداع، فرأيت الأستاذ يتأمل هذا المنظر الرائع عند الغروب وبنفسه أشياء لا يعرفها إلا الشعراء وأصحاب العبقريات... فوددت لو أن الأستاذ يعود بقصيدة ورحت أنتظر.. والقلم لا يزال في يدي.... وكأنه أدرك ما يجول في خاطري، فتطلع إليّ وقال - كفايه بقى!... سيبنا دي الوقت... فتركته ولكن الى رجعه !..".

وكان الكاتب عباس محمود العقاد قد وجه تحية خاصه لفلسطين أبرزتها الصحيفة في إطار على صفحتها الأولى جاء فيها ما يلي:

تحية لفلسطين والعرب بواسطة "فلسطين"

"لقد وصلت أمس فقط الى فلسطين، وها أنذا أبادر فأبعث الى أبناء فلسطين العربية خاصة وإلى أبناء أمتي العربية عامة، بلسان جريدة فلسطين الغراء، بتحياتي خالصة ماركة، من هذا البلد العربي المقدس المبارك، وبتمنياتي صادقة ناطقة، لمناسبة شهر رمضان المعظم وعيد الفطر المُقبل، الذي أرجو أن يرى العرب جميعًا من طرازه في السنوات المقبله أعيادًا سعيدة وأيامًا حفيلة بالرخاء والحرية مديدة

عباس محمود العقاد"

* المصدر " صحيفة فلسطين - العدد 151- 6105، الجمعه 24/8/1945