الممكن والضروري


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 6145 - 2019 / 2 / 14 - 04:03
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

الممكن والضروري


من المسائل التي أثارت الفلاسفة على مر العصور وما زالت لم يحسمها رأي ولم تحتويها نظرية أو فكرة جامعة هي مسألة الوجود بشقيه الموجود وواجب الوجود، الأختلاف الفلسفي متأصل وينطلق من فكرة أساسية هي ماهية العلة التي تجعل من الوجود منقسما بين الحدين المذكورين، بين ما هو قديم وبين ما هو حادث، وبين ما هو ممكن وما هو ضروري وألخ من المقولات الفلسفية التي يأخذ فيها الفلاسفة دروب عدة وأفكار تتناقض وتتضارب فيما بينها، المشكلة الأساسية لهذه النتيجة مردها أصلا عدم الأتفاق على معيار قانوني واحد للإنطلاق منه إلى هذه المباحث العقلية الشائكة، القانون المعياري يجب أن نفرق به بين ما هو ينتمي بجوهره وماهيته للموجود لأنه متعلق به ومنه، وبين أستحالة تطبيق هذا المعيار عما هو لا ينتسب للموجود ولا يتصل به لأنه غيري.
الوجود عاما منقسم حقيقة إلى ما هو مدرك حسي مادي صوري، وبين ما هو خارج الإدراك الحسي المادي اللا صوري مفتقد الشكلية والصورة لأنه ليس من الموجود بصفاته وجوهره وشكله فهم ما يطلق عليه بـ (الميتامادي) أو فوق المادي وقبله وبعده وإن كان وجودا حقيقيا ندركة ليس بالمدرك الحسي بل بالمدرك العقلي الضروري، يقول أبو حامد الغزالي في التهافت ( الناس فرقتان، فرقة أهل الحق وقد رأوا أن العالم حادث وعلموا ضرورة أن الحادث لا يوجد بنفسه فأفتقر لصانع...، وفرقة أخرى وهم الدهرية قد رأوا أن العالم قديم ولم يثبتوا له صانعا...)، هذا الموضوع والرد عليه والتنظير به يعد من أهم مباحث الفلسفة الإسلامية إن جاز لنا أن نسمي ونقر بوجود فلسفة إسلامية، وقد تكون معظم أتجاهات الفلسفة المتفرعة عنها قديما وحديثا تدور أولا وأخيرا في هذا الموضوع وتركز كل جهوهدها على أستكشاف ما هو متعارض أو متساوق مع العقيدة الدينية الإسلامية التي حزمت بوجود خالق ومدبر للوجود وهو ما نسبه ابو حامد الغزالي لأهل الحق وعليه سار.
القضية في رأي لا علاقة لها بالنص الديني أصلا ولا يمكن أن نجعل من قراءتنا له أو إيماننا به مصدر للحكم دون أن نعود لنفلسف النص ذاته ونفهم قيمة الجوهر فيه، عندما يصف الله نفسه بالخالق والمصور والصانع والبديع وووو إلخ من الصفات والأسماء فأنه يشير إلى فعله وصورة الفعل لا إلى ماهيته الذاتية لأن جوهر ماهيته وإن أراد أن يذكرها لا تدركه العقول التي لا تستقبل إلا ما هو مشاكل لما تدركه وتحسه وموجود في ماهيتة الموجود، الإفتراق هنا حقيقي وضروري لأنه لو عرض ماهيته مستعينا بالشيء الذي ليس كمثله إنما ينسف القاعدة الأولى التي تنفي المشاكلة والتشبيه، فلا يجوز عقلا أن نجمع المحال المطلق مع الممكن الجوازي النسبي، ولا يقر العقل هذا التوصيف لو جاء من الله أو أشار إليه لأنه عاقل لا يسلم بالمحال ونقيضه في منطق واحد.
ونعود لمعيار الفهم الفلسفي للنص والذي يعود بالضرورة إلى منطلقات فلسفة اللغة ومنطق المفردة وجذرها ودلالاتها التامة فيما أشارت به لفعل الصفة ذاتها، فالخالق مثلا والمصور والجاعل كلها صفات محدثة تتعلق بفعل الله، وفعل الله متعلق بقدرته على أن يحدث ما هو حادث له وما علته، والقدرة أيضا متعلقة بوجوده الذاتي المحض...هنا نسأل العقل هل وجود الله أصلا متعلق بقوانين الموجود المادي الحسي؟ أم يستقل بقوانين خاصة به طالما أننا نؤمن أيضا (أن الله ليس كمثله شيء)، وهذه عدم المثلية تعني أنه خارج قوانين الشيء الذي هو الموجود الحسي المادي الذي يمثل بمجموعه المتعدد واحد أستنادا لفعل الخلق وإن تعددت أشكاله وحوادث حدوثه، فالقياس والمعيار يجب أن يكون هنا مختلف وغيري، ومع ذلك عندما ندرس الوجود كليا بشقيه الموجود وواجب الوجود لا بد أن ندرسهما على أنهما على تجريد ذات كل منهما عن الوحدة المشتركة بأفتراض الوحدة الكلية بينهما.
نعود لأصل المسألة التي حسمها ابو حامد الغزالي من أن الوجود كله هو (العالم) حسب تعبيره دون أن يحدد معنى قاطع وكامل وتام للعالم، هنا نسأل هل أن مفهوم العالم لديه هو الوجود كاملا بشقيه؟ أم أنه يقصد الموجود الحسي بمعناه المادي المدرك بالعقل المنطقي؟ إذا كان الجواب الأول هو المقصود تماما فأنه خطل بفهمه وأضاع نفسه فيما لا يتوافق أصلا مع إيمانه الديني ولا مع عقله الفلسفي، وإن كان يقصد الثاني حتما فأنه محق بقوله لأن الموجود ما وجد أصلا إلا بعد حضور الواجد له أي معلول لعلته التي من أجلها حدث، من قراءة كامل مفاهيم الغزالي الراجح عندي أنه يقصد الأول والدليل تركيزه على المقارنة مع الدهرية الذين ينسبون للحدوث الوجودي الأول كاملا العلة في ذاته لا في الخارج عنه ولا لسبب خارجي عن الذات.
الموجود إذا تكلمنا عنه كجزء من الوجود علينا أن نعترف أن له قانونه الخاص به، هذا القانون يعبر عن ثلاثية تؤطره لوحده (واحد فاعل قديم سابق __ فعل بالقوة __ موجود على سبيل النتيجة)، هنا يمكننا القول أن الوجود كليا ينقسم عند الدهرية وحتى المعتزله وعند الكثير من الفلاسفة إلى نوعين بحسب القانون ذاته:.
• وجود ضروري لذاته بذاته قديم مطلق وباق مطلق.
• وجود ممكن متعلق بعلة خارجة ويدور معها وجودا وعدما يكون دوما حادث ومتغير ومتعدد.
وحتى نفهم الفرق بينهما علينا أن نفهم أن الضروري هو الواجب البدي الذي لا يمكن أن يكون معلقا بوجوده على غيره، لأنه يملك العلة أصلا في ذات وجوده الأول الذي هو جوهره وماهيته ولا ينطبق عليه قانون الموجود الحسي بترابط العلة والمعلول ولا قانون السببية والتقدم والتأخر بينهما، وكلاهما من قوانين الموجود الحادث الممكن المتعدد المتجدد، فيكون الضروري بالنتيجة:
• الضروري واحد لا يتعدد لأنه لا يقبل التكرار الذي هو صفة الممكن المتعدد بقوة العلة الخارجة عنه وتقديراتها في حدوث الممكن بتعدد الفعل المنسوب للعلة الخارجة.
• الضروري قديم لانه لا يقبل التجديد فهو محكوم بقانون الذاتىالعلة وهي واحدة والواحد لا ينتج إلا واحد طالما يخضع لقانون واحد.
• الضروري أول وكل أول هو أقدم مما بعده حادث أو ممكن الحدوث، ولأن ما بعد القديم هو الجديد والجديد صفة الممكن لا صفة الضروري.
• الضروري بالرغم من كونه أول فهو أخر لأن الباقي على أوليته لا يتغير طالما أنه لا يتجدد ولا يتعدد، بينما الممكن قابل بالقوة أن تعتريه فعلية التجديد والتعدد.
• الضروري لا يفنى ولا يستحدث قائم بذاته لذاته وفي ذاته أستنادا لكونه قديم محال التغير والتعدد والتجدد فهو على حاله موقوف مطلقا ولو جاز له الحدوث في كل مرة لفقد ضروريته وهذا محال مطلق، والمحال المطلق محال في كل أحواله بالبقاء والعدم.
• الضروري حتمي لا بد من أن يكون كما كان بجوهره وماهيته غير متعلق على فعل غيره ولا متصل بما هو غيري ثابت بحتميته البدية، أما الممكن فهو متردد بين الحدوث أو التأجيل تبعا للعلة وإشاءتها وكلها خارجة عنه.
إذا نستطيع أن نفهم المسألة على الوجه التالي (يقسم الوجود إذا على فرضين، الأول موجود لعلته في غيره وهو الممكن، وواجب الوجود وهو الضروري بعلته الذاتية في في وجوده، وكلاهما بالنتيجة يشكلان الوجود العام وهو واحد لترابط الممكن بالضروري ترابط إدراكي تعليلي، ولا أصل لوجود موجود بلا علة أو لا علة له، وواجب الوجود هو كل قديم مطلق ثابت واحد لا يتغير ولا يفنى ولا يستحدث كما قلنا لعلته الأولى في ذاته لا تنفصل ولا تتغير ولا تتحول ولا تتبدل، وهو لا يحتاج لغيره وغيره محتاج له وهو الممكن لأن الأخير لا يماثله ولا يشاكله في القانون والماهية والجوهر والعرض، والقانون بواجب الوجود ذاتي وحتمي في المقدمة والنتيجة سواء فعل وأحدث غيره أو لم يفعل ولكنه سيفعل ويحدث).
فما هو ضروري لا نتصور أنه يكون ممكنا ومحال أن يكون كذلك والعكس صحيح، فيكون كل ضروري سابق للممكن ومتقدم عليه، وبالضرورة أن يمارس فعله بالحدوث أو التغيير أو التجديد أو التبديل عليه دون أن يكون للممكن أن يمنع ذلك أو ينفلت منه، ولأن الضروري واحد فيكون فعله واحد بالجوهر والماهية وهي علة الممكن حدوثا، وبالنتيجة يكون الضروري لا حاجة له بالممكن إلا بعد حدوثه بحدوثه، ولكن الممكن بحاجة حتمية للضروري ومتعلق به وعليه لا ينفك عن ذلك، فالخالق من حيث هو فاعل ومصور ومحدث للمخلوق لا يمكن أن يقاس بمعيار واحد مع ما فعل وما أحدث، ولكنهما معا يشكلان وجود واحد متكامل وليس متناظر ولا مماثل وإن تعددا على أصل العلة والمعلول، فيكون قول الدهرية والمعتزلة والفلاسفة من هذه الجهة صحيح إذا كان المشار له هوالضروري لا الممكن، ويكون كلامهم محل الخطل والخأ إن أشاروا للوجود بعمومه دون التخصص والتخصيص بواجب الوجود.