عندما تكون الدولة لعبة.... ح1


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 6181 - 2019 / 3 / 23 - 03:58
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

من المؤسف جدا أن تكون دولة عريقة مثل العراق تمتلك كل مقومات الدولة الحديثة من أسس وقواعد وتاريخ وثروة بشرية تساندها عوامل القوة من الموقع الجيوسياسي والثروة وعناصر البقاء أن تتحول لدولة فاشلة على كل المستويات بدأ من صيغة النظام السياسي الحاكم وصولا إلى شكل التعاطي اليومي الذي يدير شؤون المجتمع والأفراد، هذا الفشل وإن كنا نؤمن أنه ليس وليد تطورات طبيعية ناتجة عن الاحتلال الخارجي وغياب إرادة وطنية واحدة، بل المؤكد هو تراكم فشل مزمن وتجارب سياسية لم تراعي طبيعة المجتمع ولم تنصاع إلى قوانين التطور وفلسفة بناء الدولة المعاصرة، ولكن ما زاد في الطين بله أننا خرجنا من دائرة الديكتاتورية الضيقة وحكم الحزب الواحد إلى فوضى الديكتاتوريات التي تنتمي إلى تناقضات وجودية في الرؤية وفي طبيعة الإنتماء الفئوي، هذا التحول كان من الخطورة بمكان أنه أسس لمفاهيم غريبة شقت وحدة الصف الوطني الهش نتيجة حكم العسكر والديكتاتورية المتفردة التي قادت العراق متعاقبة، دمرت النسيج الوطني وشرخت أسس المواطنة والوطنية بافتعال ما يسمى بأدلجة المجتمع وتوجيهه نحو مفاهيم لم تقوى على رعاية التنوع والتعدد الديموغرافي والأثنية فيه.
لقد جاء الأحتلال الأمريكي للعراق بعد فترة من أحداث محورية وتداعيات جوهرية شتت الهوية العراقية وعزلته بعيدا عما يساعد في إعادة بناء وحدته الوطنية وأمنه القومي، فكان التأسيس الجديد رضوخا لواقع مضطرب وتيه حتى في تحديد مفهوم جامع لمعنى المواطنة والوطنية في ظل صراعات دولية وإقليمية حادة تركزت في بعدها وجوهرها على ركيزة أساسية هو الصراع العربي الصهيوني، هذا الصراع الذي شكل مدخلا طبيعيا لكل السياسيات الوطنية لدول الإقليم ومنها العراق الذي هو معني بشكل أساسي في الخوض بمستنقع الصراع أراد ذلك أم أبى، فهو هدف من أهداف هذا الصراع وساحته كانت معرضة على الدوام أن تكون مسرحا للعديد من الرؤى والعمليات الجيوسياسية والجيوفكرية، فمنذ عام 1945 ولهذا اليوم وجد العراق نفسه في لب معركة وجودية لو تركها تجري وفق قوانين اللاعبين الكبار سيكون مهددا بمصيره وإن شارك فيها سيكون أيضا معرضا لنتائج تفرضها القوى الداعمة والمحرضة للصراع.
بعد حرب 1967 وما تلاها في 1973 كان العراق يخرج في كل مرة محملا بمسئوليات كبرى في دعم البلدان العربية وحركات التحرر الفلسطينية ومشاركا في الهم العربي، حتى جاءت أحداث إيران عام 1979 وما تلاها من ظهور للقوة الراديكالية الدينية وبداية صراع أخر بين نظريتين سياسيتين متناقضتين تتجاذبان الواقع الإقليمي المحيط به والمطوق من جميع جهاته بعناصر هذا الصراع الجديد، وانتصارا كما ظن القادة العراقيون لخط القومية والعروبة والهوية التاريخية له شكلت لديه قوة الانحياز نحو إحدى قطبي الصراع الذي لم يتركه القطب الأخر وجعل من تحطيم هذا التوجه وما يمثله هدفا أساسيا لانتصاره في معركة وجودية لا بد منها، هكذا تحول العراق أيضا لساحة كبرى للصراع وأثقل ذلك من حركته وعطل كثيرا من مستويات التطور الذي كان يضع أسسها من عام 1973 ولغاية عام 1980 الذي شهد خريفة المصادمة الأولى والطويلة التي جاءت بنتائج مأساوية زادت من عوامل الفشل التي بدأت تتضح على الواقع العراقي برمته خاصة بعد خروجه مرهقا اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا من حرب أكلت الأخضر واليابس.
من هنا بدأت أيضا المنظومة السياسية تستشعر أنها وقعت ضحية وهم القومية والعروبة والشعارات المرفوعة من قبل المحور الذي حارب العراق من أجله، ولم يتحمل هذا المحور الذي بدأت قوته الفعلية تظهر مع ضعف القوة العراقية والإيرانية بشكل ملفت، كانت للحكومة العراقية مطاليب وأستحقاقات تظن أنها دين في ذمة القوى الجديدة البارزة في المنطقة ومنها دول الخليج العربي تحديدا السعودية والكويت، حتى أنعقد مؤتمر القمة في بغداد في تموز عام 1990 ليتأكد للسلطة أنداك أنها كانت ضحية خدعة ولعبة كبرى حطمت بشكل مؤثر وجود العراق ودوره الإقليمي ومستقبله، هذا الإحساس بالفشل لم يتم معالجته بواقعية برغماتية سياسية مدركة لأبعاد الظروف المستجدة وعلاقة كل ذلك بالصراع الأساس الذي ما زال هو المحرك الأساس لكل الأحداث العربية والإقليمية، وظن أن الانتقام من دول الخليج العربي وتأديبها من خلال ضرب دولة الكويت والسيطرة على وجودها سيسهل له طريق التعويض واستعادة القوة وزمام الأمور.
لم يلحظ النظام السابق أن الواقع الجديد ما زال هو جزء من واقع مرسوم ومحاط بكل أسباب الحرص على بقائه هكذا خدمة لصالح الصراع الأول، وأن التغيرات الجغرافية والسياسية ليست في صالح مؤسسة الصراع وبالتالي سيواجه ارتدادات عنيفة وعميقة من راعي الصراع ومحركه طالما أنه سيعزز من قوة أحد الطرفين فيه والذي هو كما معلن ومتعارف عليه يعد نفسه مسئولا ومركزيا في إدارة الصراع، كما أن التطورات العالمية كانت تجري على النحو الذي يؤكد أن هناك في الأفق تبدلات جوهرية في العلاقات الدولية، وإن سياسات الحرب الباردة ونتائجه لها أمتداد على صراع الشرق الأوسط ونتائجه، لم تكن الرؤية العراقية ناضجة ولا مستوعبة لكل هذه التحولات من منطق أنه خرج منتصرا في الحرب مع إيران وبالتالي فإنه قادر على أن يفرض شروطه على الخليج ودوله بالشكل الذي يجعل من قوة مركزية جديدة.
كان وهم القوة وروح الأنتقام أكبر في قدرتها على التأثير في القرار العراقي بعد أب 1988 ساعد في ذلك عدم قدرة المنظومة العربية المؤسساتية والشعبية على معالجة ما يجري لا في الصراع العربي الصهيوني ولا في معالجة أثار الحرب العراقية الإيرانية، كان الواقع العربي مشلولا ومشتتا وبدأت نتائج الصراع القديم تميل لصالح الكيان الصهيوني وشهدت أروقة الجامعة العربية ومؤسساتها شللا في أتخاذ قرار لوقف هذا التدهور العربي، وظنت السلطة الحاكمة في بغداد أنها يمكن أن تكسب الحرب الجديدة وبسرعة ودون عواقب مؤثرة ساهم في ذلك الإشارات والتلميحات التي أستقصتها من خلال ردود أفعال بعض القوى الدولية التي فهمت على أنها تأييد لموقفه وأنحيازا ومكافأة له فوقع ما وقع ليشهد العراق حربا ضروسا بتقنيات وقدرات عملاقة من أكثر من ثلاثين دولة عنوانها تحرير الكويت ومن ثم بعدها ما سمي بالحصار الاقتصادي والسياسي والعسكري تحت يافطة نزع أسلحة الدمار الشامل العراقية.
لقد مرت سنوات التسعين من القرن الماضي ثقيلة جدا على العراق دولة ومؤسسات ومجتمع وأفراد كادت أن تعيده إلى عصور التخلف والجهل والأمية، وساهمت وأسست لظاهرة أو لظهور أنماط أجتماعية وسلوكية غريبة عن واقعه تحت تأثير الفقر والعدوان المستر الذي لم يترك مؤسسة ولا منشأة أساسية قادرة على العمل بالشكل النظامي، كما ساهم نظام العقوبات المفروض من الأمم المتحدة والتزام دول الجوار ممن كانوا سببا في إدخاله في آتون حرب الثمان سنوات بشكل أعمى وحتى الجارة إيران الي تتشدق بمحاربة الشيطان الأكبر أمريكا كانت هي أمريكية أكثر من أمريكا في حرصها على تطبيق الحصار، فتعاظمت هجرات العراقيين إلى دول شتى في العالم بحثا عن أمان وفرصة عمل، في حين كان الداخل العراقي يتراجع بشكل مخيف ومأساوي مع إزدياد القهر السلطوي وغياب أمل في نهاية معقولة لنظام العقوبات الدولية وإعادة الحال إلى ما كان عليه قبل 1990.