إمبريالية القرن الحادي و العشرين 3-3


حسين علوان حسين
الحوار المتمدن - العدد: 6130 - 2019 / 1 / 30 - 00:13
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

الجزء الثاني
نظريات الاستغلال و نقادها
نظرية التبعية
مثَّلت مناقشة علاقات التبعية (dependency) أول و آخر محاولة متواصلة في الستينات والسبعينات من القرن الماضي لتأسيس نظرية الإمبريالية على نظرية ماركس للقيمة . وكان بزوغ "نظرية التبعية" - التي سعت لتفسير استمرار الاستغلال الإمبريالي في أعقاب تفكك الإمبراطوريات الإقليمية - مستلهم من الحركات الثورية المناهضة للاستعمار و للإمبريالية التي اجتاحت أفريقيا و آسيا و أمريكا اللاتينية في أعقاب الحرب العالمية الثانية .
ضمّت نظرية التبعية مجموعة واسعة من المفكرين الديمقراطيين الاشتراكيين و القوميين البرجوازيين مثل "أرجيري إيمانويل" و "فرناندو هنريك كاردوسو" (الذي أصبح فيما بعد الرئيس الليبرالي الجديد للبرازيل) من المتطلعين لإزالة العقبات التي تعترض التنمية الرأسمالية المستقلة في الجنوب . كما ضمت الماركسيين ، مثل "سمير أمين" و "روي ماورو ماريني" ، الذين جادلوا بأن الرأسمالية ، باعتبار أن جوهرها هو إمبريالي ، تشكل بحد ذاتها العقبة الكأداء أمام مثل هذا التطور . كما ذهب أخرون - أبرزهم "فيدل كاسترو" و "تشي جيفارا" - إلى أبعد من النقد النظري ، فقادوا النضال الثوري ضد الإمبريالية و أذنابها المحليين . المشترك لدى هذه المجموعة المتنوعة من الإصلاحيين و الثوريين هو ، أولا : الاعتراف بأن "التبادل غير المتكافئ" بين الدول الإمبريالية المتقدمة و ما كان يعرف آنذاك باسم بلدان العالم الثالث (باعتبار أن الاتحاد السوفياتي و حلفائه كانوا يشكلون "العالم الثاني") قد تسبب في نقل الثروة على نطاق واسع من العالم الثالث إلى الدول المتقدمة ؛ و ثانيا ، أن الاختلافات الكبيرة و المتصاعدة في الأجور و في مستويات المعيشة بين العمال في الدول الإمبريالية من جهة و الدول الخاضعة لهيمنتها من جهة أخرى إنما هي الانعكاس للتباين الدولي الواسع النطاق في معدل الاستغلال (و تعتبر المساهمة النظرية لماريني ذات أهمية خاصة بهذا الصدد) .
أن التصور المتضمن في هذه النظرية بكون مركز النضال من أجل الاشتراكية قد ابتعد ، على الأقل مؤقتًا ، عن مركز الدول الإمبريالية إلى دول الأطراف المتخلفة - قد ووجه بالمقاومة من طرف الماركسيين "الأصوليين" (الأرثوذكسيين) المتمركزين في أوروبا و أمريكا الشمالية عبر المحاججة بكون الثروة المنتزعة من بلدان الأطراف ليست لها سوى أهمية هامشية . و منهم من أنكر تماما بأن العمال و المزارعين في الجنوب يجري استغلالهم على نحو مكثف أكثر من الشمال . و هكذا ، في حوارهما مع أمين عام 1979 ، يقول "جون ويكس" و "إليزابيث دوري" بأنه : "بما أن إنتاجية العمالة في البلدان الرأسمالية المتقدمة هي الأعلى ، لذا فإن من غير الواضح أن مستوى المعيشة الأعلى للعمال في هذه الدول إنما يعني ضمناً بأن القيمة التبادلية للبضائع التي تحقق ذلك المستوى هي الأعلى أيضاً " (13) . و كان "تشارلز بيتلهايم" أكثر مباشرة عندما جادل في نقده لكتاب إيمانيويل الموسوم " التبادل غير المتكافئ" بالقول : "كلما أشتد تطور القوى المنتجة ، كلما ازداد استغلال البروليتاريين" (14) . كما ذهب "نايجل هاريس" إلى القول : "عند تساوي كل شيء آخر ، كلما ارتفعت إنتاجية العمل ، كلما ارتفع الدخل المدفوع للعامل (لأن تكاليف إعادة إنتاجه تصبح أعلى) ، و أصبح أكثر عرضة للاستغلال ، أي عبر زيادة نسبة تخصيصات صاحب العمل لإنتاج العمال " (15) .
ازدهرت نظرية التبعية ثم تراجعت في الفترة التي سبقت العصر النيوليبرالي ، أي في الوقت الذي كانت فيه "البلدان النامية" تصدر المواد الخام و السلع المصنعة المستوردة عندما كان عصر عولمة الإنتاج ما يزال في البيضة . و من المفارقات أن تفريخ هذه البيضة المتمثل بالتطور الصناعي السريع الموجه للتصدير في كوريا الجنوبية و تايوان في السبعينيات يفسر جزئياً لماذا ، بكلمات "غاري هوي" ، "أن نظرية التبعية نفسها بدأت تتعثر" ، حيث ظهرت هذه الحالات المبكرة من الإقلاع الصناعي لتدحض إصرار هذه النظرية على أن الهيمنة الإمبريالية تمنع التنمية الصناعية في الجنوب .
مع ذلك ، تظل نظرية التبعية النقطة المرجعية الأساسية للجهود الرامية إلى تطوير النظرية للإمبريالية المعاصرة . فقد قوضت تحولات عصر الليبرالية الجديدة بشكل قاتل الحجة الماركسية الأوروبية حينما لم يعد بالإمكان الجزم بأن التحول العالمي للإنتاج إلى البلدان ذات الأجور المنخفضة ليس له إلا أهمية هامشية ؛ لذا ، فإن استجابة الماركسيين الأوروبيين لهذه التحولات كانت التجاهل التام ، مع ترك دراسة سلاسل القيمة العالمية و شبكات الإنتاج لعلماء الاجتماع البرجوازيين . و في الوقت نفسه ، فإن حجة هؤلاء بكون الإنتاجية الأعلى في الشمال تعني أن الأجور الأعلى تتسق مع معدلات الاستغلال الأعلى فيها قد تم إبطالها بحقيقة بسيطة : أن نفس السلع التي يستهلكها العمال في الشمال إنما يتم انتاجها من طرف الأجر المتدني لعمال الجنوب ؛ اي أن إنتاجية و أجور عمال الجنوب نفسها هي التي تحدد مستويات الاستهلاك و معدل الاستغلال في البلدان الإمبريالية .
مع ذلك ، تستمر هذه الحجج الأوروبية الماركسية في الظهور حتى يومنا هذا . لذا نجد ان "أليكس كالينيكوس" يجادل بالقول بأن نظرية التبعية : "تعاني من الخطأ الفادح المتمثل بعدم أخذها بعين الاعتبار أهمية المستويات المرتفعة لإنتاجية العمل في الاقتصادات المتقدمة" (16) . بينما يعتقد "جوزيف تشونارا" بأنه : "من الخطأ التصور بأن العمال في دول مثل الهند أو الصين هم أكثر عرضة للاستغلال من عمال دول مثل الولايات المتحدة أو بريطانيا" (17) .
غير أن معدلات الاستغلال القصوى في مصانع الملابس في بنغلاديش ، و في خطوط الإنتاج الصينية ، و في مناجم البلاتين في جنوب أفريقيا هي حقيقة ملموسة يمكن ملاحظتها مباشرة ، وهي حقيقة يتم تجربتها كل يوم جسدياً من قبل مئات الملايين من العمال في البلدان ذات الأجور المتدنية . "الشيوعية ليست عقيدة بل هي حركة ؛ و هي تنطلق ليس من المبادئ بل من الحقائق " ، يقول فريدريك إنجلز (18) . إن الاختلافات الدولية الواسعة في معدل الاستغلال ، و التحول العالمي الضخم للإنتاج إلى حيث يكون هذا المعدل هو الأعلى ، و التحول الهائل للطبقة العاملة الصناعية في الجنوب كمركز للجاذبية هي الحقائق الكبيرة الجديدة التي يجب أن ننطلق منها . هذه هي التحولات الحاسمة للعصر النيوليبرالي ، و هي التحولات الأساسية لفهم طبيعة و ديناميات الأزمة العالمية . و بدلاً من استخدام تعليقات ماركس بصدد إنتاج القرن التاسع عشر لإنكار واقع وجود الاستغلال الفائق للقرن الحادي و العشرين (و النظام الامبريالي الذي يعتمد عليه) ، ينبغي علينا أن نختبر نظرية ماركس إزاء هذه الحقائق الجديدة ، و أن نستخدمها و ننميها نقدياً بشكل حاسم لتطوير نظرية لفهم هذه المرحلة الأخيرة من التطور الإمبريالي للرأسمالية .
لينين والإمبريالية
كان الانتهاك الممنهج للمساواة بين البروليتاريين ، المستمد من عدم المساواة المنتظمة بين الأمم ، هو الشغل المركزي للينين ، الذي جادل بأن "تقسيم الأمم إلى ظالم و مضطهد هو جوهر الإمبريالية " (19) . و لقد مثّل كتاب لينين : "الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية" ، المؤلف في خضم الحرب العالمية الأولى ، دليلاً للعمل ، و محاولة لشرح أسباب استسلام الأحزاب الاشتراكية الأوربية عشية الحرب العالمية بإظهار أن الحرب نفسها لم تكن انحرافاً أو حادثاً عرضياً ، بل هي الأثبات للضرورة الموضوعية للثورة الاجتماعية العالمية و الانتقال إلى نمط الإنتاج الشيوعي . حدد لينين الخصائص الأساسية للمرحلة الإمبريالية للرأسمالية -التي كانت واضحة منذ ولادتها - خصوصاً تركيز الثروة و صعود رأس المال المالي ، و اضطهاد و ابتلاع الدول الضعيفة ، و تفشي العسكرية فيها . و ما كان بإمكان لينين أن يقدم مفهومًا عن كيفية إنتاج القيمة في عمليات الإنتاج المعولمة ، لأن هذه العمليات لم تظهر إلا في مرحلة لاحقة من التطور الرأسمالي . و كانت النتيجة هي الانفصال الذي لا مفر منه ، المستمر إلى وقتنا هذا ، بين نظرية لينين للإمبريالية و نظرية ماركس في القيمة . و لقد اصبح من اللازم الاضطلاع بمهمة الربط بين هاتين النظريتين . لدينا هنا مساحة لملاحظة مختصرة فقط حول ما اعتبره لينين سمتين محددتين للمرحلة الإمبريالية الرأسمالية : الاحتكار و تصدير رأس المال .
غالباً ما يتجاهل الماركسيون في البلدان الإمبريالية إصرار لينين على الدور الاقتصادي و السياسي المركزي لتقسيم العالم إلى بلدان مضطهِدة (ظالمة) و مضطهَدة (مظلومة) ، ليؤكدوا بدلاً من ذلك على طروحاته بصدد غياب التنافس بين الإمبرياليين في قوله : "في جوهرها الاقتصادي ، فإن الإمبريالية هي الرأسمالية الاحتكارية" (20) . صحيح أن مفهوم الاحتكار يستخدم بشكل هائل في الأدب البرجوازي و الماركسي لوصف الظواهر المتعلقة بالإنتاج و التوزيع و الولاء للعلامة التجارية و التمويل و تركيز رأس المال و القوة السياسية و العسكرية ، وغير ذلك الكثير . و لكن هذه الظواهر يتعلق معظمها بتوزيع القيمة و ليس بإنتاجها ؛ لذا يجب على نظرية القيمة للإمبريالية أن تميّز بين الاثنين . و علاوة على ذلك ، ندرك الآن أن مصدر الأرباح الإمبريالية لا يمكن العثور عليه في أي شكل من أشكال "الاحتكار" - مهما كان دور الشركات الاحتكارية الدولية في المساعدة على توليد هذه الظروف ، و لكنه كائن في "الاستغلال" ، الذي يعيدنا إلى موضوعة قمع الأمم .
في الإمبريالية ، جادل لينين " يُعدُّ تصدير رأس المال أحد أهم القواعد الاقتصادية للإمبريالية .. حيث يختم بخاتم التطفل على البلد الرأسمالي بأكمله الذي يعتاش عبر استغلال العمل في العديد من البلدان و المستعمرات التابعة له في الخارج" (21) . و لهذا الكلام صداه القوي في الرأسمالية العالمية المعاصرة ، حيث تتشارك الشركات الإمبريالية المتعدية الجنسية بغنائمها من الاستغلال الفائق مع عدد لا يحصى من مقدمي الخدمات و موظفيها المحليين ، و حيث تقضم الدولة الأم بضرائبها أكبر قطعة منها . غير أن هناك مشكلة واضحة في تطبيق نظرة لينين الحادة هذه على الإمبريالية المعاصرة ، حيث لا تصدر الشركات المتعدية الجنسية مثل (Apple) و (H&M) رؤوس الأموال إلى بنغلاديش و الصين - فالآيفون و الملابس الجاهزة تنتجها عمليات إنتاج حاصلة بفعل "اليد الطولى" عن بُعد لهاتين الشركتين (22) .
يمكن حل هذا اللغز بالتركيز على "جوهر" المسألة ، و ليس على "شكلها" (تصدير رأس المال هو الشكل) . حاجج لينين بأن الإمبرياليين مجبرون على تصدير جزء من رأسمالهم بغية استغلال العمال في ما وراء البحار لأن الثروة المكدسة عند هؤلاء الإمبرياليين قد بلغت مبلغاً هائلاً بحيث أن الكتلة العملاقة من فائض القيمة المطلوبة لتحويل ثرواتهم إلى رأس المال ، إي إلى ثروة متوسعة ذاتياً ، تتجاوز بكثير مبلغ فائض القيمة الذي يمكن استخلاصه من قواهم العاملة المحلية " . و على غراره يحاجج "آندي هيجينبوتوم" بأن تصدير رأس المال يرتبط ارتباطًاً وثيقًاً بظلم الأمم : "إن تصدير رأس المال يعني أنه يجب أن يكون هناك نوعاً جديداً من العلاقة بين رأس المال و العمالة ، بين رأس المال الشمالي و العمالة الجنوبية ، إذ يشتمل عل تصدير علاقة رأس المال-العمل في ظروف الاضطهاد القومي". و لكن "الجديد هو أن تطور الرأسمالية ، و خاصة منذ عام 1980 ، قد وفّر للشركات المتعدية الجنسية طرقًا لتحصيل فائض القيمة المستخرج من العمال في البلدان المتدنية الأجور دون الاضطرار إلى "تصدير" رؤوس أموالها إلى تلك البلدان " (23) .
لختم هذه المناقشة المقتضبة جداً حول إسهامة لينين في نظرية الإمبريالية ، تبقى المهمة البارزة هي صياغة ذلك المفهوم الذي يوحّد بين "جوهرها الاقتصادي" (الرأسمالية الاحتكارية) و جوهرها السياسي (تقسيم العالم إلى دول مضطهدة و دول ظالمة) من خلال التعبير عن كليهما عبر ربطهما بقانون القيمة الذي وضعه كارل ماركس في "رأس المال" . هذا هو الطريق لتحقيق ما أطلق عليه "هيجينبوتوم" التوليفة الجديدة لنظرية ماركس حول القيمة و نظرية لينين للإمبريالية . و للوصول إلى نقطة البداية الضرورية لمثل هذا التوليف ، نسافر الآن مرة أخرى لنصف قرن آخر ، من أجل إقامة اتصال آمن مع عظمة ماركس العظيمة .
"رأس المال" لماركس و نظرية الإمبريالية
سمّيت نظرية الماركسيين الأوربيين بشأن نظرية التبعية باسم الأصولية "الأرثوذكسية" لأنها استندت في رفضها لمفهوم "الاستغلال الفائق" و "التبادل غير المتكافئ" الذي نشأ عنه على مقاطع من "رأس المال" لماركس و التي تبدو ، عند قراءتها سطحياً ، بأنها تدعم وجهة نظرهم . يخصص ماركس فصلًا قصيرًا في "رأس المال" إلى "الاختلافات الوطنية في الأجور" حيث يستنتج بأنه رغم أن عمال إنجلترا يحصلون على أجور أعلى من عمال ألمانيا و روسيا ، فإنهم قد يتعرضون لمعدل أعلى من الاستغلال : "كثيراً ما نجد أن الأجر اليومي أو الأسبوعي في الدولة الأولى أعلى منه في الثانية ، في حين أن السعر النسبي للعمالة ، أي سعر العمالة مقارنة بكل من فائض القيمة و قيمة المنتج ، يكون أعلى في الدولة الثانية من الأولى " (24) . هذه هي بالضبط الحجة التي استخدمها "ويكس" و "دوري" و "تشونارا" و غيرهم في نقدهم لنظرية التبعية ، ولكن هناك ثلاثة أسباب وراء عدم انطباق حجة ماركس هذه على العلاقات المعاصرة بين الشمال و الجنوب .
أولاً ، كانت كل الدول التي استخدمها ماركس لمقارناته - إنجلترا و ألمانيا و روسيا - دولاً ظالمة متنافسة ، ينشغل كل منها باكتساب الإمبراطوريات الاستعمارية الخاصة به . لذا ، لا يمكن اعتبار الدول الحرة رسمياً في الجنوب العالمي اليوم مجرد دول رأسمالية "أقل نموا" مماثلة لألمانيا و روسيا إزاء إنجلترا في القرن التاسع عشر . ثانياً ، إن التجارة في أواخر القرن العشرين بين الدول الإمبريالية و الدول "النامية" تختلف نوعياً عن التجارة التي كانت قائمة في أواخر القرن التاسع عشر بين إنجلترا و ألمانيا و روسيا . في ذلك الوقت ، اقتصر الأمر على استهلاك كل عامل للسلع المنتجة محليًا ، حيث استهلك كل رأسمالي القوة العمالية المحلية ، و كان ذلك قبل عصر "التعاقد من الباطن" في التعهيد الخارجي ، والاستعانة بمصادر خارجية للإنتاج ، و ما إلى ذلك . ثالثًا ، لقد افترض مثال ماركس أن الرأسماليين في دول مثل ألمانيا و إنجلترا إنما يتنافسون في إنتاج السلع المماثلة ، في حين ، كما هو مذكور أعلاه ، أن هذا هو غير الوضع القائم في التجارة المعاصرة بين الشمال و الجنوب . سنناقش أهمية هذه النقطة الأخيرة أدناه .
لقد اهتم ماركس في "رأس المال" بفهم الشكل الرأسمالي لعلاقة القيمة بغية اكتشاف أصل فائض القيمة ، في حين أن المهمة المطروحة أمامنا تنظيرياً الآن هي فهم مرحلة تطورها الإمبريالي الحالي . كان مستوى التجريد المطلوب لمشروع ماركس واضحاً من خلال التصريح : "رغم أن المساواة في الأجور و ساعات العمل بين مجال إنتاجي و آخر ، أو بين مختلف رؤوس الأموال المستثمرة في نفس مجال الإنتاج ، تأتي ضد كل الأنواع من العقبات المحلية ، إلا إن تقدم الإنتاج الرأسمالي و خضوع جميع العلاقات الاقتصادية لهذا النمط من الإنتاج تدريجياً يميل مع ذلك إلى جعل هذه العملية تؤتي ثمارها" (25) . اعتبر ماركس أن الاختلاف في الأجور نتيجة لعوامل مؤقتة أو طارئة بوجه رأس المال المتنقل بلا توقف سيتآكل مع مرور الوقت ، لذا ، فإن بالإمكان استبعاده بأمان من التحليل : "إن دراسة الاحتكاكات [ أي "العقبات المحلية" المعيقة للمساواة في الأجور] رغم الأهمية التي تحوزها في أي بحث متخصص عن الأجور تبقى عرضية و غير أساسية قدر تعلق الأمر بالبحث العام في الإنتاج الرأسمالي ، لذا يمكن تجاهلها "(26) .
من الواضح أن مثل هذا المستوى العالي من التجريد لا يناسب مهمتنا الحالية . في عالم اليوم المنقسم بشكل فاضح ، فإن الافتراض القائم على المساواة بين العمال الذين يفترضهم ماركس منتهك بشكل عميق و لا يمكن إرجاعه "للعقبات المحلية".
"الشكل الثالث لزيادة فائض القيمة" (27)
في المجلد الأول من "رأس المال" ، يحلل ماركس بعمق طريقتين يسعى بواسطتهما الرأسماليون إلى زيادة معدل الاستغلال : من خلال إطالة يوم العمل ، وبالتالي زيادة "قيمة الفائض المطلق" ؛ و من خلال تقليل وقت العمل الضروري بزيادة إنتاجية العمال الذين ينتجون السلع الاستهلاكية ، مما يزيد من "قيمة الفائض النسبي". و في عدة أماكن أخرى ، يلمِّح ماركس إلى و جود شكل ثالث لفائض القيمة يتمثل بتمديد فائض وقت العمل "عن طريق إنقاص أجر العامل" ؛ و لكنه يضيف قائلاً : "على الرغم من الدور الهام الذي تلعبه هذه الطريقة عمليًا ، فإننا نستثنها من الاعتبار هنا لافتراضنا بأن جميع السلع ، بما في ذلك قوة العمل ، يتم شراؤها و بيعها بكامل قيمتها" (28) .
و تتم الإشارة إلى "إنقاص أجر العامل إلى ما دون قيمة قوته العمالية" مرة أخرى في فصلين لاحقين ، خلال مناقشة النتائج المترتبة على العمال عندما "تستحوذ الآلات تدريجياً على السيطرة على كامل حقل معين من الإنتاج ، " و نتيجة لذلك ، فإن" قسمًا من الطبقة العاملة .. يصبح فائضاً عن الحاجة .. و يغرق في سوق العمل ، فيجعل سعر القوى العاملة أقل من قيمتها" (29) . إن راهنية هذا التحليل في عصرنا الحالي لا تحتاج إلى التذكير . لدينا الآن قسم ضخم من الطبقة العاملة في بلدان الجنوب المعولم ممن "أصبح فائضاً عن الحاجة" بسبب فشل طرق الإنتاج المعاصرة في امتصاص ما يكفي من العمل لمنع تضخم البطالة ، و هذا يكفي لوحده - حتى قبل أخذنا بعين الاعتبار أنظمة العمل الأقسى السائدة في البلدان ذات الأجور المتدنية - لتسليط قوة ضاغطة كبيرة من شأنها "جعل سعر قوة العمل ينزل إلى أدنى من قيمته".
وفي الجزء الثالث من "راس المال" ، عند مناقشة "العوامل المضادة" المانعة لانخفاض نسبة الأرباح ، يتطرق ماركس مرة أخرى إلى الطريقة الثالثة في زيادة فائض القيمة . إذ إن واحدة من هذه العوامل المضادة تتمثل "بإنقاص الأجور إلى أدنى من قيمتها" ؛ و هو العنوان الذي يعالجه ماركس بجملتين قصيرتين فحسب : "مثل العديد من الأشياء الأخرى التي يمكن التطرق إليها ، فأن هذه الطريقة لا علاقة لها بالتحليل العام لرأس المال ، و لكن لها مكانها في تحليل المنافسة ، و هي الموضوع الذي لا نعالجه في هذا الكتاب . مع ذلك ، فهو يُعد أحد أهم العوامل في منع معدل الربح من الهبوط " (30) .
لم يضع ماركس موضوع إنقاص الأجور إلى أدنى من قيمتها جانباً فحسب ، بل و لجأ إلى تجريد أعلى و إن كان "ضرورياً لتحليله العام لرأس المال" إلا أنه يتطلب أيضاً التخفيف إذا ما اردنا تحليل المرحلة الحالية لتطور الرأسمالية : " أن التمييز بين نسب فائض القيمة في مختلف البلدان و كذلك بين المستويات المختلفة لاستغلال العمل ضمن البلد الواحد كائن خارج نطاق بحثنا هذا بالكامل " (31) . و لكن هذا هو بالضبط ما يجب أن يشكل نقطة الانطلاق لنظرية الإمبريالية المعاصرة . إن عولمة الإنتاج التي تسوقها مراجحة الأجور لا تتطابق مع فائض القيمة المطلق لكون ساعات العمل الطويلة متفشية منذ زمن بعيد في البلدان المتردية الأجور ، لذا فأن يوم العمل الأطول ليس هو عامل الجذب الأكبر للشركات المستعينة بمصادر الانتاج الخارجية . كما أنه لا يتوافق مع فائض القيمة النسبي لأن العمالة الضرورية ليست ناجمة عن تطبيق التكنولوجيا الجديدة المؤدي إلى التخفيض الشامل للأجور . و في الواقع فإنه غالبا ما ينظر إلى الاستعانة بمصادر خارجية كبديل للاستثمار في التكنولوجيا الجديدة . و لكنه يشير إلى الاستغلال الفائق مثلما يقول "هيجينبوتوم" : "إن الاستغلال الفائق هو .. الجوهر الخفي المشترك الذي يعرّف الإمبريالية .. لا يعود السبب في ذلك إلى أن الطبقة العاملة الجنوبية تنتج قيمة أقل ، بل لأنها أشد قمعًا واستغلالًا (32) .
الاستنتاج
يكشف التحليل لممارسات العولمة اللبرالية الجديدة عن كون المراجحة العمالية العالمية الناتجة عن ارتفاع درجة الاستغلال السائدة في الدول ذات الأجور المتدنية هي قوة الدفع الأساسية فيها . و النتيجة المركزية لمراجعتنا "رأس المال" لماركس هي أن مواصفات هذا الوضع تتوافق مع الشكل الثالث لزيادة فائض القيمة الذي أكد ماركس أهميته ثم استبعده من نظريته العامة . و هذا هو الأساس الصلد الوحيد المتاح لنهضة الماركسية على مستوى عالمي . كما تسمح لنا هذه النتيجة المركزية أيضًا أن نرى مكان العصر اللبرالي الجديد في التاريخ . في تعليقات "الغروندريسة" يقول ماركس :
طالما كان رأس المال ضعيفاً ، فإنه يبقى معتمداً على عكازات أنماط الإنتاج السابقة .. و لكنه حالما يشعر بالقوة ، فإنه يرمي العكازات جانباً و يتحرك وفقا لقوانينه الخاصة . و بمجرد أن يبدأ بالإحساس بنفسه و يصبح واعياً لذاته كمعيق للنمو ، فإنه يفتش عن ملجأ عبر اتخاذه أشكالاً من شأنها ، من خلال تقييد المنافسة الحرة ، أن تجعل حكم رأس المال أكثر شمولية ، و لكن هذه هي في نفس الوقت بشائر انحلاله و انحلال طريقة الإنتاج التي يعتمد عليها (33) .
كلام ماركس هذا يشبه بشكل مذهل حجة لينين القائلة بأن "الرأسمالية قد أصبحت إمبريالية فقط في مرحلة محددة و متقدمة للغاية من تطورها عندما بدأت بعض خصائصها الأساسية تتغير إلى أضدادها ، عندما كانت ملامح عصر الانتقال من الرأسمالية إلى النظام الاجتماعي والاقتصادي الأعلى قد تبلورت في كل المجالات" (34) . لقد اعتمد صعود الرأسمالية على أكثر الأشكال "التراكم البدائي" همجية ، مثل نقل ملايين من العبيد الأفارقة و النهب الاستعماري والاتجار بالأفيون . و عندما وصلت الرأسمالية إلى سن الرشد و تولت السيطرة الكاملة على عملية الإنتاج ، فقد ازدهرت المنافسة و أصبحت القوانين الداخلية للرأسمالية معبّرة بالكامل . و أخيرًا ، في عصر الاضمحلال ، اعتمدت الرأسمالية بشكل متزايد على أشكال أخرى غير المنافسة الحرة : الاحتكار ، زيادة تدخل الدولة بشكل كبير في جميع جوانب الحياة الاقتصادية ، "التراكم بالنزوح" ، الإمبريالية لضمان استمرار بقائها ، و لكن على حساب تشويه تشغيل قوانينها و إقامة الحواجز الجديدة أمام توسع القوى المنتجة .
كيف يرتبط هذا التسلسل الزمني للأشكال الثلاثة لزيادة فائض القيمة التي نوقشت في هذه المقالة ؟ في الرأسمالية غير الناضجة ، كانت زيادة قيمة الفائض المطلق - تمديد يوم العمل إلى ما بعد الحدود المادية - هي السائدة . و بمجرد أن سيطر رأس المال على عملية الإنتاج ، أصبحت القيمة الزائدة النسبية ـ أي التحسينات التكنولوجية لتقليل الوقت اللازم لإنتاج السلع الاستهلاكية للعمال ـ هي الشكل السائد ، وإن كان ذلك يعتمد في جميع الأوقات على استمرار أشكال الهيمنة القاسية و العتيقة ، لا سيما في الدول التابعة . في عصر الليبرالية الجديدة ، أصبح شكل العلاقات الرأسمالية الأعمى السائد بشكل متزايد هو المراجحة العمالية العالمية ، أي وسيلة التملك حيث تستطيع الرأسمالية ، عبر القمع الوطني ، أن تنقص من قيمة قوة العمل في "الدول الناشئة". هذا الشكل الثالث لزيادة فائض القيمة أصبح الآن هو الشكل السائد على نحو متسارع للعلاقة بين رأس المال و العمالة . و أولى ضحايا هذا الشكل كانت بروليتاريا البلدان شبه المستعمرة ، لكن الجماهير العريضة من العاملين في البلدان الإمبريالية تواجه العوز هي الأخرى . لقد أفضى الاستغلال الفائق للمثقفين من الشباب البروليتاري الجديد و الشباب من البلدان ذات الأجور المتدنية إلى إنقاذ الرأسمالية من الحفرة التي وجدت نفسها فيها في السبعينيات . أما الآن ، فإن مهمة هؤلاء العمال ، مع العمال في البلدان الإمبريالية هي حفر حفرة أخرى هي القبر لدفن الرأسمالية ، و بالتالي تأمين مستقبل الحضارة البشرية .
الملاحظات
13. جون ويكس و إليزابيث دوري ، "التبادل الدولي وأسباب التخلف" ، وجهة نظر أمريكا اللاتينية 6 . 2 (1979): 71.
14. Charles Bettelheim، “Some Theoretical Comments،” intendend to Arghiri Emmanuel، Unequal Exchange: A Study in the Imperialism of Trade (London: NLB، 1972)، 302.
15. نايجل هاريس ، "نظريات التبادل غير المتكافئ ،" الاشتراكية الدولية 2. 33 (1986): 119–20.
16. هاو غاري هاو ، "نظرية التبعية ، الإمبريالية ، وإنتاج فائض القيمة على مقياس عالمي" ، وجهات نظر أمريكا اللاتينية 8 ، رقم. 3/4 (1981): 88.
17. أليكس كالينيكوس ، الإمبريالية والاقتصاد السياسي العالمي (كامبريدج: مطبعة بولتي ، 2009) 179-80 ؛ Joseph Choonara، Unraveling Capitalism (London: Bookmarks Publications، 2009)، 34.
18. كارل ماركس و فريدريك إنجلز ، الأعمال الكاملة ، (New York: International Publishers، 1975)، vol. 6 ، 303
19. لينين ، "البروليتاريا الثورية وحق الأمم في تقرير المصير" ، في الأعمال المجمعة ، المجلد. 21 (Moscow: Progress Publishers، 1964؛ original 1915)، 407.
20. V.I. Lenin، “Imperialism، the Highest Stage of Capitalism،” Collected Works، vol. 22 (Moscow: Progress Publishers، 1964؛ original 1916)، 266.
21. Ibid، 77.
22- ويأتي تصدير رأس المال في ثلاثة أشكال: الاستثمار الأجنبي المباشر ، والاستثمار في المَحَافظ (في الأسهم والأوراق المالية ، التي لا تعطي المستثمر نفوذاً متحكماً) ، على عكس الاستثمار الأجنبي المباشر ، ورأسمال القروض.
23. آندي هيجينبوتوم ، "نظام التراكم في جنوب أفريقيا: نظريات الإمبريالية ورأس المال" ، Économies et Sociétés 45 ، لا. 2 (2011): 268.
24. Marx، Capital، vol. 1 ، 702.
25. Karl Marx، Capital، vol. 3 (London: Penguin، 1991؛ أصلاً 1894)، 241–42.
26. Ibid.
27. إن إعادة اكتشاف هذا الشكل الثالث من فائض القيمة يمثل إنجازًا كبيرًا ، وقد تم إعداده بواسطة آندي هيجينبوتوم ، "النموذج الثالث لزيادة قيمة الفائض" ، ورقة في المؤتمر المادي التاريخي ، لندن ، 27 و 29 نوفمبر 2009. .
28. Karl Marx، Capital، vol. 1 ، 430–31

29. Ibid، 557.
30. Marx، Capital، vol. 3 ، 342
31. Ibid، 242.
32. Higginbottom، "" The Accumulation in South Africa، "284.
33. Karl Marx، Grundrisse (London: Penguin، 1973)، 651. إنني ممتن لـ WDaum للإشارة إلى أهمية هذا المقطع.
34. لينين ، "الإمبريالية أعلى مرحلة من الرأسمالية ،" 265.

انتهى .