لماذا تأخر الإنتقال إلى الشيوعية


فؤاد النمري
الحوار المتمدن - العدد: 6155 - 2019 / 2 / 24 - 20:14
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

لماذا تأخر الإنتقال إلى الشيوعية

أحد القرآء الأذكياء طرح عليّ قضية جوهرية تقول .. أعلن ماركس بيانه الشيوعي (المانيفيستو) في العام 1848 والعالم اليوم في العام 2019 والشيوعية لم تبدُ في الأفق بعد مرور 171 عاماً خاصة وأن ماركس نفسه كان قد رأى، كما أكد في البيان، شبح الشيوعية يحوم في سماء أوروبا . أيعقل أن ماركس مهما كانت عبقريته تتجاوز حدود الخيال البشري أن يتنبأ بوقائع ستقع بعد انقضاء قرنين كاملين، هذا إذا ما سلمنا أن العالم سينتقل إلى الشيوعية في العام التالي لعام 2047 رغم أن الوقائع لا تشي بذلك !!؟
كيف لماركسي مثلي أن يبرر عمره السياسي الممتد لسبعين عاماً دون أن ينحرف قيد شعرة عن المبادئ والفلسفة الماركسية رغم كل المصاعب والأهوال التي واجهتها ؟ كيف لي أن أبتدع جواباً قميناً بتفكيك مثل هذا اللغز الصعب الذي طرحه علي هذا القارئ الذكي !؟

ماذا عساي أن أقول في هذا !!؟ هل علي أن أعترف أن ماركس كان قد أخطأ في مكانٍ ما بعد أن أنفقت كل العمر مراهنا بروحي وبخبز أطفالي على صحة الماركسية مرددا حكمة لينين "الماركسية كليّة الصحّة" !؟ كيف لي أن أسمح في نهاية العمر أن يجرني عدو متذاكٍ، قد يكون هو هذا القارئ الذكي، إلى المقصلة لتفصل رأسي الماركسية عن جسمي العجوز ؟؟
- لا لن أسمح بذلك حتى لو كلفني كل نهاية العمر .

لذلك جهدت أبحث عن أداة تفكك هذا اللغز الصعب من بين ما حشر في دماغي خلال سبعين عاماً من أدوات وأفكار يفبلها العقل والمنطق . ولما وجدتني أفشل في العثور على تلك الأداة ترتب علي أن ألجأ لقراءة التاريخ وهو المحكمة ذات الأحكام المبرمة كي أعرف لماذا حكم بفشل مشروع ماركس خلال قرنين طويلين !! هل اقترف ماركس خطأً في المانيفيستو وأين !؟

في العام 1848 أعلن ماركس وإنجلز البيان الشيوعي "المانيفيستو" يدعو عمال العالم لأن يتحدوا ويشكلوا أحزاباً شيوعية تقوم بالثورة تطيح بالنظام الرأسمالي العالمي لأجل الإنتقال إلى الشيوعية . لقد رأى ماركس أن التوسع المطرد للنظام الرأسمالي لا بد وأن يضاعف حجم الطبقة العاملة وهو ما يمكنها من الإنتصار في صراعها ضد الطبقة الرأسمالية وإقامة دولة دكتاتورية البروليتاريا القادرة وحدها على محو كل الطبقات بما في ذلك طبقة البروليتاريا نفسها ليصار إلى المجتمع الشيوعي الخالي من الطبقات . هذا ما دفع ماركس إلى التعمق في البحث في النظام الرأسمالي فكتب في العام 1858 مساهمة في نقد الإقتصاد السياسي ( A Contribution to a Critique of Political Economy) وهي الأصول الأولى لكتابه الشهير رأس المال (Das Kapital) الذي يعتبر حجة في الإقتصاد السياسي والأساس الصخري للدعوى الشيوعية .

ففي أواسط القرن التاسع عشر كان النظام الرأسمالي بالكاد اكتمل بناؤه بتفاصيله الرئيسة حتى ظهر في ألمانيا شاب عبقري اسمه كارل ماركس درس الفلسفة واكتشف القانون العام للحركة في الطبيعة "المادية الديالكتيكية" وهو القانون المسؤول عن تشكيل كل أشياء الطبيعة المادية وغير المادية وعن تطورها ؛ فكان أن اكتشف عوامل تطور النظام الرأسمالي وانتهائه على يد البروليتاريا .

في العام 1864 إنتقل ماركس من النشاط النظري إلى العملي وشكل الأممية الأولى تقود بروليتاريا العالم إلى الإتحاد والوعي بالذات من أجل القيام بثورة شيوعية . في العام 71 نهض عمال باريس واستولوا على السلطة فيها وشكلوا كومونة باريس لكنهم لم يستطيعوا الإحتفاظ بالسلطة أكثر من شهرين . كانت كومونة باريس درساً قاسياً لماركس . لقد قاتل العمال بكل شجاعة دفاعاً عن الكومونة وضحى الآلاف منهم بأرواحم في القتال ضد جيش البورجوازية الفرنسية والجيش البروسي الذي استدعته البورجوازية الفرنسية ليجعل من باريس مسلخاً للعمال حتى باتت باريس بحيرة من الدماء ؛ لكن البلانكيين – أنصار لويس بلانكي (Louis Blanqui) الإشتراكي الطوباوي وكانوا التيار الجارف في الكومونة لم يعوا بالذات ولم يعلموا أن الثورة الإشتراكية لا تنجح بغير قيادة دولة دكتاتورية البروليتاريا والبلانكيين أبقوا على الدولة البورجوازية دون أدنى تغيير أو تبديل .
إذاك أقلع ماركس عن العمل السياسي وحل الأممية الأولى في العام 1873 التي كان قد شكلها في العام 1864 ثم لم يمارس العمل السياسي خلال السنوات العشرة المتبقية من عمره وقد رأى بأم عينية أنه حتى البروليتاريا المتقدمة في باريس لم تكن في مستوى الوعي الذي بثّه في المانيفيستو .

في العام 89 رأى فردريك إنجلز رفيق ماركس وشريكه في المانيفيستو أن أحزاباً اشتراكية كبرى ذات وزن سياسي تدعي تمثيلها للعمال برزت في دول غرب أوروبا ففكر في إحياء نظام الأممية الأولى لكن بعضوية الأحزاب وليس الأفراد وكان ذلك في العام 90 . برز في قيادة الأممية الثانية، بعد رحيل إنجلز في العام 94، كاوتسكي الأمين العام من ألمانيا وبليخانوف من روسيا وفلاديمير لينين فيما بعد 1905 . في المؤتمر العام للأممية الثانية في شتوتغارت/ألمانيا 1907 اتخذ المؤمر قراراً باقتراح من لينين يقضي بقيام البروليتاريا في الدولة الأوروبية المشاركة في الحرب الاستعمارية المتوقعة بالإستيلاء على السلطة واستعادة السلام في المجتمع . لكن الأممية في اجتماعها في بازل/سويسرا في العام 1912 نقضت قرار شتوتغارت وسمحت باشتراك الأحزاب الاشتراكية في الحرب بحجة الدفاع عن الوطن وهو ما جعل البلاشفة بقيادة لينين ينفصلون عن الأممية لخيانتها في خدمة الرأسمالية في حروبها الاستعمارية وأدان لينين كاوتسكي كمرتد وأدان بليخانوف شريكاً في الخيانة ومؤيداً للتحالف الإمبريالي – بريطانيا وفرنسا وروسيا – وانتهى بليخانوف يؤيد حكومة كيرانسكي المؤقتة ضد البلاشفة .

في العام 1922 وبعد أن إنتصر البلاشفة في الحرب الأهلية والحرب ضد قوى التدخل الإمبريالي الواسع أسرَّ لينين إلى ستالين وقد كلفه أن يقوم مقامه في قيادة الحزب بسبب المرض، أسر له بأنه فكر مراراً أن يستقيل من الحزب بسبب أن قيادة الحزب ليست ماركسية، ولذلك أوصى في رسائله الأخيرة بمضاعفة عدد أعضاء القيادة حتى 100 عضواً . تفكك قيادة الحزب في نهاية العشرينيات ما بين اليسار التروتسكي واليمين البليخانوفي إنما كان بسبب القصور الفكري في علم الماركسية . وعي تروتسكي لم يتغلب على ذاتويته .

في العام 1938 وأثناء إجتماع المكتب السياسي لم يتحمل ستالين خطابات الأعضاء في الإجتماع لقصورهم الفكري فصاح بهم موبخاً .." ما بكم ؟ ألا تقرؤون ماركس !؟ " , وهو ما دعاه لأن يأخذ إجازة ليكتب كتابة الثمين جداً "المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية" ويعطي تعليماته بدراسة الكتاب من قبل جميع أعضاء الحزب .

ضغط العمل في الخطط الخمسية الثلاث 1928 – 39 من جهة وأعمال تطهير الحزب من العناصر مقلقلة الموقف تجاه النازية من جهة أخرى مكنت غبياً مثل خروشتشوف كان قد طرد من معهد دونيتسك للصناعات التعدينية ليس لأي سبب آخر إلا الغباء، مكنته لأن ينتخب عضواً في المكتب السياسي في المؤتمر الثامن عشر للحزب في العام 39 .

لم تسمح الحرب وما استدعت من إعادة الإعمار 1941 – 1951 للحزب بأن يمتلك المبادرة لمراجعة سياساته وتجديد قياداته حتى المؤتمر العام التاسع عشر للحزب في أكتوبر 1952 حين قدم ستالين الخطة الخمسية الخامسة الكفيلة بالتحول من اقتصاد الحرب السائد منذ العام 38 إلى الإقتصاد المدني الإشتراكي . هناك وقف ستالين على منصة المؤتمر يطالب بتغيير كل قيادة الحزب التي لم تعد تصلح للنضال الشيوعي بقدر ما تشكل خطراً على مستقبل الثورة الإشتركية . إلا أن المؤتمر لم يستجب لطلب ستالين وأعاد انتخاب جميعهم . وسرعان ما أكد التاريخ صحة تقدير ستالين لتلك القيادة الذميمة والتي لم تعد شيوعية إمّا بسبب التقدم في السن مثلما ذكر ستالين أم بسبب الفقر الفكري كما استبطن إعلان ستالين قلقه الجدي على مستقبل الثورة الأمر الذي دفع ستالين لأن يعود يطالب المؤتمر بانتخاب 12 عضواً إضافيا من الشباب المتحمسين للشيوعية كيما يكون المكتب السياسي للحزب يضم 24 عضوا بدل إثني عشر وهو ما كان كما وردت أسماؤهم في دفاتر المؤتمر . وهذا ما يذكر المرء بوصية لينين في العام 22 بمضاعفة أعداد اللجنة المركزية إلى مائة عضو . مطالبة لينين في العامة22 وستالين في العام 52 بمضاعفة أعداد القيادة لا تعني غير الإشتباه بقدرة القيادة على القيام بالأعمال اللازمة لتقدم الثورة .
ما أكد صحة هواجس ستالين هو أن ثلاثة من أعضاء المكتب السياسي هم لافرنتي بيريا وجيورجي مالنكوف ونيكيتا خروشموف قاموا باغتيال ستالين بالسم أثناء عشاء 28 فبراير شباط 53 كما أشار فياتشسلاف مولوتوف في مذكراته . ليس هذا وحسب بل بعد سويعات من وفاة ستالين إجتمع أعضاء المكتب السياسي السبعة الذين كانوا مرشحين للتقاعد وقرروا إبطال انتخاب الإثني عشر عضواً جديدا متجاوزين صلاحيتهم . ليس هذا فقط ما يؤكد أن القيادة لم تعد شيوعية بل أيضاً قرار اللجنة المركزية في سبتمبر ايلول 53 الذي قضى بإلغاء الخطة الخمسية من أجل التسلح !! الحزب الشيوعي في الإتحاد السوفياتي بات معاديا للشيوعية والإنسانية . لقد بات حزب الجيش وليس حزب العمال . والعسكر كما هو معروف بحكم تقسيم العمل ضد الإشتراكية والشيوعية . وقائع التاريخ بكل تفاصيلها الدقيقة تؤكد أن الحزب الشيوعي السوفياتي بات بعد رحيل ستالين معادياً للشيوعية وليس أدل على ذلك من قرار اللجنة المركزية بإلغاء الخطة الخمسية في ايلول سبتمبر 53، وقرارها أيضاً في طرد البلاشفة السبعة من المكتب السياسي في حزيران يونيو 57، وقرار المكتب السياسي في أكتوبر 61 بإلغاء دكتاتورية البروليتاريا، والقرارات الثلاث غير قانونية وضد الشيوعية بصورة فاضحة .

ما يستوجب الخلوص إليه من خلال هذا الاستعراض التاريخي الموجز لتفاصيل وقائع العمل الشيوعي منذ العام 1848 وصدور البيان الشيوعي وحتى العام 1961 وإلغاء دكتاتورية البروليتاريا هو أن نكوصات العمل الشيوعي إنما كانت جميعها دون استثناء بسبب العدو الداخلي في الحركة الشيوعية وليس بفعل العدو الخارجي . توظيف الولايات المتحدة كل مقدراتها الهائلة في مقاومة الشيوعية بعد رحيل الرئيس روزفلت لم ينتج عنه سوى انهيار أميركا في السبعينيات كما تمثل ذلك بهزيمتها الفاضحة في فيتنام وانهيار قيمة عملتها الدولار من جهة، وتضييق الخناق على القوى المعادية للشيوعية في الاتحاد السوفياتي من جهة أخرى، فتأخر انهيار الاتحاد السوفياتي إلى العام 1990 بدل أن يكون في العام 1964 .
ما هو أهم من هذا بكثير هو أن النكوص الحالي الأعظم في تاريخ الحركة الشيوعية ليس إلا بفعل العدو الداخلي المتمثل بالصفوف الأولى في فلول الحركة الشيوعية . كنت نبهت منها في اجتماعي مع الأمين العام المساعد للحزب الشيوعي الأردني الرفيق طيب الذكر فهمي السلفيتي في أيار 65 وهو من عبر عن أسفه حين قاد انشقاقاً عن الحزب في العام 70 لأنه لم يصغِ إلي جيداً حيث أكدت له أن أعداء الشيوعية ما زالوا في الحزب حتى وإن صمدوا في السجن لثمان سنوات بالإضافة إلى من يصطف وراء عصابة خروشتشوف وهي المعادية للشيوعية . الرفيق السلفيتي لم يقبل مني تلك الأقوال وعلا صراخه يشجبها، وكان فراقنا منذ ذلك الإجتماع .
ما زال أعداء الشيوعية يحتلون الصفوف الأولى في الحركة الشيوعية التي باتت فلولا غير شيوعية . كيف يكون شيوعيا ذلك الحزب الذي يقصر استراتيجيته على تحقيق الديموقراطية البورجوازية والتعددية أي مساكنة العمال مع الطبقة البورجوازية وقبولهم بالإستغلال الواقع عليهم !!؟ كيف يمكن أن يكونوا شيوعيين أولئك الذين ينادون إلى النضال ضد الإمبريالية والرأسمالية قد انهارت قبل خمسين عاماً !؟ هؤلاء القوم الأغبياء لا يدركون أن الإمبريالية هي حالة تقدمية بغياب الثورة الشيوعية، فهي على الأقل تسارع ديمومة الثورة الشيوعية وتعمل على تصليب وحدتها .
ليس لدي أدنى شك اليوم في أن الأحزاب الشيوعية في العراق ولبنان وسوريا والأردن ومصرهي أحزاب معادية الشيوعية وقد تحولت إلى أحزاب إصلاحية تخلت نهائياً عن كل ما هو ماركسي حتى أن اسم ماركس أو لينين لم يرد في مؤتمراتها العامة . إن أفضل ما تقوم به هذه الأحزاب هو أن تتخلى عن اسم الشيوعية .