الماركسية إنّما هي القراءة العلمية للتاريخ


فؤاد النمري
الحوار المتمدن - العدد: 6149 - 2019 / 2 / 18 - 19:39
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

الماركسية إنما هي القراءة العلمية للتاريخ

كنت اختتمت مقالي قبل الأخير "خلاصة الماركسية" في 11/2/2019 بالقول ..
" هكذا علمنا ماركس أن نقرأ التاريخ أيها الخونة الأفّاقون !!"
ورغم ذلك هم هم الخونة الأفّاقّون إياهم الذين شنوا حملة استنكار لاتبقي ولا تذر لاستذكاري وقائع تاريخية حدثت في الاتحاد السوفياتي في خمسينيات القرن الماضي حتى وصفني أحدهم يقول.." هذا المريض المتخلف عدو البشرية والحاقد على كل ما هو خير وشريف – في الطبقة الوسطى" .
وهنا ليس لي إلا أن أعيد الخاتمة أعلاه "هكذا علمنا ماركس أن نقرأ التاريخ أيها الخونة الأفاقون" – فلماذا تكرهون قراءة التاريخ أيها الخونة الأفّاقون !؟

يعلمنا التاريخ إياه أن الأنظمة الإجتماعية والإقتصادية والسياسية إنما هي من بناته . روسيا اليوم هي ابنة روسيا القيصرية ثم الاشتراكية السوفياتية . المتأسلمون تحت راية "الإسلام هو الحل" يرجعون إلى الخلافة الرأشدة كما تروى في الكتب قبل أربعة عشر قرنا . النازية الهتلرية هي ابنة معاهدة فرساي وتنسخ امبراطورية روما قبل سبعة عشر قرناً في امبراطورية الرايخستاغ لألف عام . يعود الجميع إلى التاريخ ما عدا هؤلاء الخونة الأفّاقين فهم ليسوا نازيين وحسب بل هم نازيون متطرفون أو (ultra-Nazists) يتفجرون غضباً وحقداً إذا ما استذكرنا حوادث تاريخية كان لها كل الشأن فيما نحن فيه اليوم من أزمة مستفحلة واختناق معاشي . يريدون أن ينزعوا صفحات رئيسة من سجل تاريخ الإنسانية لما يسمح لهؤلاء القوم الهمج بنكران التاريخ ؛ كما يسمح لهم أيضاً لأن يأكلوا خبز أطفالهم !!

المقال المشار إليه أعلاه كتبته تحت عنوان "البورجوازية الوضيعة أشرُّ عداء للإنسانية" يقول أن الأزمة الخانقة التي تتهدد البشرية اليوم في أسِّ معاشها وبكارثة عالمية لم تشهد البشرية مثيلاً لها عبر التاريخ إنما كانت بسبب وقائع تاريخية قامت بها وبادرت إليها البورجوازية الوضيعة السوفياتية في خمسينيات القرن الماضي في انقلاب على الثورة الإشتراكية .
الذين استنكروا ذلك المقال وشتموني بسببه كأنهم يعترفون أنهم هم أو رفاقهم في البورجوازية الوضيعة السوفياتية قاموا بتلك الوقائع التي يفاخرون بها وجاءت موضع شجب المقال إياه . أنا أستحث قدر ما في هؤلاء القوم من شجاعة أن يخرجوا للناس ليفاخروا بتلك الأعمال التي قام بها نظراؤهم في الإتحاد السوفياتي، تلك الأعمال التي قادها اللص جوكوف ممثلاً للبورجوازية الوضيعة العسكرية والغبي خروشتشوف ممثلاً للبورجوازية الوضيعة المدنية . هل ما زال لديهم قدر من الشجاعة يجعلهم يخرجون على الناس يعلنون فخارهم بتلك الوقائع القذرة من أعمال البورجوازية الوضيعة ضد البروليتاريا السوفياتية وثورتها الإشتراكية !؟ خلال رحلتي الطويلة في السجون العديدة عرفت أمثال هؤلاء الخونة الأفّاقين كأجبن من القطط الهائمة في الشوارع . وإلا فليعلنوا تأييدهم لقرار اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في سبتمبر ايلول 53 الذي قضى بإلغاء الخطة الخمسية الخامسة التي كانت ستجعل من الإتحاد السوفياتي في العام 55 أغنى دولة في العالم، كما تشير أرقامها الموجودة لدي، من أجل الإنصراف إلى التسلح حتى كان بعد ثلاثين عاماً 240 قمراً سوفياتياً تحوم في السماء وعلى الأرض في شتى المدن السوفياتية 240 طابوراً طويلاً من المواطنين يصطفون أمام مراكز التموين في انتظار علهم يحصلون على حبات من البطاطا وحصة صغيرة من اللحم . والطامة الكبرى هي أنه بعد أربعين عاماً من التسلح الكثيف ينهزم الجيش الذي كان أحمر عندما احتل برلين النازية أمام شراذم من قبائل التشيتشان وقد بات جيش الماجن السكير قائد البورجوازية الوضيعة السوفياتية بوريس يلتسن في التسعينيات .

أن الماركسية إنما هي القراءة العلمية للتاريخ هو أمر لا غبار عليه ؛ كما أنها بذات الوقت الرصد الدقيق لحركة الطبيعة، فالطبيعة بكل أشيائها تتحرك وفق قانون عام هو القانون الذي اكتشفه ماركس باسم "المادية الديالكتيكية" . على هذا القانون النافذ في كل أشياء الطبيعة بلا بداية أو نهاية بنى ماركس كل نظريته بكل عماراتها . وهكذا فإن التاريخ هو ذات السلسلة لحركة الطبيعة الديالكتيكية المستمرة منذ الأزل وإلى الأبد .

بهذا المفهوم العلمي للماركسسية كونها الرصد الدقيق لحركة الطبيعة يمكن الجزم على أن ماركس لم يكن له أدنى مشيئة أو خيار في بناء كل نظريته، بل لم يكن بمقدوره أن يقترح على الطبيعة حجراً واحداً في بناء نظريتة ليس من حجارة الطبيعة . ومن باب الإلتزام بهذا الإدراك السليم التام لقانون الطبيعة يترتب على الإنسان أن يوافق على أن الوعي الخاص بالإنسان إنما هو من أشياء الطبيعة وخلائقها كي يقوم مقام المحكمة التي لا تخطئ في تفسير القانون ونفاذه . فإذا كانت الطبيعة أشبه بالمحرك فإن الوعي البشري أشبه بزيت المحرك الذي يسهّل الحركة ويحسّنها . من خلال قيام الوعي البشري بوظيفته كزيت محرك الطبيعة يستطيع بحكم التجربة أن يخمّن اتجاه الحركة المستقبلية لمحرك الطبيعة ويؤشر إلى محسّنات استقبال تلك الحركة . يستطيع الوعي البشري تخمين الاتجاه لكنه لا يستطيع تغييره بحال من الأحوال . نحن الماركسيين الحقيقيين نخمن أن الطبيعة أو التاريخ يتحرك منذ زهاء القرنين باتجاه انتقال البشرية إلى الحياة الشيوعية، لكن ماركسيّي فرانكفورت، وانضم إليهم من مصر سمير أمين، لا يستطيعون أن يحرفوا حركة الطبيعة عن مسارها كما يدعون مهما امتلكوا من وعي عابر للإنسانية . لا يمكنهم مجرد التفكير بالإبقاء على الرأسمالية أو أن يدعي بعضهم أن الإقتصاد المعرفي أو ما يُدعى بالثورة التقنية قد ألغى الإقتصاد الصناعي ومعه الطبقة العاملة في قيادة المجتمع وبذلك تكون الشيوعية قد غابت بلا رجعة كما يدعي منظرو البورجوازية الوضيعة . تلك أحلام شياطين البورجوازية الوضيعة حتى وإن تزيّنوا بدرجات علمية رفيعة فالشهادات العلمية لا تقلب الشياطين إلى ملائكة .

ما يعمد إلى تجاهله طلائعيو البورجوازية الوضيعة وخلفهم الشيوعيون المفلسون هو أن العالم مدين اليوم ديونا خارجية بحوالي 80 تريليون دولاراً . وهو ما يعني أن العالم في العام 1980 حين لم يكن مديناً بما يستحق الذكر كان أغنى من عالم اليوم بما يساوي هذا المقدار من الديون الخارجية، وهو ما يعني أيضاَ أن العالم لا يستطيع الإستمرار كما عليه الحال بغير أن يستدين كل عام 2 ترليون دولار . لئن كان عالم اليوم قادراً على أن يتحمل إفقاره بقيمة 80 ترليون دولاراً قبل أن ينهار فمن يستطيع تأكيد عدم انهياره بعد خمس سنوات فقط عندما يُفتقر ب 90 ترليون !؟ لا أحد يستطيع أن يضمن ذلك، وهو ما على الشيوعيين الذين لم يفلسوا بعد أن يتنبهوا لهذا الأمر الخطير جداً حتى أن أحداً لا يستطيع أن يحدد درحة خطورته .
ذلك كله ما كان ليكون لولا إنقلاب البورجوازية الوضيعة السوفياتية على الثورة الإشتراكية في خمسينيات القرن الماضي . السرّ "التابو" الذي يكشف انحطاط الطبقة البورجوازية الوضيعة في الاتحاد السوفياتي قبل غيره من البلدان هو الإحتفاظ بوقائع انقلابها على الإشتراكية في الخمسينيات بدءاً باغتيال ستالين ثم بإلغاء انتخاب 12 عضوا جديداً في المكتب السياسي قبل أن يتم دفن ستالين، ثم إلغاء الخطة الخمسية ومندرجاتها، ثم تزوير خطاب خروشتشوف السري باعتباره من أعمال المؤتمر العشرين بينما هو خطاب شخصي لا علاقة للحزب به، ثم انقلاب حزيران يونيو 57 ضد الحزب وأسبابه، وأخيرا الإنقلاب على خروشتشوف في أكتوبر 64، مضافا إلى كل هذا تناسي قرارات المؤتمر الثاني والعشرين في العام 61 القاضية بإلغاء دولة دكتاتورية البروليتاريا واستبدالها بدولة مزورة اسمها "دولة الشعب كله"، وكذلك اعتماد مبدأ المرابحة في تبادل المنتوجات وما اقتضاه من الاستقلال المالي لمؤسسات الإنتاج حتى لا يبقى أي أثر للإشتراكية في الاتحاد السوفياتي .
الشيوعيون يفلسون نهائياً عندما لا يتوقفون عند هذا "السر التابو" .