تمجيد جبار مصطفى المخضب ب-تسفيه- افكاره ومبادئه! (رد على مقال لعدنان كريم)


توما حميد
الحوار المتمدن - العدد: 6146 - 2019 / 2 / 15 - 19:46
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     


"ان الانسان ينظر دوماً للماضي بعيون اليوم، ويبحث فيه عن تأييد لارادته واعماله الراهنة". (تاريخ غير المهزومين، منصور حكمت)


في رثاء الرفيق جبار مصطفى، وتحت عنوان "جبار مصطفى: سيزيف الماركسية المعاصرة في كردستان، او في رثاء شيوعي لايكل"، نشر مقال بتاريخ 2/2/2019 لعدنان كريم من على صفحة الحوار المتمدن. باختصار قام عدنان كريم بتوجيه المديح لجبار مصطفى على "طاقاته غير المحدودة" و "إصرار"ه ومبدئيته" و"اخلاصه" للقضية التي امن بها، ولكن في الوقت ذاته، غلف هذا المديح باحكام بحق جبار ونضاله. فتحت ستار تمجيد جبار مصطفى، يقوم عدنان كريم برمي عبارات وجمل على مباديء جبار ونهجه بصورة مبطنة واحياناً صريحة. وتحت عنوان تمجيده، يصدر اكثر الاحكام غير الصحيحة على نهج جبار الذي عاش في ظله وانفق الجزء الكبير من حياته في ظله، وعلى هذا الاساس كان اساس شخصية جبار. كما قلل من شان الحركة التي التزم بها جبار حتى رحيله المفجع، أي حركة الشيوعية العمالية.

بدءاً، من المؤكد اني وسائر رفاق جبار نتشارك مع مشاعر عدنان كريم تجاه جبار وحزنه على رحيله. من الناحية الشخصية والسياسية، لقد كانا أصدقاء ورفاق قدماء، ولابد ان رحيل جبار محمد كان فاجعة كبيرة له ولنا وكل الذين عرفوا جبار عن قرب. ولكن مقال عدنان كريم هو بحق ضربة للشخصية السياسية لجبار للاسف. بنظري ماورد في هذا المقال لم يكن اطراءاً لجبار بل هو رمي احكام مسبقة قالها كثيرون من قبله على جبار وحركة جبار. رمى بعبارات واحكام وجمل مغطاة وعرضها على القاريء بوصفها اضافة نظرية جديدة!! بعد 20 عام من التفكير، بلغ افكار واحكام كان قالها غيره قبله بثلاثين عام. فاي "ابداع" في هذا؟!

أرى ان في سياق تمجيد جبار، للاسف، قام عدنان باعطاء صورة لاتمت بصلة لجبار ولشخصيته السياسية وللحركة التي ناضل في صفوفها. اجد من واجبي هنا الدفاع عن جبار كشخصية سياسية، وأوكد ان لولا جبار مصطفى وشخصيته السياسية وضرورة احترامهما وصد أي تشوية لصورته، لما فكرت بكتابة هذه الاسطر. ان هذا دين علينا لجبار.

نظرا لطغيان مديح عدنان لجبار على المقال، قد لاتبرز كثيرا عباراته واحكامه بوضوح وجلاء. للاسف "مرر" تصوراته واحكامه بحق جبار، افكاره، حركته وحزبه. اذ من وصفه بـ"سيزيف" و"دونكيشوت"، وتخطئته المبطنة "لانه لم يستطع ان ينفك من الشيوعية العمالية كحال الكثير من ناشطي اليسار الماركسي الكردستاني"، و"الافة الفتاكة التي جلبتها الشيوعية العمالية لماركسي كردستان العراق وايران"، افة "الابتعاد عن العمل الثوري في الوسط الاجتماعي"، ناهيك عن عبارات عامة، قد تكون صحيحة عموما، ولكنها عديمة المحتوى ومضللة في هذا السياق من مثل " فالنظرية ان لم تزكيها العمل والممارسة الواقعيتين، لاقيمة لها ولا اثر لها" دون ان يوضح لنا ماهي "هذه النظرية" وماهو هذا "العمل والممارسة الواقعيتين"، تصوير الشيوعيين باناس "حالمين" (اذ كرر كلمة "حلم" باشتقاقاتها المختلفة واصفا الشيوعيين مرارا)، والعديد من العبارات التشكيكية و"النادمة" التي يغط بها المقال من مثل "كما ظن"، "هكذا كان فهمنا"، "كما كنا نتصور" والتي هي عبارات واضحة على الندم على تاريخ ما.

كلام في غير محله!
لقد ترك عدنان كريم الشيوعية العمالية واختلف مساره عن مسار جبار محمد لمايقارب 20 عام، أي كان لديه عقدين من السنين ليقول مالديه عن مباديء جبار وافكاره ونضاله، وحركتة بشكل علني، وان يوصل ارائه وافكاره وقناعاته وانتقاداته، ليسمع جبار كلامه، ليعطيه الفرصة ان يرد عليه، ليتفق معه، ليختلف معه، ليقنعه، وهو المسار الاصولي والمبدئي. لماذا ينتظر مناسبة رحيل جبار ليقول هذا؟! لماذا يسلب جبار فرصة ان يوضح افكاره ويرد عليه؟ الوفاة ليست السياق والتوقيت المناسب لنقد خط او منهج المتوفي. ليس بمناسب، ان يرى في سياق هذه الوضعية، سياق رحيل جبار، وفي ثنايا التبجيل، فرصة لاصدار احكامه بحق افكار جبار وشخصيته السياسية وبصورة مبطنة. في الوقت الذي لايعد نقد افكار ومنهج احد ما في يوم وفاته امرا مناسباً، لا من الناحية المبدئية السياسية ولا من الناحية الادبية. ان هذه ابسط مفاهيم الاحترام.

هل من الممكن فصل الشخصية عن افكارها؟
لايمكن باي شكل من الاشكال فصل شخصية احد ما عن نضاله وافكاره، ولايمكن مدحه كشخص و"تسفيه" افكاره! لم يكن جبار "انساناً رائعاً" فحسب، وهو ما يصفه عدنان كريم نفسه، بحيث ترك رحيله كل هذا التاثير على الكثيرين، بالرغم من أفكاره، بل بسبب أفكاره. ان اهمية جبار لم تكن لانه كان انسانا طيبا، فالطيبين كثر. كما ان أهمية جبار لم تكن فقط بسبب إصراره ومبدئيته واخلاصه لقضيته، بل بسبب القضية التي تمسك بها وناضل من اجلها حتى النفس الأخير، وهي خلق عالم افضل وتغيير حياة البشر نحو الافضل. هناك الكثير من الناس المبدئيين والمخلصين لقضاياهم. فالاسلامي الذي يقوم بعمل إرهابي هو انسان مبدئي ومخلص لقضيته، ولكننا نلعن هذه القضية، ونلعن هذا الإخلاص وهذه المبدئية. فقط عندما يكون النضال من اجل الارتقاء بالبشر، تصبح المبدئية ويصبح الإصرار والإخلاص شيئا مهما، والا قد تصبح السيزيفية مصيبة على البشر.
ان نظرة عدنان كريم عن الشيوعيين هي نظرة موجودة في المجتمع، وهي نظرة حركات اجتماعية أخرى. اذ نسمع مرارا الكثير من المديح للشيوعيين كونهم أناس طيبين، "نظيفين"، صادقين، وواعين في الوقت الذي يتم رفض أفكارهم وخاصة فيما يتعلق بالدين والقومية والتقاليد الرجعية والنظام الحاكم. ولكن في الواقع لايمكن الفصل بين خصائل الانسان وافكاره.

هل كان جبار سيزيف اخر؟!
يقوم عدنان كريم بتشبيه جبار بسيزيف. انا اعلم ان جانب من السيزيفية هو "الإصرار" و"عدم الكلل"، ولكن في الوقت ذاته، سيزيف هو رمز الجهد "غير المجدي"، رمز "غياب العقلانية" و"المنطق" و"سخف الحياة الإنسانية". فالسيزيفية بالضبط تعني عمل شاق لا امل فيه ولا طائل منه، وانها نشاط عديم الهدف ولامتناهي. وهذا هي الرسالة، الرسالة المعادية للشيوعية، التي ينوي عدنان ان يوصلها لذهن القاريء. ان هذا هو هدفه للاسف.
ان هذا "ضجيج" طبقة لها مصلحة في بقاء العالم الراهن، بظلمه، واستغلاله، وعبوديته واغترابه. ليس عدنان هو الاول ولا الاخير الذي يتحدث عن "لافائدة من النضال"، "لافائدة من هذا السعي"، ولكن البشرية الساعية للحرية والمساواة لاندحة لها من ان تواصل سعيها ونضالها. انها ضرورة الحياة، ليست ترف. ومن ياتي جراء "ترف فكري"، "امر فكري"، "لذة فكرية"، بوسعه ان يتخلى عن افكاره هذخ لافكار اخرى غدا.
فهل هذه صورة واقعية بحق جبار؟! الجواب معروف من نضال جبار وتاريخه.
اذ يصف عدنان جبار والشيوعي بشكل عام بالحالم، حيث "هکذا هو الشیوعي احیانا او قل غالبا. یحلم في فضاءات لا تمت بصورة واقعية غیر آبه بما یدور في الواقع المادي المحیط به علی الرغم من تبنیه رسمیا لیل نهار مقولة الإنطلاق من الواقع الملموس للوصول للمبتغی المنشود. ولا یعرف لذة الاحلام الثوریة إلا من إکتوی بنارها و تلذذ بمراراتها".
لادع جانباً هذا التصور الرومانسي الاقرب الى المازوشي، وقصدي "ولايعرف لذة الاحلام الثورية الا من اكتوى بنارها وتلذذ مراراتها"، بنظري ان التصور الذي يقدمه عدنان للشيوعي في هذا المقال، تصور برجوازي صغير للشيوعية والعمل الشيوعي، فالشيوعي، حسب هذا التصور، هو انسان "ناكر الذات، "حالم غير ابه بالواقع"، من "يتلذذ بالاحلام الثورية"، والخ من مفاهيم ليس لها اي ربط او صلة بالشيوعية، ولا بجبار ولا شيوعيته. ان الشيوعية، شيوعية جبار وماركس ومنصور حكمت، هي مسعى ونضال مليارات البشر من اجل عالم افضل، من اجل الغاء العمل الماجور، من اجل عالم يستند الى الحرية والمساواة. انها شيوعية نضال واقعي "لا لذة فيه"، نضال معاناة والام وقتل وملاحقات وسجون وحرب طبقية تجري بشكل يومي. ان تصوري وتصوير العامل الشيوعي، وتصور جبار، يختلف كلياً عن هذا التصور والنزوع والرغبة البرجوازية الصغيرة التي يوردها عدنان هنا.
ليست الشيوعية افكار وعقائد فحسب، انما هي النضال الواقعي للبشر من اجل عالم افضل. انه نضال هادف وليس عبثي كما يصوره عدنان، بل هي ممارسة يومية مرتبطة بالواقع من اجل احداث تغيير في حياة أناس واقعيين. لايقاس مدى نجاح النضال الشيوعي وارتباطه بالواقع وتاثيره على المجتمع وعلى حياة الناس من خلال مؤشر واحد وهو مدى النجاح في إقامة المجتمع الاشتراكي. ان عدد لايحصى من التحسينات في أوضاع المجتمع مرتبط بهذا النضال وبراية معينة في هذا النضال، الماركسية، و ياتي في جزء منه من خلال نضال اشخاص وحركات ومنظمات ماركسية و شيوعية. بدون الماركسية و النضال الشيوعي سيكون المجتمع البشري تحت حكم النظام الرأسمالي مجرد غابة.

لننظر كم من الحقوق في ارقى المجتمعات الرأسمالية تحققت تحت تاثر الماركسية والشيوعية. ان حقوق تبدو بديهية اليوم مثل حق التصويت والكثير من حقوق المراة والطفل ومكاسب الطبقة العاملة وكل مكتسبات دولة الرفاه الأخرى وصولا الى الدفاع عن البيئة وغيرها تمت بشكل او اخر تحت تاثير الماركسية والماركسيين ونضال الشيوعيين. فمثال بسيط في أمريكا التي تعتبر العدو اللدود للماركسية والشيوعية، لم يقوم الرئيس فرانكلن روزفيلت في قلب الكساد الكبير، بتوفير ضمان البطالة وضمان التقاعد والرعاية الصحية وقانون العمل الذي حدد الحد الأدنى للأجور وتحديد ساعات العمل ب 40 ساعة في الاسبوع وعدد كبير من القرارات والقوانين التقدمية من تلقاء نفسه ، بل كان تحت ضغط الشيوعية والحزب الشيوعي الأمريكي وحزبين اشتراكيين امريكين ونقابات عمالية ثورية مرتبطة بهذه الأحزاب ومن اجل انقاذ النظام الرأسمالي من تفكير العامل بالثورة الاشتراكية.
في العراق وكردستان العراق وليس بعيدا، بالوسع الحديث كثيرا عن المنجزات والمكاسب الملموسة للشيوعية رغم التراجع الي فرض عليها. فجراء النضال الذي خاضه جبار وحركته خلال العشرين سنة المنصرمة، وكان عدنان نفسه قد شارك في جزء منه، فرضت العديد من الحقوق والحريات السياسية والمدنية للجماهير على السلطة البرجوازية. حين حلت هذه الحركة في الميدان، كانت مجازر القتل التي تجري باسم الشرف مبعث فخر، صفعت هذه الحركة بقوة اكثر الاطراف رجعية وارست اجواءاً بحيث اجبرتهم اليوم جميعاً على الحديث رياءاً عن حقوق المراة، وان هذه الحركة من انقذت عشرات ومئات النساء من خطر الموت، ودافعت عن حقوق الاطفال وفرضت التراجع على منظومة الحاق الاذى بالطفال، وفتحت اعين المجتمع تجاه القوميين والاسلاميين، وصوب نضال العمال والكادحين، وفرضت اجواء من حرية التعبير والانتقاد و....

لقد اثر جبار نفسه بشكل او باخرعلى حياة عدد كبير من البشر ليس لانه كان انسانا طيبا ومبدئيا فقط، بل لانه كان انسانا شيوعيا واعيا. اذا صرف الانسان خمسة دقائق مع جبار، كان لابد من ان يتعلم شيئا منه سواء أكانت طريقه تعامله مع الأطفال اوالنساء او موقفه من حرمة الانسان وكرامته ومن الحرية، وخاصة الحرية السياسية و الخلاف الفكري، ومن الخصوم السياسيين الخ وكل هذا كان لسبب وهو ان جبار كان انسانا شيوعيا. لقد كان لجبار هذا التاثر بدون ان يتمكن من قلب النظام الرأسمالي. هذا كشخص جبار، ولكن التاثير الاخر والاهم كذلك هو ما قام به من خلال حركته ونضالهما.

من يقرأ مقال عدنان كريم، وهو غير مطلع على تاريخ جبار والحركة الشيوعية في المنطقة وتحديداً في كردستان العراق وحتى وسط وجنوب العراق، يحس بان جبار قد صرف عقودا هباءاً وعبثية بتشكيل منظمة ثم الخروح منها، وبناء شيء ثم هدمه، كما ان الحركة الشيوعية لم تراوح مكانها لاربعة عقود فحسب، بل تراجعت الى الوراء واندثرت. ولكن هذ الوصف هو بعيد جدا عن الواقع، وهو وصف "المهزومين"، الذين قرروا مغادرة المساهمة في هذا النضال الواقعي للانسان، الذين لم يكن جبار منهم. فلا جبار كان جبار السبعينيات، ولا الحركة الشيوعية رغم كل مراحل التقدم والتراجع، راوحت في مكانها. من يعرف تاريخ الحركة الشيوعية في العراق والتي كان جبار احد قادتها، ورغم ان تاثيرها لم يكن بالقدر المرغوب به، يعرف جيدا حجم تطورها سواءا في نظرتها للإنسان او الحياة او مسائل مثل القومية، او الدين ومسائل عديدة أخرى او في أسلوب نضالها والقضايا التي تبنتها الخ.

في الحقيقة ان عدنان كريم يقع في تناقض، فمن جهة يشبه جبار بسيزيف ويصوره على انه "شيوعي حالم"، ولكن هو نفسه يتحدث في هذا المقال وفي خطاباته كذلك عن دور جبار وتاثيره على امتداد اربعة عقود، على الشيوعيين، النساء، الحريات السياسية ونضالات الجماهير ومطاليب الناس. هذا يعني ان عمله لم يكن دون طائل او فائدة او تاثير، اي ان فائدة عمل جبار وتاثيره يقر بهما عدنان نفسه.

أهو دون كيشوت اخر؟!
وفي مكان اخر يصف جبار محمد بـ"دون كيشوت". هل كان جبار دون كيشوتيا؟ لنسال ماهو دون كيشوت؟! دون كيشوت هي شخصية صاغها سرفانتس، في بداية القرن السابع عشر، قرن الاكتشافات العلمية والمعرفية الهائلة، عصر نهوض البرجوازية كطبقة، وما رافقها من تصور وايمان عميق بالانسان و"عقل الانسان"، عصر "الذات العقلانية" التي تقتحم الكون وتكشف اسراره، عصر "انا افكر، اذن انا موجود"، عصرالتنوير الاوربي، عصر "الوعي والعقل اساس الوجود"، اتى هذا العمل، وشخصية دون كيشوت الهزلية والهزيلة، ليسفه من خلاله قيم العصر القديم، عصر وقيم الفروسية واخلاقها البائدة، والتوهمات غير العقلانية و"محاربة الطواحين". دون كيشوت رمز استعادة الامجاد "البالية" لعصر الفروسية والفرسان الجوالين ومساعدة "المستضعفين" و"نشر العدل" الرومانسية وغير الواقعية!
أي ان دون كيشوت هو رمز الحنين للماضي وقيمه ونمط الحياة القديم والخ. اين هذا من شخصية جبار ونضاله ومساعيه؟! سوف اترك الحكم لمن يعرف جبار عن قرب.

ليس للشيوعية "انبياء"، ولا "اباء"!
ردد عدنان كريم في مقاله المذكور عبارة "الاباء المؤسسون"، "انبياء النظرية الماركسية" وغيرها من مصطلحات. هذه العبارات لاتنبع من تصور شيوعي لماركس وانجلس ولينين، بل من تصور عدنان نفسه في الماضي عنهم، تصور اقرب لديني، لاهوتي لاربط له باي شيوعية او علمية او مادية، وهو في الحقيقية تصور تطرحه حركات برجوازية للنيل من الماركسية والشيوعية عن طريق تشبيها بالدين وكل ما يمثله من جمود فكري.

في نظري ليس هناك انبياء او حتى اباطرة، وانما أحيانا تتوفر لاشخاص في مراحل تاريخية معينة شروط موضوعية معينة تمكنهم من القيام بانجازات كبيرة للبشرية. ليس بإمكان شخص من انجاز عمل فذ خارج اطار المجتمع والظروف الوضوعية التي يوفرها له. فماركس وانجلز ولينين ليسوا انبياء بمعنى ان ليس كل مانطقوا به هو " كلام منزل من الله" وغير قابل للخطأ، ولكن هذا في نفس الوقت لايعني ان نقوم في كل يوم بإعادة اختراع العجلة في ميدان الفكر الماركسي وإخضاع كل أفكارهم لنقاش لايعرف النهاية. وهذا العرف موجود في كل الميادين. ففي مجال الطب مثلا لاتقوم باكتشاف الاسبرين او البنسلين يوميا، ولكن هذا لايعني تقديس أصحاب الاكتشافات القديمة. كما ان ماركس وانجلس ولينين ليسوا "الإباء" فالفكر الاشتراكي بدأ قبلهم ولولاهم لقام غيرهم بما قاموا به من انجاز فكري. والحادثة التاريخية معبرة جدا بهذا الخصوص، اذ كلفت عصبة الشيوعيين كارل ماركس وفردريك انجلس عام 1848 مهمة كتابة بيان الحزب الشيوعي وامهلتهم 14 يوم لذلك، وابلغتهم انه في حالة عدم امكانية القيام بذلك، سيكلف اخرين بهذه المهمة. اي لو ان ماركس وانجلز لم يكتباه، لكتبه احد غيرهم! فاي "انبياء" واي "اباء"؟!
ان الشيوعية عند عدنان هي شيوعية افكار وتعاليم و"اباء" و"قديسين" ومريدين"، لاربط لها بحركة اجتماعية وتيار اجتماعي واقعي في المجتمع وداخل الطبقة العاملة حاله حال الليبرالية، والقومية، و ... الخ.
ان ماقام به ماركس هو رسم الملامح العامة للمجتمع الراسمالي، باقتصاده وسياسته، وقواه الاجتماعية، والقوة الطبقية التي بوسعها ان تنهي عالم الاستغلال الراسمالي وارساء المجتمع الاشتراكي. اما مهمة الشيوعيين دوما فهي السعي والنضال بظروف مادية معطاة كل بمرحلته.

من الذي ابتعد عن الممارسة؟!
قبل كل شيء، يقول عدنان كريم اليوم ان تركه للشيوعية العمالية كان بسبب ابتعادها عن الممارسة السياسية والاجتماعية. لقد انقضت 20 عام على تخليه عن الشيوعية العمالية. بعد خروجه من الحزب الشيوعي العمالي العراقي، قال انه شيوعي عمالي، ولكن مشكلته هي مع الحزب الشيوعي العمالي العراقي، وقال بانه سوف يديم فعاليته السياسية كشيوعي عمالي خارج صفوف هذا الحزب. وبعدها شكل "حركة انبثاق حزب العمال الشيوعيين"، ومن ثم اسس مع اخرين منظمة "اتحاد الشيوعيين" التي تركها بعد فترة، وبعدها ترك الشيوعية بشكل كامل، وبدا بنشر نفس الأفكار والادعاءات عن الشيوعية والماركسية التي قام هو بنفسه بالرد عليها قبل عشرين سنة. ومن ثم التحق بحركة كوران ( التغيير) القومية للجلاد نوشيروان مصطفى. باختصار، لم يتخلى عدنان كريم عن الشيوعية العمالية فحسب، الذي يدعي انها كانت سبب الابتعاد عن الممارسة السياسية والاجتماعية، بل " افتر" على اتجاهات سياسية مختلفة طارقا الكثير من الأبواب. سؤالي هو كم ساهم تخلي عدنان كريم عن الشيوعية العمالية والشيوعية بشكل عام في الدفع بالممارسة السياسية والاجتماعية التي يدعي بان الشيوعية العمالية ومنصور حكمت كانا عائقاً امامها؟ هل يمكنه ان يقول لنا ماهي فوائد تخليه عن الشيوعية بحيث يمكنه دعوة الاخرين للالتحاق بصفه.

من جهة أخرى لدى عدنان تاريخ نضالي مع المارکسیة الثوریة و الشيوعية العمالية يمتد 15 سنة تقريبا، ولديه بعد الاستقالة ما يقارب ٢٠ عام ایضا من ترك الشيوعية والندم عنها والانخراط في كوران، برايه، أي من الفترتين كان لها تاثير ايجابي على المجتمع: عندما كان هو في الشيوعية العمالية ومشارك في نضالات الجماهير ضد البرجوازية، ضد قتل النساء، العاطلين، تاسيس المجالس والحركة المجالسية او مابعد الحزب والشيوعية العمالية، أي فترة 20 عام من الندم من الشيوعية العمالية؟ ماهي نتائج وثمار اعماله في هذه الفترة التي يفتخر بها؟ ليقارن بشكل موضوعي ويقل لنا رايه؟!

اي اذا كانت الإنسانية والحرية والتقدمية والوقوف في وجه الظلم هي المقياس حقا، أي من الفترتيين في حياة عدنان كريم هي محل افتخار؟! هل هي الفترة التي كان في صفوف الحركة الشيوعية وكان جزء من النضال ضد ظلم واستغلال الرأسمال وضد الرجعية والتخلف والتمييز او الفترة التي تخلى بها عن الشيوعية واصطف الى جانب حركة التغير ونوشيروان و الافاق البرجوازية المختلفة، واصبح جزء من المسعى لايهام العمال والكادحين وخلق توقع وانتظار عندهم بان نهاية الماساة التي يعيشون فيها سوف تكون من خلال ادعاءات الأحزاب البرجوازية بالإصلاح؟ هو من يقرر أي من الفترتين في حياته السياسية هي محل افتخار!
بنظري، عندما كان عدنان كريم في صفوف الشيوعية، شارك في صناعة تاريخ جديد يتحدث هو نفسه عنه في سياق الحديث عن دور جبار الذي له بصمة واضحة على حياة المجتمع في العراق وكردستان وخاصة في مجال التصدي للرجعية ضد قتل النساء وعبودية المرأة والدفاع عن حقوق الطفل والحريات السياسية وتقوية نضال العمال والكادحين ضد قوى القومية الكردية الرجعية.

كما ان عدنان يغالط نفسه، فمن جهة يتحدث عن الابتعاد عن الممارسة الاجتماعية، ومن جهة اخرى يكيل المديح لجبار بوصفه "هکذا خاض معترك محطات النضال القاسي لمرحلة ما بعد الکویت حیث شارك و بجدارة و حماس في تأسیس منظمة ( إتحاد نضال الشیوعیة العمالیة ) مرورا عبر دوره القیادي في تشکیل لجان الإنتفاضة و حرکة المجالس التي إنبثق کبدیل رادیکالي في خضم الإنتفاضة کبدیل لسلطة البعث و الاحزاب القومیة الکردیة"!!! هل يعد عدنان "تشكيل لجان الانتفاضة" وحركة المجالس" التي هي من مبادرات الشيوعية العمالية وحزبها في ايران ومنظماتها في العراق هي جزء من الممارسة السياسية والاجتماعية ام لا؟! ليفسر للقاريء هذا التناقض في ادعائاته!

وبعد هذا وذاك، ليرينا عدنان ماهي نظريته وماهو عمله وما هي ممارسته الاجتماعية؟! وماهي روزنامة عمله اليومي او هل بوسعه ان يذكر لنا انه بعد قهوة الصباح، حين يتطلع الى روزنامة عمله اليومي، ماذا يجد فيها من "اعمال نضالية"، دعك عن ان نظريته تزكيها "العمل والممارسة الواقعيتين ام لا"؟!
فليس من البطولة ان ينصب احد منا نفسه قاضي يحكم على تاريخ اشخاص وحركات وأحزاب وحسب المعايير التي تروق له في الوقت الذي يعتبر نفسه فوق أي حكم وحسب كل المعايير. اذا كان عدنان يعطي لنفسه الحق في اعتبار الشيوعية العمالية بعيدة عن الممارسة السياسية والاجتماعية، فليرينا ممارسته السياسية والاجتماعية لنتعلم منه.

ويورد في سياق "المتلازمة المنهجية" للشيوعية العمالية بالانهماك بالعمل النظري و"الابتعاد عن النضال الاجتماعي"، موضوعة منظمة كو مه له (عصبة كادحي كردستان) وتدمير كوملة في ايران. ان هذا الامر لايستحق ردا. لان كلام عدنان هذا هو تكرار كلام صاحبه الاصلي، جلال طالباني، وقد جرى الرد عليه في وقته، وكان الرد في وقته مبعث تاييد عدنان وثناء نفسه (رد منصور حكمت على اتهامات جلال الطالباني بتدمير كومه لا وحركة المجالس). انه لمبعث اسف فعلا ان يلجأ عدنان اليوم الى تكرار اكثر اسطوانات جلال الطالباني وعبد الله مهتدي مشروخة!!!! ان تقييم عدنان اليوم هو تقييم الجناح القومي داخل كومه له في وقتها. قبل اكثر من 20 عام قال القوميون هذا، ماهو الشيء المهم والجديد و"الابداع" في تكرار ماقاله القوميين قبل 20 عام؟. ليس ثمة فن وحكمة في تكرار مثل هذا الكلام، ان ما فيه جديد سوى ان عدنان من يردد هذا!!!

ان حال عدنان، في زاوية منه، كحال منظمة "كومه له"، اذ لم تكن الاخيرة تتعدى كونها منظمة فلاحية، شعبوية، ترسف في القيم الرجعية القومية والقيم الاجتماعية المتخلفة، ذات ثقل محدود قبل منصور حكمت، اتت مع منصور حكمت، تحولت الى منظمة اجتماعية قوية ومؤثرة وراديكالية، اكبر قوة يسارية في كردستان ايران من حيث ثقلها الاجتماعي والسياسي والتنظيمي وحتى العسكري بحيث لجمت اكبر قوة دموية برجوازية قومية كردية في كردستان (الحزب الديمقراطي الكردستاني الايراني) من التطاول على مجتمع كردستان وحرياته وحقوقه. بوسع اي مراقب خارجي ان يرى اي تراجع فكري وسياسي واجتماعي شهدته بانفصالها عن منصور حكمت! وهذا هو حال عدنان في جانب منه، فماذا كان قبل منصور حكمت، وكيف اصبح في ظله وظل افكاره ونضاله، وماهو عليه الان؟! لقد رجع عدنان وكو مه له كلاهما الى وضعهما السابق للاسف، الى وضع ماقبل منصور حكمت. لو تحلى المرء بادنى درجات الانصاف، سيرى عالمين مختلفين جدا بالنسبة لكومه له وعدنان نفسه: عالم مع منصور حكمت، وعالم بدون منصور حكمت، عالم المثل والقيم النضالية والانسانية الراقية والمتمدنة، وعالم اخر يختلف كلياً، جبهة وتخندق اخر.

يوجه اللوم والعتب الخجول لجبار مصطفى بانه لم يستطيع "الفكاك" من الشيوعية العمالية. سؤال: ان انفك جبار من الشيوعية العمالية، الى اين يذهب بتصور عدنان؟ كل امرء يقول هذا، من المتوقع بداهة ان يدعوهم الى صفه؟ ما هو صفه اليوم غير صف "التيه" و"التقلب الفكري والسياسي"؟!

ولكن اذا كان جبار مصطفى ونضال جبار وتاريخه هو نضال وتاريخ "غير المهزومين"، فان رواية عدنان كريم، رغم كل تبجيله لايمكن ان تكون رواية "غير المهزومين"، اؤلئك الذي لايمكنهم القاء سلاحهم ولاحيلة لهم، بوصفها ضرورة اجتماعية وحياتية، سوى ان يناضلوا من اجل ارساء عالم افضل.