أوهام لا تموت


مازن كم الماز
الحوار المتمدن - العدد: 6138 - 2019 / 2 / 7 - 09:44
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

الغرب الذي لا يحل لنا مشاكلنا , هذه سرديتنا السائدة عن الحرية اليوم .. أتأمل الصبية التي أمامي و هي تصب جام غضبها على الغرب الاستشراقي مستشهدة بادوار سعيد , و أتساءل , لو كنا نتناقش قبل خمسين عاما عن نفس القضية لكنا نخطط لعملية ضد طائرات العال مع وديع حداد و جورج حبش في مقهى في الحمراء على مقربة من جامعة بيروت الأمريكية أو نتداول كتب سيد قطب في زاوية ما من مسجد في الصعيد أو إحدى عشوائيات القاهرة .. أتأملها و أنصت دون اهتمام لما تقول .. هذه الفتاة تحمل "حلم" فلسطين أيضا مثل وديع حداد و جورج حبش لكنها تسلك طريقا أخرى نحو "حلمها" .. "سأفعل كل شيء لأقنع الدانماركيين و الأمريكان بعدالة القضية الفلسطينية .. حتى أعضاء الكونغرس" .. و أسخر من نفسي و منها : كم تغيرنا يا صغيرتي .. في استانبول يكتشف إردوغان ما سبق لعبد الناصر و الأسد و صدام أن اكتشفوه : يمكن للقضية الفلسطينية أن تكون مفيدة و ينظم أنصاره المظاهرات الغاضبة ضد اسرائيل في ساحات لا تبعد كثيرا عن سفارتها في انقرة .. فلسطين موضوعنا المفضل رغم كل الملل و العبث لكن الإيديولوجيا و السياسة عمياء بما يكفي لاستمرار العادات القديمة مهما بلغ اهترائها : في سوريا يتبادل الجميع اتهامات العمالة لإسرائيل التي لا تخشى أحدا , بينما لا يريد أحد استعداء اسرائيل أو محاربتها , و لا إبادتها , إلا على الورق .. الجيش الحر زحف إلى مستشفيات اسرائيل و الناس العاديون أيضا اعتصموا هناك عندما بدأ طيران الأسد مدعوما بالطيران الروسي حملته ضد كل شيء في درعا و القنيطرة "المحررة" , حرص طيران النظام على البقاء بعيدا عن الحدود أو خط وقف إطلاق النار , الذي التزم به كل السوريين مجاهدين و جنود جيش الأسد البواسل و ناس عاديين .. ليست فلسطين هي خيبتنا الوحيدة .. كانت الثورة حلمنا لكن عندما جاءت حملت معها خيبات الأمل لا الانتصارات أو التغيير التاريخي .. فجأة تكتشف أن الثورة لا تختلف كثيرا عن نظام الاستبداد : هناك سردية واحدة , قصة واحدة إن لم تلتزم بها فأنت خائن , لست ثوريا ما لم تردد ما يقوله الثوار و احتمال أن تفقد رأسك و صوتك و عقلك باسم الثورة ليس بأقل منه باسم الاستبداد , و الثورة لا تلغي قانون التطابق و التماثل بل تفرضه بقوة أكبر , و تباين وجهات النظر ليس مطروحا و لا صوت يعلو على صوت المعركة و من يتزوج أمي أقول له عمي , و يفاجئك الشبه بين بشار و من ثاروا ضده , في الممارسات و في الخطاب السياسي و الفكري , الأحادي , الجامد , الاستبدادي إن لم يكن الاستئصالي , بين مرسي و مبارك و حتى السيسي , هذا ما قد تخفيه الإيديولوجيا و أوهامها و خلافات العروش لكن تفضحه ممارسات الجميع و ثقافتهم , و الثورة ليست وسيلة للقضاء على الاستبداد فقط , و الظلم و الاستغلال إن شئت , بل هي وسيلة البعض للصعود نحو أعلى الهرم الاجتماعي أو نحو السلطة , فيصبح الغاضبون و طلاب الحرية جلادين و سجانين و قتلة باسم الثورة , إن لم يكن باسم العدل أو الحرية .. و تكتشف أن كل ذلك الغضب المكبوت أو المنفلت على كل هذا الواقع العفن يعود للتهميش الاجتماعي و السياسي , و أن المهمشين سيبحثون فورا عن أقصر الطرق إلى قمة الهرم و أن أحدا لا يفكر جديا بتدمير الهرم نفسه أو قضبان السجن الذي نعيش فيه .. تتحدث صديقتي الفلسطينية الدانماركية عن مجازر الهنود الحمر لكن هذا لا يوقفها البتة عن الحصول على فيزا لتتحدث في أمريكا البيضاء عن النسوية و فلسطين و الإسلام و حماس و محمد ( ص ) على نفقة الرجل الأبيض .. العرب و المسلمون و الناشطون الذين يذهبون هناك ليعيشوا على اشلاء الهنود الحمر يغسلون ضمائرهم من وقت لآخر بانتقاد الرجل الأبيض على جرائمه , تماما كما يفعلون تجاه "فلسطين" بأن يشتموا المجتمع الدولي و ينتقدوا أو يسخروا من عدم تحركه إزاء مجازر الفلسطينيين .. كانت الثورة هي الحلم فعندما جاءت سقط الحلم و وقفنا عراة في مواجهة العالم و مرآة حقيقتنا .. في أوروبا الشرقية لم تأت الثورات بديمقراطية لا شعبية و لا مباشرة بعد سقوط الديكتاتوريات الحمراء بل بمجموعة من السياسيين المتحذلقين المتفذلكين الفاسدين حتى النخاع الذين يصنعون قصصهم و تابوهاتهم و أكاذيبهم التي تشبه أكاذيب الستالينيين و أوهامهم لكنها تعاكسها في الاتجاه .. أتأمل الصبية و أتذكر : أفقد رفاقي تدريجيا , تبتلعهم الإن جي أوز و المؤسسات الثقافية و السياسية القطرية و السعودية و أحيانا الإمبريالية الاستشراقية حيث يمارسون هوايتهم في نقد النيوليبرالية و الاستشراق و الإسلاموفوبيا بأموال الاستشراقيين الإسلاموفوبيك أنفسهم .. في الشارع يتداول الناس ما تداولوه لعقود , الأمة الواحدة و الرسالة الخالدة , و الآخر الذي يقضي وقته في التآمر علينا , و نحن الرائعون , و طرق الهروب إلى داخل الاستلابليشمينت أو خارجا إلى الغرب الاستشراقي .. و تكتشف أن اليمين لا يخشى الديمقراطية الشعبية أو المباشرة كما كنا نعتقد , أن المشكلة ليست في الشكل , اليمين اليوم هو الأكثر شعبوية و ديمقراطية من كل التيارات الأخرى و إذا كان الإسلاميون قادرين على اكتساح صناديق الانتخابات فإن رفاقهم الإمبرياليين الإسلاموفوبيك يفعلون نفس الشيء في الغرب .. لا يجد الغاضبون اليوم أفضل من هراء الهوية ليعلنوا عن غضبهم و العالم يموج بما يكفي من الكراهية و الرغبة في إبادة الآخر بما يكفي لحروب لا تنتهي .. الليبراليون يتراجعون بسبب عجزهم و فسادهم و نفاقهم , الناس التي ملت شعاراتهم و عجزها عن إنقاذ امتيازاتهم و نمط حياتهم في مواجهة سيل المهاجرين من الجنوب الذي يتنافس أبناؤه على نهبه بعد أن قرر العالم الأول تركه لوحده .. "ديمقراطيات" أوروبا الشرقية التافهة أنجبت حكومات كل مشروعها يتلخص في كلمة : الانضمام إلى أوروبا الغنية فيبدأ العمال و الفقراء و الحالمون بالثروة بغزو أوروبا الغربية أملا بالحصول على وعود الرأسمالية المستحيلة .. أوكرانيا صنعت ثورتها , اليورو ميدان , فقط لأن النظام الفاسد هناك لم يتقرب بما يكفي إلى الاتحاد الأوروبي .. لكن بعد انتصار الثورة لا يبدو أن الاتحاد الأوروبي في عجلة بفتح أبوابه لآلاف الأوكرانيين الباحثين عن حياة أفضل .. و في فنزويلا و البرازيل و اليونان يتحول سراب التغيير إلى كابوس حقيقي بل هستريا منفلتة , عبث لا يقدر على تخيله حتى أكثر السورياليين جنونا .. أنهي حديثي الممل مع صديقتي العابرة , أقول لها أن ارتداء الكوفية لا يكفي ليصنع ثوارا و أن الحرية مرعبة و مخيفة لأنها قفزة نحو المجهول , تجربة جديدة بكل المقاييس , أما أن نطالب الحكومات أو الله أو الغرب بأن يحلوا مشاكلنا فهذا لا علاقة له بالحرية , هذا تزييف مصطنع من عبيد ملوا قيودهم دون أن يملكوا ما يكفي من الشجاعة ليمزقوا جدران السجن .. تنظر إلي مستغربة بعض الشيء , لبرهة , ثم تخاطبني بصوت ثابت : سنحررها أيها العجوز , قبل أن تمضي إلى بيتها الدانماركي بانتظار الفيزا الأمريكية ...