تفكيكية دريدا بين الفرادة في الإبداع وطبيعية المعرفة الإنسانية. ح2


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 6171 - 2019 / 3 / 13 - 10:11
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

في الجزء الأول من المقالة تناولنا بشكل سريع ما نفهمه من التفكيكية عموما ليست كفلسفة ظهرت في نطاق الفكر الإنساني بناء على خيبة الإنسان المعاصر من نكوصات الفلسفة التقليدية وحتى الحداثية منها من أعطاء الوجود معنى أخر، معنى لا يتصل بالتحليل والمنطق الأرسطوي ومقالات المدارس الفلسفية التي لم تحافظ على الإنسان كقيمة محورية في هذا الوجود بعيدا عن الزمان والمكان، فكل ما ظهر من فكر فلسفي وحتى ما هو بعيد عن الذات الغربية البيضاء القاهرة والمتزاحمة مع غيرها وأحيانا مع نفسها، هو مجرد تبطين وتبرير وتسويق لقوة وأحتكامات هذه الذات وقوانينها التي تسربت من الأنا إلى الـ (نحن) بصيغة أخلاقية أو فلسفية مثل حقوق الإنسان والديمقراطية ووووو الكثير من المفاهيم التي ولدت حديثا أبهرت الإنسان الضائه في التيه السياسي والخبط المزري الذي يمر به العالم، ليقع في الأخر ضحية أوهام هي بالأخر مجرد مرحلة جديدة من مراحل الديكتاتورية الذاتية للشخصية الغربية.
إن أفكار مثل الديمقراطية والتعبير الحر عن الذات والأقتصاد الليبرالي وعولمة العالم من خلال جعل كل شيء متاح وممكن أن يتدوال بسهولة عبر منظومة من الأليات والوسائل والتقنيات الممتدة بلا حدود، والتي يعدها البعض مفتاح سعادة الإنسان في العالم الجديد الذي لا يفرق بين أعضاء المنظومة البشرية الي تستوطن الكرة الأرضية أو هكذا ما يزعمه الليبراليون الجدد، لو قرأنا تلك الأفكار وفقا لرؤية ولعبة دريدا التفكيكية سنجدها مجرد عودة تقنية لمرحلة الأستعمار الأوربي وصراع القوميات والمصالح في أوربا أبان نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين، ولكن بوجه جديد لا تبدو عليه أثار التلوث التاريخي والعار الذي أرتكبه العالم الغربي بحق الإنسان.
فالعولمة بعنوانها العريض وحقوق الإنسان والديمقراطية تعني في الأخر تسخير القوة المادية والمالية الضخمة التي يتمتع بها الأغنياء وذوي الخبرة المتأصلة والكارتلات التي تملك خطوط الأنتاج العالمي سلعي وخدماتي، من العمل بحرية أكثر وأكبر ومن دون حواجز ولا قوانين تمنع هذا التمدد بحجة أن العولمة تفترض الأنتقال الحر والإنسيابي للحركة الأقتصادية عبر الحدود، هذه ليست حرية ولا ديمقراطية لمن لا يملك ولا يقدر أن ينافس أو يتطور بذات القيم والنسب التي يتحرك بها مجتمع النيوليبرالية برموزه، ولو دققنا عبر الأحصائيات والرسوم البيانية بين نسبة التدفق من وإلى العالم الثالث وحتى بين أعضاء المنتدى الدولي للأقتصاديات الكبار، نرى بشاعة الصورة والأختلال العظيم في واقع النسبة والتناسب التي يفترضها المبشرون بالعولمة، هذا الفعل بوصفه سياسة دولية حداثية يشكل في مظهره وجوهره عيبا أخلاقيا وجريمة أممية ترتكبها الذات الغربية المستندة إلى فلسفتها المتأصلة ذات الجذور التلمودية القديمة، في الوقت الذي يتجرد في غالبية المجتمع فرديا من حق المقاومة لهذا الأستعمار العميق أو حتى أنتقاده ليمارس ضده كل أشكال التشهير والترويع والإقصاء بأدعاء فكر التطرف والأصولية والدعوة لتقييد حرية رأس المال في أن يقود العالم من جديد نحو ثورة قادمة شبيه بالثورة الصناعية.
إن أهم ما نستخلصه من قراءة تفكيكية لمجريات السياسة الدولية التي هي بالتالي مجرد إنعكاس لسلوكيات رأس المال المتحكم هو النتيجة الصادمة والتي تنبأ بها البعض من قبل بغياب مفهوم السياسة كفن لإدارة المجتمعات وتنظيم العلاقة ما بين السلطة والشعب، لتتحول إلى منظومة علاقات عمل بين المالك والمستهلك وبناء قواعد جديدة تتيح لهيمنة رأس المال المتحرك على عالم السلطو والإدارة المجتمعية، فلم تعد هناك أحزاب سياسية ذات أيديولوجية مؤطرة تفصح عن نفسها من خلال السلطة أو من خلال العملية السياسية، فقد نجح الغرب الرأسمالي من تحويل هذه الأحزاب لمجرد مافيات أيديلوجية تجري وراء المصالح وليست وراء الأهداف والقيم السياسية والأجتماعية التي أمن بها الجمهور.
لقد أعلنت العولمة موت الأحزاب والتنظيم الحزبوي وأحلت محله ميول أستهلاكية من خلال موجات من الموضات التي تتعلق بأتفه الأشياء وأقلها منفعة إلى الأكثر حداثة وأعقد تقنية، لقد تحولت العالم مثلا من مفاهيم (الأشتراكية الدولية وحركات السلام وحركات الخضر ومجموعات الدفاع عن حق تقرير المصير)، مثلا إلى إنقسام أخر قد يبدو تافها وليس ذا قيمة منتجة للمعرفة والأخلاق السياسية إلى معسكرات، وهمية تدار رموزها من ذات المصالح المهيمنة على حركة المال ورأس المال دون أن يساهم بشكل أو بأخر بتحسين واقع الإنسان، لقد أنقسم العالم فعلا بين مشجع أعمى لريال مدريد ومشجع أكثر عميا لبرشلونة وكأن الصراع الوجودي اليوم تحول من صراع من أجل التحرر والأستقلال إلى صراع تنتجه الأله الإعلامية الرهيبة التي تمارس غسل العقل الجمعي والجماعي لسكان الأرض.
هذه النتائج التي نستخلصها من قراءة تفكيكية للفكر السياسي العالمي وما يشاع عن أطوار من التحولات العالمية التي تبشر بمستقبل واعد، تؤكد أن العالم يسير بسرعة نحو الهاوية التي تراها التفكيكية السياسية من خلال الفعل التزاحمي للذات الغربية المهيمنة والمسيطرة والتي تسحق كل صوت يقابلها أو يوجه لها النقد تراها قادمة وبسرعة وتعجيل متزايد ما لم يعي المجتمع العالمي خطورة الركوب جميعا في قطار واحد على سكة واحد وبقيادة واحدة، إنها تستخدم ذات الأسلحة القديمة مثلا التي مورست ضد الشعوب الفقيرة والمستعمرة والمنهوبة في وجودها ومستقبلها، ولكنها اليوم مطلية بألوان زاهية مع إعلام ديماغوجي لا يرى في العالم شيء مقدس سوا الذات الأوربية المتعالية، الإعلام المهيمن على كل لحظة مشاهدة أو لحظة قراءة أو حتى على تكوين وسيرورة الرأي والأفكار، يمارس قوته وتمرير أجنداته بسحر خاص ، سحر جذاب ومتقن ومدروس بعناية وممنهج وكأن هم الإنسان المعاصر هو الحصول على اللذة الحسية السريعة وكأنه يتناول فطيرة همبركر أمريكية على السريع.
المنطق الرئيسي الذي أمنت به التفكيكية من جملة ما أمنت به هو معارضة الهيمنة القائمة في سياسات التمايز والتعارض، وحتى لا نضع لتفكيكية في محل وموضع أتهام برفضها هذه السياسات التقليدية ذات الجذور الميتافيزيقية التي غرستها الثقافة والمنظومة الفكرية في واقع السياسة، نؤكد أنها أي التفكيكية ليست حركة راديكالية إنقلابية أو تطرفية تحارب القيم السياسية والأخلاقية الأوربية، وإنما هي قراءة عميقة لما تحت الخطوط المعلنة والمقرؤءة تعتمد إلى أستجواب الفكر النص الواقع المقولات التراث لتبين خطوط التناقض والمفارقة، دون أن تحو أو تطرح بديل لأنها غير مكلفة بإصلاح العالم، إنها تمارس تعرية الموضوع أيا كان للكشف عن اللا عدالة واللا منطق واللا مسئولية تجاه الوجود الكلي، مع كل هذا فالتفكيكية أيضا ليست حيادية أو متجردة إنها تنادي بالتوافق المنطقي الطبيعي للأشياء ووحدة البناء الفكري وسلامته من الأنحراف والتضليل، إنها رحلة البحث عن حدود الكمال المعرفي والفلسفي الحقيقي للإنسان الواحد الذي ينتمي في جذوره إلى إنسان واحد أقدم، إنها تقول أن الإنسان في الأخر هو ذاته ولكن بصور وصيغ متعددة ظاهريا لكنه في الجوهر واحد لا متضاد ولا متنازع.