المعتزلة أو فرسان العقلانية في الحضارة الاسلامية


غازي الصوراني
الحوار المتمدن - العدد: 6147 - 2019 / 2 / 16 - 18:42
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

يمثل المعتزلة أولى أكبر مدارس علم الكلام ، والفكر الفلسفي الإسلامي عامة ، وكانت فترة نهوض المعتزلة في النصف الأول من القرن التاسع بمثابة "العصر الذهبي" في تاريخ علم الكلام.
اسم المعتزلة تاريخياً:
ترددت كلمة "الاعتزال" وكلمة "المعتزلة" كثيراً في تاريخ الصراع السياسي – الفكري في الاسلام قبل نشوء هذه الجماعة التي استقر عليها اسم "المعتزلة" في نهاية القرن الأول للهجرة وأواخر القرن السابع للميلاد، وأصبحت كلمة "الاعتزال" منذ ذلك الحين تعني الاشارة إلى مذهب هذه الجماعة بما تفرد به من آراء في جملة من "الأصول" الاعتقادية الاسلامية، وبما تفرد به كذلك من منهج عقلي في معالجة هذه الآراء، لكن مذهب المعتزلة لم يظهر من الفراغ، ولم يقم على الفراغ – كما يقول بحق المفكرالتقدمي الشهيد د.حسين مروة - وانما خرج من تلك البذور الفكرية التي تنامت سريعاً بفضل ما احدثته افكار القدرية والجهمية من تفاعل النقيضين في مسألة حرية الانسان ومسؤوليته عن افعاله، ومن توافقهما معا – رغم تناقضهما في هذه المسألة- على النظر العقلي في العقائد الاسلامية، وعلى الرجوع إلى التأويل العقلي للنصوص الاسلامية، وان اختلفت وجهة كل منهما في هذا التأويل.
جذور المعتزلة ومسيرتهم :
في كتابه الموسوعي " النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية" يرى المفكر الشهيد حسين مروة ، أن جذورهم تعود إلى تيار أهل العدل والتوحيد الذي كان من أبرز قادته الحسن البصري المعروف بعدائه للنظام الأموي ، تصدى هذا التيار لعقيدة " الجبر/ التي أظهرها الأمويون " وعارضها بإظهار موقف الإسلام المنحاز إلى حرية الإنسان واختياره وقدرته ، ومن ثم مسئوليته عن أفعاله ، ثم جاء " واصل بن عطاء " الذي حدد الأصول الفكرية الخمسة للمعتزلة وهي: العدل _ التوحيد_ الوعد والوعيد_ المنزلة بين المنزلتين_ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. لكن القاعدة الكبرى والأساس التي كانت المنطلق الواقعي غير المنظور، لتصور مفهوم العدل كما تصوره المعتزلة، هي قضية حرية ارادة الانسان في افعاله. ففي رأي المعتزلة ان الانسان اذ لم يكن مختاراً في ما يفعل كان غير مسؤول عن افعاله، خيراً كانت ام شراً. واذا لم يكن مسؤولاً كان الثواب باطلاً لانه جزاف وعبث، وكان العقاب ظالماً. وكلا الامرين: الباطل والظلم، نوع من الشر، والله لا يصدر عنه الشر.

فالمعتزلة، اذن، يشترطون ان تكون السلطة السياسية – الدينية بقيادة امام، ويشترطون لهذه القيادة كون الامام عادلاً. فما مفهوم العدل هذا عندهم؟
ان العدل الذي يشترطونه في الامام يتضمن الاخذ برأيهم في التوحيد وفي القدر، فاذا عرفنا ان رأيهم في القدر لا ينفصل عن القول بحرية الانسان، أي رفض الحتمية القدرية التي تسلب الانسان اختياره في ما يفعل، استطعنا ان نستنتج من ذلك ان مفهوم العدل الدنيوي الأرضي عندهم لا ينفصل أيضاً عن قضية حرية الانسان هذه.
ومن هنا يمكننا اكتشاف العلاقة – في تفكيرهم- بين المفهوم الميتافيزيقي لللعدل، أي العدل الالهي، وبين مفهومه الواقعي العملي المتجسد في الامام العادل، أي في السلطة السياسية – الدينية العادلة (اجتماعياً).
بهذا التحليل –كما يقول د.مروة -فان "العقلانية" المعتزلية لم تكن "عقلانية" تجريدية وميتافيزيقية مطلقة، بل نستطيع ان نكتشف لها جانباً واقعياً عملياً يتصل بحياة الناس الواقعية، وان يكن هذا الجانب غير ملحوظ مباشرة في مباحثهم النظرية .
في ضوء ما تقدم ، يتضح أن جماعة المعتزلة قد التزمت قضية العقل إلى حد يكاد يتخطى التزامهم ببعض الاصول المقررة في الاسلام، فجعلوا حكم العقل قاضياً بصرف نصوص القرآن عن ظواهرها حيثما كانت هذه الظواهر متعارضة مع ما يقتضيه العقل، حتى رأيناهم يجعلون حرية اختيار الانسان حاكمة على حرية ارادة الله ومفيدة لقدرته.
وما ذاك الا لان مبدأ حرية الانسان قائم عندهم على وجود العقل بالضرورة، وعلى ان وجوده لا معنى له ان لم تكن له قدرة الاختيار بالضرورة كذلك، وانه لولا هذا وذاك لسقطت مسؤولية الانسان عن افعاله، ولما كان العدل الالهي عدلاً حقاً. فقضية العقل هي النقطة المركزية في هذه المعادلة كلها.
وفي هذا الجانب أشير الى تمسك المعتزلة بمبدأ السببية في حدوث الاشياء والافعال، فحتى قضية خلق الله للعالم ربطوها بهذا المبدأ، حيث أنهم – كما يؤكد مفكرنا الشهيد حسين مروة - لا يفصلون بين مبدأ العلية في الطبيعة وبين ما يترتب على هذا المبدأ من مسؤولية في المستوى البشري الاجتماعي، دون ان يخضعوا افعال الانسان إلى الحتمية الجبرية.
وقد فرقوا بين العلية في افعال الطبيعة والعلية في افعال الانسان بأن الأول تخضع لقوانين ثابتة حتمية، واما الثانية فتخضع إلى عنصر آخر هو عنصر الارادة. وذلك انسجاماً مع مذهبهم في حرية اختيار الانسان، وانسجاماً مع المبدأ الذي اقاموا عليه مذهب حرية الاختيار هذا، نعني به العقل.
وتتجلى القيمة التقدمية لتمسك المعتزلة بمبدأ السببية وللبحوث النظرية التي أوضحوا بها هذا المبدأ، اذا قارنا موقفهم في هذه المسألة بالموقف الاخر المعارض الذي كان سائداً عصرهم، والذي كان الاشاعرة بالاخص يحملون رايته منكرين مبدأ السببية انكاراً مطلقاً.
وبناء على هذا الانكار لمبدأ السببية استبعد العقل عن مجال المعرفة، وارتبطت المعرفة ارتباطاً مطلقاً بالمصدر الالهي .
ان النظرة المقارنة هنا تكشف دون شك عن فضل المعتزلة في كونهم واجهوا تيارا فكريا اسقط من الكون كله وجود القوانين الموضوعية التي تنظم العلاقات بين الاشياء والاحداث، كما اسقط بذلك امكان استقلال العقل بالمعرفة، مهما يكن نوع المعرفة.
لقد واجه المعتزلة هذا التيار الفكري الاخذ به يومئذ جمهرة واسعة من أهل الرأي والنفوذ الديني، وبينهم الاشاعرة وانضم اليهم –بعد- فريق من أهل علم الكلام واهل المذاهب الاسلامية من السنة والشيعة.
ولكن المعتزلة على اختلاف ارائهم في كثير من المسائل اتفقوا على مواجهة هذا التيار بسلاح فكري نظري متقدم يدافعون به عن العقل وعن مبدأ السببية من حيث هو قانون كوني شامل، ومن حيث هو مبدأ عقلاني تستند اليه سائر القوانين الموضوعية في الكون والطبيعة وعالم الانسان.
لقد كانت المعتزلة من أصدق الفرق في الإسلام الذين جمعوا بين النص والممارسة في موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكانوا ضد الأشعري الذي قال : " إن السيف باطل ولو قتلت الرجال وسبيت الذرية ، وأن الإمام قد يكون عادلاً أو غير عادل وليس لنا إزالته حتى وإن كان فاسقاً؛ كما كانوا نقيضاً أيضاً لأحمد بن حنبل الذي يقول: " إن من غلب بالسيف حتى صار خليفة، وسمي أمير المؤمنين فلا يحل لأحد يؤمن بالله أن يبيت ولا يراه إماماً عليه ، براً كان أو فاجراً ، فهو أمير المؤمنين (وهناك قول لأحد أئمة ذلك العصر يسندوه ظلماً لأبي حنيفه ينص على أن " ستون عاماً في ظل حاكم ظالم لهي أفضل من ليلة واحدة دون حاكم " .
لقد كان موقف المعتزلة نقيضاً _ كما يقول المفكر الاسلامي المستنير الدكتور محمد عمارة _ لكل هذه المذاهب فقد أوجبوا النهي عن المنكر باليد واللسان والقلب، لقد كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عندهم عملاً سياسياً واجتماعياً في آن واحد لأن الأمر بالمعروف عندهم هو من فروض الكفاية وواجباتها، ومعلوم أن فروض الكفاية أكثر أهمية من فروض الأعيان، ( المقصود بالأعيان الصلاة والصوم والزكاة…الخ ) لأن تخلف قيام فرض العين يأثم به من أهمل فيه ، أما تخلف قيام فرض الكفاية فالذي يأثم به الأمة جمعاء, إن روعة المعتزلة تكمن في أن أمرهم بالمعروف كان يستند إلى الأمر به فقط وليس مطلوباً حمل الغير على الامتثال بهذا الأمر ( فالواجب هو الأمر بإقامة الصلاة ، لا حَمل تاركها على القيام بها ) أما بالنسبة لفرض الكفاية فقد دعوا إلى سل السيف وتجريده ضد الحاكم أو الإمام الجائر
لقد اختلف المعتزلة عن السنة في عرضهم للأدلة، فهي عند أهل السنة ثلاثة: الكتاب _ السنة _ الإجماع ؛ بينما هي أربعة عند المعتزلة يضيفون العقل إلى هذه الأدلة الثلاثة ويقدمونه عليها جميعاً ، بل يرون أن العقل هو الأصل فيها جميعاً ، وكان طبيعياً أن يقدموا العقل في أمور الدنيا كما قدموه في أمور الدين وجعلوه حاكماً تعرض عليه المأثورات كي يفصل في صحتها رواية ودلالة .
ويضيف د. حسين مروه إلى كل ما تقدم _ دون أن يتناقض معه _ بعداً فلسفياً للمعتزلة بقوله : " أن المعتزلة استشرفوا إدراك وجود قوانين موضوعية في الطبيعة تجري وفقها الظاهرات الطبيعية كلها ، وأن (القدر ) عندهم بخيره وشره من الإنسان ، وأن الإنسان متفرد بين مختلف الكائنات تميزه الحرية في الاختيار لأفعاله ، وأن امتلاكه خاصة العقل هو المصدر والأصل في تفرده بتلك الميزة .
ويضيف د. مروه " أن مفهوم العدل الدنيوي ، الأرضي عند المعتزلة لا ينفصل أيضاً عن حرية الإنسان ، أنهم يرفضون الحتمية القدرية التي تسلب الإنسان اختياره فيما يفعل " .
وحول خلق القرآن يرى د. مروه " أن المعتزلة أكدوا أن كلام الله ليس ( بقديم ) أي ليس من الصفات المعادلة للذات وإنما هو حادث أو مخلوق ككل شيء مخلوق في الكون ، فمعنى كون الله متكلماً .. إذن إنه خالق الكلام، ويبرهنون على ذلك بالقول " إن البشر هم موضوع الأوامر القرآنية .. فكيف يعقل أن يوجه الله أوامره إلى المعدوم ، إن ذلك نوع من العبث الذي لا يجوز على الله " .
فالكلام _ في رأيهم _ لكي يتحقق شرط وجوده يحتاج إلىُ مكلِّم ومكلَّم ، وقبل وجود المُكلَّمين ليس هناك سوى مُكلِّم من دون مُكلَّم ، بذلك يكون القول بأزلية القرآن نفياً لعقلانية التشريع وهو باطل .
فقد لجأ المعتزلة إلى القول بأن كلام الله ليس "بقديم"، أي ليس من الصفات المعادلة للذات، وانما هو حادث، فالقرآن – وهو كلام الله باتفاقهم- حادث اذن، أي "مخلوق" ككل شيء مخلوق في الكون، فمعنى كون الله متكلماً -اذن- انه خالق الكلام.
هذه هي المسألة: منشؤها، وحقيقتها، كما قررها المعتزلة، لكنهم لم يتقصروا في تقريرها على ما تقدم، بل هم حاولوا فوق ذلك توكيد هذا الرأي ودعمه ببراهين اخرى يرمي بعضها إلى اثبات ان القول بقدم القرآن وازليته لا ينافي مبدأ التوحيد وحسب، بل ينافي كذلك عقلانية التشريع القرآني.
وذلك انهم قالوا: اذا افترضنا القرآن كلاما ازليا، أي صفة للذات الآلهية الازلية، كان معنى هذا ان الاوامر التي يشتمل عليها القرآن ازلية أي صادرة قبل ان يوجد المأمورون بها، أي انها كانت غير ذات موضوع قبل وجود البشر المكلفين بها.
فان البشر هم موضوع هذه الأوامر، فكيف يعقل ان يوجه الله أوامره إلى المعدوم؟ ، ان ذلك نوع من العبث الذي لا يجوز على الله، بل محال.
وقالوا ان الكلام، لكي يتحقق شرط وجوده، يحتاج إلى مكلم (بكسر اللام) ومكلم (بفتح اللام)، وقبل وجود المكلفين ليس هناك سوى مكلم من غير مكلم. بذلك يكون القول بأزلية القرآن نفيا لعقلانية التشريع ، وهو باطل.
التيارات المعارضة للمعتزلة :
يمكن حصر وجهات النظر التي جابهت المعتزلة – حسب د.مروة - في ثلاثة تيارات رئيسية:
أ- تيار السلفيين. ب- تيار الحنابلة. ج- تيار الاشعريين:
أ- التيار السلفي: ان الخلاف بينهم وبين المعتزلة يرجع، في جوهره، إلى الخلاف في مسألة العقل. فالسلفيون ينفون قدرة العقل على ادراك الحقائق الألهية ومنها حقيقة صفات الله. في حين ان المعتزلة يثبتون للعقل قدرته غير المحدودة في ادراك كل ما يتعلق بهذه الحقائق، وفي استخلاص البراهين العقلية الموصلة إلى هذه الحقائق دون الوقوع في الخطأ، وفي اعتبار النتائج التي تنتهي اليها هذه البراهين يقينية، ولذا يجب اتخاذها مقياساً يرجع اليه في تقرير مفاهيم العقائد وفي تأويل النصوص الدينية حتى تكون موافقة لهذا المقياس ومنسجمة معه.
في ضوء هذا الفرق الجوهري بين موقف التيار السلفي وموقف المعتزلة يمكننا ان نتبين الجانب التقدمي الأكثر وضوحاً في مذهب المعتزلة .
ب- التيار الحنبلي : ينسب هذا التيار إلى أحمد بن حنبل زعيم المذهب الفقهي السني الاخر بين المذاهب الاربعة ( -241 ه – 855م) . وهذا التيار سلفي أيضاً، ولكنه تميز بقبوله التأويل المحدود.
ج- التيار الاشعري: ان ظهور الاشعري (-330 ه / 941م) بمذهبه الكلامي المعارض لمذهب المعتزلة قد بلور آراء السلفيين في مذهب جديد متكامل الجوانب، بحيث تركزت فيه حركة المعارضة كلها التي انتصبت بوجه المعتزلة تحاربهم بسلاحهم نفسه، سلاح المباحث الكلامية، هذه الحركة التي تألف منها من المعتزلة، منذ ذلك الحين، خطان متوازان في مجرى واحد، هو مجرى البحث النظري الذي كان منه علم الكلام.
نسجل ملحوظة عن التيار الاشعري، هي انه رغم كونه سلفياً، قد استخدم الطريقة العقلية كالمعتزلة.
طمس التراث المعتزلي:
هنا يقول د.حسين مروة : هناك واقع تاريخي معروف يثير الاسف ويدعو للدهش والتساؤل: هل كان من باب المصادفة ان يكاد لا يمضي سوى عهد قصير منذ غاب المعتزلة عن صعيد النشاط الفكري في خلافة المتوكل العباسي سنة 847 ميلادية، حتى تغيب عن المكتبة العربية مصادر الفكر المعتزلي الأصلية بجملتها، أي تلك المصادر والوثائق التي وضع فيها المعتزلة أفكارهم واصولهم النظرية كما صاغوها هم بأنفسهم بصورتها المتكاملة في مؤلفاتهم؟.
من العسير ان يقتنع الباحث بان شيئاً من المصادفات التاريخية هو الذي اساء هذه الاساءة الغريبة للفكر والعلم والتاريخ، رغم كثرة ما حدث في تاريخ الفكر العربي – الاسلامي من مثل هذه المأساة.
ذلك ان هذا الأمر حدث في ظروف تختلف كثيراً عن الظروف التي بدأ فيها التراث العقلي العربي – الاسلامي كله يتعرض للتشتت والضياع.
فلماذا كان نصيب الفكر المعتزلي وحده ان يتعرض لهذه المحنة في مرحلة سابقة بعيدة جداً عن تلك الظروف المتأخرة التي شملت المحنة فيها كل هذا التراث؟.
يجيب د.مروة على هذا السؤال بقوله : لعل ابرز الملامح التقدمية للفكر المعتزلي، كانت هي السبب في ما حدث لتراث هذا الفكر من غياب مفاجئ عن المكتبة العربية في وقت مبكر من تاريخ الحركة العقلية العربية.
وفي اعتقادنا – كما يضيف د.مروة -ان مأساة المعتزلة بتألب اعدائهم على طمس تراثهم الفكري، هي اشد قساوة من مأساتهم بتألب هؤلاء الاعداء على اضطهادهم جسدياً منذ عهد الخليفة العباسي المتوكل . بل الصحيح القول ان مأساتهم الأولى هي مأساة للفكر والعلم والتاريخ كذلك. فمن المعروف انهم في عهد هارون الرشيد (786-802) وخاصة أيام ارتفاع نجم البرامكة، صار للمعتزلة نفوذ ملحوظ، وتقلد البعض منهم مناصب هامة في الدولة.
أما عصرهم الذهبي تجلى في عهد المأمون من ( 813 م. _ 833 م. ) والمعتصم (833م._ 842م.) والواثق ( 842 م. _ 847 م. ) وبموت هذا الأخير انتهى عصر المعتزلة وحصل الانقلاب ضدهم وضد نزعتهم العقلانية على يد المتوكل ( 847 م. _ 861 م. ) حيث اقتلعوا من مناصبهم وأبعدوا عن التأثير الفكري وزج بالكثير من أعلامهم في السجون ، وأبيدت آرائهم ، وتقلص سلطان العقل على الحياة الفكرية والعامة وساد الظلام وتعطل التطور.
ولنا ان نتساءل الآن: لماذا كان هذا العداء اللدود للمعتزلة، ولماذا كانت هذه المأساة المزدوجة؟
المسألة واضحة، فان الطابع العقلي التحرري الذي يغلب على تفكيرهم محتوى وأسلوبا، وهو طابع متقدم جداً بالقياس إلى ظروف عصرهم ومجتمعهم، هو الذي جمع بين مختلف الفرق والمذاهب والفئات الاجتماعية المحافظة لا سيما الفئات ذات الموقع الاجتماعي الأكثر ارتباطاً بمواقع أهل النظام الثيوقراطي لدولة الخلافة.
وبالتالي فان تمسك المعتزلة بقضية العقل وقضية حرية ارادة الفعل والترك لدى الانسان، هو ما دفع الفكر المعتزلي ان يشق طريقه الخاص الذي أدى به إلى التفرد بنتائج وضعت الفكر المعتزلي هذا، موضوعياً، كفتيل يفجر التناقضات داخل ايديولوجيته ذاتها.
كان العداء للمعتزلة اذن، عداء لتلك النتائج بقدر ما كانت تحدثه من تصدعات في بنية تلك الايديولوجية.
ومن هنا رأينا موجة هذا العداء تمتد حتى تشمل العلوم والفلسفة. وما ذاك الا لان العلوم التطبيقية والفلسفة تشتركان في استخدام مبادئ المعرفة العقلية، وان اختلفت طريقة كل منهما في استخدام هذه المبادئ .
لكن الذي حدث تاريخياً ان هذه الموجة، رغم عنفها ورغم بلوغها درجة العنف الدموي، لم تستطع ان تخمد الجذوة التي أجَّجها الفكر المعتزلي.
ان مأساة الفكر المعتزلي التي كانت في الوقت نفسه مأساة للفلسفة ذاتها حينذاك-كما يقول بحق المفكر الشهيد حسين مروة - لم تعرقل سير تطور هذه الحركة في العالم العربي – الاسلامي. بل الواقع المؤسف ان هذه المأساة قد اصابت الحركة العقلية، بمضمونها العام، بانتكاسة ظلت تعاني آثارها حتى نهاية تاريخها في عصر انهيار دور العرب الحضاري في الشرق والغرب منذ القرن الخامس عشر الميلادي.
ولولا حدوث هذه الانتكاسة لكان من المفترض- بحكم ظاهرات التقدم العلمي في القرن التاسع الميلادي- ان تتجه الحركة العقلية، والفلسفية بخاصة، اتجاهاً أكثر واقعية وأكثر ارتباطاً بنتائج تطور العلوم التطبيقية في ذلك العصر.