الميرغني النجار الذي غيرته ثورة 1919


إلهامي الميرغني
الحوار المتمدن - العدد: 6169 - 2019 / 3 / 11 - 22:34
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان     

كان يملك ورشة نجارة كبيرة في مدينة المنيا ورثها عن والده الأسطي عبدالعال.الذي حرص علي ان يرث أبنائه الصنعة والطريقة الصوفية.وقد كان الحج عبدالعال كلما حملت زوجته يرسل إلي السيد علي الميرغني في السودان قطب الختمية يخبره بأن زوجته حامل فيرسل له السيد أسم المولود وكان الميرغني هو أكبر أبناء الحج عبدالعال تبعه أدريس وعثمان ومحجوب وتاج السر وسرالختم .
لم يكمل الميرغني تعليمه ولكنه كان شغوفاً بالقراءة وحلقات الشعر والقصص الأدبية ، وكان منذ نعومة أظافره متمرد وعنيد وصلب في خلافاته مع الأسطي عبدالعال.كما كانت والدته سيدة نموذج شديد الثراء في قوة الشخصية والفصاحة تحفظ القرأن الكريم والأشعار وخاصة "العديد" شعر الأحزان في صعيد مصر في هذه الفترة. ومبكرا زوجوا الميرغني من أمينة أبنت عمه فأنجب منها أربعة أطفال أثنين ذكور وأثنين إناث.
وفي أحد المرات دخل الأسطي عبد العال الورشة فوجد العمال متوقفين عن العمل وملتفين في حلقة يتوسطها الميرغني يقرأ لهم أشعار فطرده من الورشة .وكان كثيراً ما يذهب إلي مسجد اللمطي القريب من بيت العيلة ليجلس علي شاطئ النيل يفكر في حياته وانه غير راضي عنها ، غير راضي عن عمله بالنجارة رغم مهارته التي يشهد بها الجميع وغير راضي عن علاقته بزوجته وأبنائه كان طموحه دائما يسحبه بعيداً عن شاطئ النيل ومسجد اللمطي وقصر علي شعراوي ليجد نفسه في القاهرة وسط زحامها وضجيجها. ثم يفيق علي صوت أحد صبيان الورشة وهو يناديه لأن أحد الزبائن يسأل عنه.
كانت سرايا الحاكم العسكري الانجليزي لمدينة المنيا علامة علي كورنيش المدينة قبل بداية حدائق سلطان باشا الممتدة الي حدود قرية دماريس ومن السكة الحديد إلي كورنيش النيل.وكان الميرغني يردد دائماً كل هذه الأرض أخذها الخائن نظير تسليم عرابي وبيع مصر.ويقص علي زملائه واصدقائه قصة عرابي وثورته علي الخديوي وكيف خانه سلطان باشا وباع عرابي ومصر للاستعمار الانجليزي.
كان سعد زغلول ورفاقه في القاهرة يديرون المفاوضات مع الانجليز وكانت مصر كلها تتابع ما يحدث وعندما صدر قرار نفي سعد زغلول ورفاقه تفجرت مظاهرات عارمة في مدينة المنيا يوم 10 مارس 1919وانقطعت اخبار القاهرة والمواصلات والصحف واستمرت المظاهرات تطوف شوارع مدينة المنيا. وتألفت لجنة وطنية للمحافظة علي النظام وأرواح الأجانب وأنشأت لها فروع في المراكز والقري . تشكلت اللجنة من نحو خمسة وعشرين عضو من أعيان المدينة والمديرية .
يوم 28 مارس خرجت مظاهرة تهتف ضد المدير محمود نصرت بك وتدخل البكباشي شاهين لمنع المظاهرة علي رأس قوة من الجيش المصري وطالب من جنوده إطلاق النار علي المتظاهرين فرفضوا فأطلق بنفسه النار وسقط ثمانية شهداء وفقا لرواية عبدالرحمن الرافعي .
يوم 30 مارس جاءت المنيا قوة عسكرية بريطانية بقيادة البريجادير جنرال هدلستون الذي اصبح حاكم السودان عام 1945.وبدأ الحوار مع أعضاء اللجنة الوطنية وامر باعتقال ستة منهم وهم محمد توفيق بك إسماعيل والدكتور محمود بك عبدالرازق ومحمد أفندي علي رحمي وحسن أفندي علي طراف والاستاذ رياض الجمل المحامي والشيخ أحمد حتاته المحامي الشرعي.وعقدت لهم محكمة عسكرية يوم 15 إبريل.
لكن الميرغني لم يكن له دور ظاهر في المظاهرات التي عمت مديرية المنيا فقد انخرط بكل قواه في التنظيم السري لحزب الوفد الذي أسسه عبدالرحمن بك فهمي .وكانت مهمتهم جمع التوكيلات من قري مديرية المنيا وتوزيع المنشورات بتطورات الثورة وحفز المواطنين والفلاحين علي الانضمام للثورة وقيادة المقاومة ضد الانجليز وكل رموزهم .
فجأة وجد الميرغني النجار نفسه وسط خلية المنيا في " جمعية الانتقام " الأسم الذي أطلقته السلطات علي تنظيم الثورة السري عند محاكمتهم .وكنت محظوظ بأن استمع من جدي رحمه الله عن تفاصيل تنظيمهم السري . وكيف جند مدرس لغة عربية معروف بحسن الخط العربي ليكتب المنشورات لكي تسهل قرأتها .واستأجرو غرفة بالقرب من الشارع الجديد الآن لتكون مقر لهم وبها البلوظة أداة الطباعة والأوراق . وكيف كانوا يصيغوا البيانات ويطبعوها ويوزعوها.
وحكي لنا أنه صنع حقيبتين بنفس المواصفات واللون للطبيب محمود بك عبدالرازق مسئول مجموعة المنيا وقد كان الأطباء في تلك الفترة يحملون حقائب خشبية.ويدخل الدكتور محمود الي ورشة الاتحاد الوطني ومكتب الأسطي ميرغني ليترك الحقيبة الفارغة ويأخد حقيبة مليئة بالمنشورات يتولي توزيعها علي العمد والمشايخ في مختلف قري المديرية.
وكان يجمع المنشورات التي لم توزع ويضعها في أجولة نشارة الخشب التي يرسلها لزوجته لتستخدم كوقود للفرن وصنع الخبز وطهي الطعام .واتفق مع زوجته علي عدم استخدام نشارة الخشب التي يرسلها من الورشة حتي يعود . وعندما يعود للمنزل يحمل أجولة النشارة ويصعد الي سطح المنزل ليضع المنشورات في أكياس بلاستيكية لكي لا يصلها الماء او الرطوبة ويفرشها علي سطح المنزل . ثم يغطيها بحصير قام في السابق بتغطيته بالطين بحيث يبدو وكأنه جزء من ارضية سطح المنزل .وعندما يحتاجون بعض من هذه المنشورات لتوزيعها يعود للمنزل ليخرجها ويضعها في أجولة نشارة الخشب ويرسل أحد صبيان الورشة ليحملها إليه ليتولي مع زملائه توزيعها وفقاً للخطة التي وضعوها .
لقد وجد الميرغني في أحداث الثورة وتنظيمها السري نفسه التي ظل سنوات يبحث عنها ووظف كل طاقات التمرد التي يحملها داخله في فعل ثوري وضع المنيا المدينة والمديرية ضمن أهم المحافظات التي شاركت في ثورة 1919.
يوم 18 مارس ( عيد المنيا القومي حالياً) صدرت التعليمات للثوار بمهاجمة القطار القادم من الاقصر باتجاه القاهرة ووقع هجوم في ديروط ولكن الهجوم الأكبر حدث في ديرامواس وقتل الثوار ثمانية أفراد هم القائمقام بوب بك مفتش السجون في الوجه القبلي والماجور جارفز والملازم وللبي وخمسة جنود. وكانت المواجهات الثورية تمتد لكل مراكز وقري المنيا.
ورغم ان وزارة محمد سعيد باشا قد اتفقت في يولية 1919 علي وقف تحويل المصريين للمحاكمات العسكرية.الا انه تم توجيه ضربة للتنظيم السري للثورة في قضية عبدالرحمن فهمي بك وهو الذي كان مهندس مقاطعة لجنة ملنر.واعتقل الميرغني ضمن مجموعة المنيا في مايو 1920وقدم للمحكمة العسكرية التي امتدت من يوليو إلي أكتوبر 1920.وكان للأمن أختراق ضمن التنظيم من شخص يدعي عبدالظاهر السمالوطي وقدم ثمانية وعشرين شخص للمحاكمة بينهم الميرغني النجار.
وقررت المحكمة العسكرية اعدام عبدالرحمن فهمي وعدل الحكم الي السجن مع الشغل 15 سنة وجاء الحكم بالبراءة علي كل من منير جرجس عبدالشهيد وأنيس سليمان قرياقص ميخائيل ومحمد الميرغني .
خرج الميرغني من السجن ولكنه كان قد عاش التحول الكبير خلال فترة العمل السري والاعتقال فصار غريباً عن كل ما حوله عن ورشته واصدقائه واسرته وزوجته وابناءه. اصبح صامت طول الوقت قليل الكلام يقظ فقد جفاه النوم . يتقلب طوال الليل في سريره يبحث عن مخرج من هذه الحالة.
واستيقظت الأسرة ذات صباح لتجده اختفي أو تبخر وقد ترك تحت وسادته عشرة جنيهات هي كل ما يملكه ومفاتيح ورشة الاتحاد الوطني.بحثت عنه الأسرة في كل مكان ولم تجده.سألوا عنه كل اصدقائه وبحثوا في كل مركز وقري المنيا لكنه تبخر.وترددت عنه قصص من قبيل انه نزل للسباحة في نهر النيل وغرق ، أو ان قطار دهسه وهو يعبر قناطر المنيا إلي أخر هذه القصص.
بعد تسع سنوات من الاختفاء كان أحد أبناء المنيا في القاهرة وذهب ليصلي الظهر في الجامع الأزهر ، وفجع الرجل عقب انتهاء الصلاة فقد وجد أمامه شيخ معمم من طلاب الأزهر. وكان هذه الشيخ هو نفسه الميرغني النجار الذي ظنت أسرته أنه مات.لكن الحقيقة ان ثورة 1919 والعمل في التنظيم السري للوفد كانوا نقطة التحول التي جعلت الميرغني النجار أحد علماء الأزهر ويستكمل دراسته حتي يحصل علي شهادة عالمية الأزهر أعلي درجة علمية يمنحها الأزهر في ذلك الوقت.
وعرفت الأسرة انه لا يزال حي وكان قد انفصل عن زوجته أبنة عمه ولم يعود للمنيا الا عند وفاة أحد أقاربه وهو محمود بك حسين وفي سرادق العزاء شاهده أبناؤه بعد سنوات الغياب . لقد حولت الثورة الميرغني النجار الي الشيخ محمد الميرغني المحامي الشرعي الذي عاد للمنيا وفتح مكتب للمحاماة ولكنه لم يستمر طويلاً. فروح التمرد وحلم الثورة كانا قد تملكا من روحه. فعاد للقاهرة والتحق بالعمل في وزارة الشئون الاجتماعية وظل سنوات يعمل في مؤسسة رعاية الأحداث بالجيزة وتدرج في مناصب الوزارة حتي صار مستشارا للدكتور حكمت أبو زيد وزيرة الشئون الاجتماعية في الستينات.
استقر الميرغني في القاهرة ولكن ظل مرتبطا بالمنيا وفي الاربعينات قرر خوض معركة مجلس النواب في مواجهة علي شعراوي في مدينة المنيا بعد أن انشق علي الوفد عندما رفع بعض الوفديين شعار " الاستعمار علي يد سعد ولا الاستقلال علي يد عدلي " واعتبر ذلك وثنية سياسية. وعندما وصل الاربعينات كان مستقلاً عن الأحزاب .
وابتدع جمع مبلغ التأمين الانتخابي من المواطنين فطاف احياء وقري مدينة المنيا يدعوا اللي عايز ينتخبني يدفع قرش لكي يكمل مائة جنيه قيمة التأمين لانتخابات مجلس النواب . وكانت شعاراته الانتخابية " انتخبوا العالم النجار " "الميرغني المستقل عن الأحزاب " وطرح عدد من البيانات الانتخابية التي تعكس رؤية اجتماعية وانحياز واضح ولكنه خسر أمام شعبية وأموال ونفوذ علي شعراوي . وقد اصابته هذه الهزيمة بجرح جديدظل يلازمه لنهاية حياته.
وعندما بلغ سن التقاعد قرر العودة مرة أخري إلي مدينة المنيا وحضر أول احتفال بعيد المنيا القومي في 18 مارس 1967 وتم تكريمه كأحد رموز ثورة 1919.لقد كانت روحه الثائرة المتمردة هي التي تقوده وتدفعه للتغيرات الكبري طوال مسيرة حياته. وقبل أيام من وفاته نظم قصيدة يقول مطلعها:
إذا الموت وفاني وغيبت في قبري
هل يذكر الاحرار ما كان من أمري
وفي إبريل 1967 غادر الميرغني العالم النجار الحياة ليبقي بتمرده وثورته علامة في تاريخ المنيا في ثورة 1919 . ولازال الأحرار يذكرونه ويتناقلون تاريخه وتاريخ الثورة.
إلهامي الميرغني
11/3/2019
• الكثير من وقائع الثورة مأخودة من عبدالرحمن الرافعي – ثورة 1919 – تاريخ مصر القومي من سنة 1914 إلي سنة 1921 –دار المعارف – الطبعة الرابعة 1987 – صفحة 256-397.