العقلانية الأداتية والعقلانية التواصلية


زهير الخويلدي
الحوار المتمدن - العدد: 6144 - 2019 / 2 / 13 - 19:14
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

" يجب أن يكون الفعل التحرري مؤسسا على العقل، لأن المهمة الجوهرية للنظرية هي تعقيل الواقع والأحداث وذلك بإقامة نظام عقلاني للمجتمع"
– بورغن هابرماس، نظرية الفعل التواصلي.
يعتمد المرء على العقل في حياته مثل اعتماده على الوسائل الإدراكية والمعرفية الأخرى بغية الوعي بالذات والاتصال بالعالم الخارجي والتأقلم مع المجتمع وتشييد مجموعة معايير متفق عليها بين الكل. بيد أن استعمالات العقل تختلف من شخص إلى آخر ومن ثقافة إلى أخرى وتتزايد وتتناقص حسب الطلب والحاجة وتتراوح بين السلب والإيجاب وبين الضرر والنفع وبين التخصيص والتعميم وتتأرجح بين التحرير والتقييد وتتعالى على الحواس والنص حينا وتخضع لمحك التجربة والتثبت العلمي حينا آخر. لقد عرفت العقلانية تحولات قسرية دفعت بها إلى خوض معركة ضد الطبيعة من خلال التقنية الصناعية وارتداء ثوب الأداتية وممارسة الترييض للظواهر الفيزيائية والسعي الى تكميم النوعية والسيطرة التقنية على العالم والتخلي التدريجي عن المصادر الإغريقية لكلمة عقل التي تفيد الحوار والخطاب والتوضيح. فما المقصود بالعقل الأداتي؟ ومتى تشكل؟ وماهي وظائفه ومجالاته؟ ولماذا اعتراض عليه العقل النقدي وناقشه ؟ وماهو الدور العمومي للعقل؟ هل يقتصر على البعد التداولي الحسابي أم يمكن إيجاد أرضية تواصلية حوارية؟ وكيف حل العقل التواصلي محل العقل الأداتي؟ وماهي مكاسب العقل التواصلي؟
يعبر العقل الأداتي عن العقلانية الأداتية التي لعبت دورا هاما في تطور المجتمع الرأسمالي على الصعيد المادي ويتفق مع العقل الحسابي والعقل التقني والذكاء الاصطناعي ولكنه يمثل أيضا منطقا في التفكير وأسلوب في الحياة ورؤية للعالم تنبني على التخطيط والبرمجة والتنفيذ والعد والتوجيه والتسيير والمتابعة المستمرة ويقر بتبعية الجانب النظري التأملي للجانب الواقعي المنفعي وأولوية انتقاء الوسائل قبل الغايات. بيد أن العقل في مظهره الأداتي تحول إلى أداة لممارسة الهيمنة على الإنسان والطبيعة وتقنية للاستعباد والاستغلال في المجالات التبادلية وحاز على طبيعة اختزالية لقوته وفقد قدرته على إدراك الحقائق وتمييز الأشياء وتقلصت وظيفته المعيارية الأصلية وأصبح أيديولوجيا مكلسة فاقدة للمعنى والحياة وتتصف بالإقصاء والتمييز والانتقاء ويرجع اتخاذ القرار إلى جملة من الخبراء وتعطي سلطة التصرف للتقنيين." العقل الأداتي هو العقل المهيمن في المجتمعات الرأسمالية الحديثة التي فقد فيها العقل دوره كملكة فكرية وتم تقليصه إلى مجرد أداة لتحقيق أهداف معينة، وفقد رؤيته للهدف وأصبح مجرد أداة لتوفير الوسائل"1
تأتي سلبيات العقل الأداتي من تمركزه حول ذاته والتعامل مع النموذج العلمي التقني بوصفه معيار الصلاحية وشرط النجاعة وإخضاع كل الأبعاد العملية والفنية للقولبة واغتصاب ما فيها من جمالية وتعبيرية والتركيز على البعد الكمي وعلاقات التماثل والتطابق والثبات عند النظر إلى الإنسان والطبيعة وتعمده إهمال الخصوصية ومحاولته إتلاف التغير والاختلاف والتنوع والقضاء على الجدة والابتكار. أما في في الفلسفة الإجتماعية يقصد بالعقل الأداتي ذلك النمط من التفكير الذي يعرف مشكلة ما ويسعى لحلها مباشرة دون تساؤل عن مضمون هذه الحلول والتبعات التي تنجر عنها وما إذا كانت إنسانية أو لا، بينما العقلانية الأداتية هي موضوع دراسة لكل من علم الاجتماع والفلسفة الاجتماعية والنظرية النقدية ، وأول ناقد جدي ربما لهذه الأداتية هو مارتن هيدجر الذي يحاجج معاصريه بأن أكبر خطر يحدق بالعالم الراهن هو العلاقة الأداتية التي تربط العلم بالعالم والقائمة على السيطرة على الطبيعة واستعباد الإنسان. في العقلانية الأداتية يتم التعامل مع العقل كشيء منفصل لذاته ومعزول عن الإنسان ويمكن استعماله كأداة بمعزل عن غاياته وأهدافه الإنسانية وخارج إطار الذات الواعية التي تحمله والحرية التي ترتبط بمصيره. لقد بات العقل أداة لإنتاج أشياء قابلة للتداول وصناعة الثقافة والنجاح وبرمجة العقلنة بشكل مسبق ونشرها في العالم بطريقة مسقطة وتعسفية وكرس الاستعمال الناقص والخاطئ والمشوه لما ينتجه التفكير الحاذق. يهتم العقل الأداتي بأسئلة كيف وبماذا ومتى؟ ولكن يهمل أسئلة لماذا وما الغاية من وما قدر هذه؟ وينقد الأشكال دون المضامين ويسقط في التشيئ والاعتراب ويعكس آليات التبادل المجرد والشكل للرأسمالية. ان العقل الأداتي هو جهاز تكنوقراطي يسير المعرفة والمجتمع من المركز ويهمش الأطراف ويؤسس للشخصية السلطوية والنظام الشمولي والإدارة البيروقراطية والاستبداد الديمقراطي والحكم الفردي.
بهذا المعنى يشرع العقل الأداتي العلاقة النزاعية بين الإنسان والطبيعة ويحول المعرفة العلمية إلى أداة للغزو ويترتب عن ذلك إهدار لإنسانية الإنسان وتلقائيته وبراءته الأصلية وطاقته وقدرته على المبادرة ويعود في الأصل إلى هيمنة المنطق على عالم الحقيقة وميله إلى إخضاع الأشياء وانتصابه عائقا معرفيا بتفضيل الاكتفاء بالمحصل والقيام بعمليات الإحصاء والحساب والتنظيم والتوقف عن الاستشراف والخلق. المشاكل التي أوقع في ها العقل الأداتي الحداثة هي المحاكاة والإسقاط والفصل بين الذات والموضوع والتشكيل العقلاني للمجتمع من خلال النموذج السبرنيطيقي والتنكر لهموم السياسية البشر ومطلب التحرر وصناعة الإنسان ذي البعد الواحد في المجتمع ذي البعد الواحد وتكثيف أدوات القمع والعمل على إفناء الذات وجعلها آلة راغبة وأداة للاستهلاك في عالم مفتوح يعج بالصور والرغبات غير قابلة للإشباع. فكيف ساهمت العقلانية الأداتية في قيام العقلانية النقدية في شكل متقدم وفي مستوى أعمق ومزدوج؟
يأتي العقل التواصلي بديلا عن العقل الأداتي ويتم التركيز على العقلانية التواصلية ونقد العقلانية الأداتية وتم الاعتراف بفعاليات وأبعاد يتضمنها العقل تتجاوز العد والحساب والتمركز والانتقاء والتجزئة والهيمنة ووقع الإقرار بأن مسارات العقلنة تجرى في دروب متنوعة وتغطي كل ما اعتقد أنه معقلن وما لا يقبل العقلنة وتجسد ذلك في نظرية الفعل التواصلي عند يورغن هابرماس والمبدأ الحواري عند بول ريكور. والحق أن " هذا العقل يتجاوز العقلانية الغربية التي أعطت أولوية مطلقة للعقل الغائي والتي تهدف إلى تحقيق مصالح وغايات معينة، فهذا العقل يبنى على فعل خلاق يقوم على الاتفاق وبعيدا عن الضغط والتعسف وهدفه بلورة إجماع يعبر عن المساواة داخل فضاء عمومي...يرتكز على التفاهم والتواصل العقلي"2
يقوم هابرماس بتقسيم أنشطة العقل إلى قسمين: نشاط معرفي أداتي مرتبط بغاية ويحقق منفعة ويستخدم المعرفة من خلال التقنية بغية التحكم في الطبيعة والبيئة التي تحيط بالإنسان. في حين يعد النشاط الثاني فعلا تواصليا تمارسه الذوات القادرة على الكلام والفعل والحوار ويكون غرضه الأول بلوغ التفاهم. كما تدور العملية التواصلية التي ينخرط فيها العقل بشكل مباشر في العالم المعيش وتمثل الشخصيات العاقلة دور البطولة في هذه العملية وذلك عن طريق اللغة واللسان والكلام والفعل والحديث والحوار والنقاش والتفاوض والمشاركة الايجابية في صناعة القرار والتأثير في الرأي العام وتوجيه الميولات والأذواق. ليس العقل جوهرا مكتملا ولا واقع بذاته بل حالة افتراضية وخزان من الوعود المشرعة على المستقبل وطاقة تفكير وتصميم وعمل ونسق من البدائل الممكنة التي تنتظر اتفاق الذوات على وضعها محل تنفيذ. بعد ذلك يعترف هابرماس بأن العقل التواصلي متجذر في الممارسة اللغوية وبأنه يهدف من استعماله وضع نظرية نقدية في المجتمع والتدخل في الفضاء العمومي عن طريق تجاوز الذات لذاتيتها وإقحامها في المشاغل المشتركة والإحساس بالآخر وتقديم يد العون له ولذا يضطر إلى التأليف التقاطعي بين العلم مجال الواقعية الموضوعية والأخلاق مجال المعايير والمشروعية والفن مجال القيم والدلالات الرمزية والأبعاد الجمالية. لا يمكن بلوغ درجة العلاقات التواصلية عن طريق الواسطة اللغوية التي تتدخل ضمن النشاط الاجتماعي ويتم تثمين أبعادها التداولية والارتقاء من الأقوال والألعاب اللسانية إلى الحركات اللغوية وأفعال الخطاب. تسمح اللغة بالنقاش والحوار ويسمح المناظرة والمحادثة من التفاوض والتنازل والتسويات ويؤدي ذلك إلى التعاقد والاتفاق والتفاهم والقبول بالعيش المشترك والرضا بالقسمة العادلة في المصالح والمواقع.
من شروط التواصل هو التحرر من أشكال الضغط والسيطرة والإكراه والهيمنة وتمكين جميع الأطراف من التعبير عن آرائها والدفاع عن نفسها وتكريس ديمقراطية النقاش التي تضمن الإجماع عن طريق الإقناع بالحجة الكافية والتفاعل الايجابي بين الذوات وتقريب وجهات النظر وتقديم التنازلات. فإذا كانت اللغة هي الوسيط الأساسي للتواصل بين الذوات وكان التفاهم رهين الاتفاق بين المشاركين في كل عملية للنقاش العمومي فإن مهمة الفعل التداولي هو إعادة بناء الشروط الممكنة للتفاهم في كل حوار يقع تنظيمه. بهذا المعنى تسعى العقلانية التواصلية إلى بناء وعي متكامل له توجه اجتماعي عبر عقلنة الواقع وتطهيره من أشكال الاغتراب والممارسات اللاإنسانية ومن براثن اللاّعقل الذي يحاصر الحياة وخلق شروط القيمة المضافة بعدم التكيف مع تفاهة المجتمع ومقاومة الإحباط واليأس ونقد النزعة الوضعية وادماج الأنظمة الشمولية. جملة القول أن الأفعال التواصلية لا تتحقق إلا بتغيير جذري وشامل في المجتمع عن طريق ارتقاء بالكلام المتداول بين الذوات إلى طبقة عالية من العقلانية والاحتكام الى قواعد صلبة ومعايير صالحة في الكليات التداولية واكتساب أشكال نموذجية من أفعال الكلام مع تحصيل الكفاءة على الأداء والمقدرة اللغوية على التأثير والفعل. لكن كيف أدت العقلانية التواصلية إلى المطالبة بتشييد تداولية كونية بين المجتمعات؟

الإحالات والهوامش:
Horkheimer Max, l’éclipse de la raison, traduit par Jacques Debouzy et Jacques Laizé, éditeur Payot, Paris, 1974.
Habermas Jürgen, la théorie de l’agir communicationnel, 1981, Tome1 : rationalité de l’agir et rationalisation de société,
tome2 : pour une critique de la raison fonctionnaliste, VI, édition Fayard, traduction française 1987.

كاتب فلسفي