ظاهرة الحقد في المجتمع العراقي (القسم الثالث)


سلمان رشيد محمد الهلالي
الحوار المتمدن - العدد: 6114 - 2019 / 1 / 14 - 23:52
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

(ان كان للحرية معنى فانها تعني الحق في ان تقول للناس مالايريدون سماعه) جورج اوريل
- الشيعة : ويحقدون على الشيعة انفسهم .وهذا الحقد لايرجع الى معطيات سلبية وسلوكيات عصابية يتميز بها هؤلاء الشيعة في العراق عن باقي الجماعات في العالم , وانما يرجع بالدرجة الاساس الى طبيعة المجتمع الشيعي المتعدد في الميول والتوجهات والمنطلقات والمطارحات , وبما ان من طبيعة المجتمع المتعدد ان يكون (الاخر) من بينها , فان الانقسامات السياسية والصراعات الايديولوجية والاشكالات العشائرية والتنافسات الطبقية تضرب باطنبابها يمينا وشمالا في بنية هذا المجتمع . كما ان انعدام وجود السلطة السياسية لهذه الجماعة التي توجه الحقد والكراهية نحو الاخر المختلف بالثقافة والتوجه السياسي والفكري والايديولوجي – كما هو حاصل مع السنة – قد ادى الى تركيز الحقد نحو الداخل وبقائه ضمن مدار الطائفة والجماعة الشيعية , ولم يتم تفريغه نحو الخارج من اجل الحفاظ على الجماعة من الانقسام والتخلخل والتشتت . فضلا عن الية التحريض السلطوي الطائفي القائم قبل عام 2003 الذي بلور صناعة الحقد الشيعي – الشيعي لاغراض سياسية تتعلق بطبيعة الهيمنة والحكم والتدجين وزراعة الهزيمة الداخلية ضمن الجماعة . وسبق ان ذكرنا في مقالنا السابق (المجتمع العراقي بين الشروكية والانكشارية) ان الشيعة في العراق هم ليسوا شيعة (كهوية) احادية او متراصة وانما شيعة في طور التكوين . وهذا الامر يرجع الى اسباب عدة لانستطيع التوسع فيها , ولكن يمكن حصر اهمها في اربع وهى :
الاول : حداثة الكثير من العشائر العراقية بالتشيع . وهذا الراي اختاره المؤرخ الامريكي حنا بطاطو في كتابه الشهير (العراق) في معرض تعليقه على عدم تفاعل الشيعة مع (ميثاق الشعب) الذي طرحه الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء عام 1936 للمطالبة بانهاء التمييز الطائفي في الدولة العراقية الملكية . فكلنا نعلم ان اغلبية العشائر العراقية التي كانت بدوية وسنية - وتقطن في المنطقة الغربية - قد تشيعت خلال القرون الثلاث الاخيرة بعد ان انسيابها الى السهل الرسوبي الجنوبي. وطبعا ان كثير من الباحثين يرفضون فكرة التشيع القريب للقبائل والعشائر العراقية , ويعدونه من ترويجات المؤرخ الامريكي اسحق النقاش في كتابه (شيعة العراق) , فيما ان الصحيح هو ان علي الوردي هو اول من ذكر هذا الراي في كتابه (دراسة في طبيعة المجتمع العراقي) مستندا الى اراء الكثير من المؤرخين السنة الذين كانوا يحذرون الدولة العثمانية من تشيع القبائل السنية , وعزى ذلك الى اسباب اجتماعية محددة ذكرها في كتابه هذا . ويبدو ان حداثة العهد بالتشيع عند العشائر الجنوبية قد ساهم بصورة او باخرى في عدم بلورة التشيع كهوية , لان ذلك ربما يحتاج الى قرون طويلة . وقد عاصرت الكثير من رجالات الريف والعشائر في العقود الاخيرة التي سبقت عام 2003 ووجدت ان التشيع عندهم لم يكن سوى معطى عاطفي ساذج وهش وغير متغلغل في نفوسهم ابدا , بل انه يشكل نمطا غريبا او (تشكلا كاذبا) في ضمائرهم ومطارحاتهم , ويخضعون بسهولة للمقولات والتوجهات التي تنال من التشيع والشيعة , ويرددون العبارات والالفاظ المسيئة بهذا الجانب , ويمدحون القبائل والعشائر في المنطقة الغربية والسلطات السنية القبلية الحاكمة والمتنفذة في مناطقهم , او في غيرها من دول الجوار مثل ال سعدون وال مناع وال صباح وحتى ال سعود .واعتقد انهم مازالوا يحسون بالاواصر والترابط معهم عندما كانوا سنة او بدو رحل , فالبدواة والسنية تشكل ضمن اللاوعي العشائري الشيعي نسقا ايجابيا يستحق التقدير والتقديس لما ارتبط ذلك في وجدانهم بعصور السلطة والقوة والغلبة , حتى قالوا في الامثال الشعبية (اللي ماعنده اصل في البدو ماعنده اصل) . واعتقد ان هذا الحنين للفردوس المفقود والاصول الاسطورية والطوطمية العربية يشكل الخميرة اللازمة لانتاج ظاهرة الحقد والكراهية على الشيعة من قبل العشائر الجنوبية واهل الريف الذين تشيعوا مؤخرا , واذا عرفنا ان اغلبية المجتمع العراقي يشكل اهل الريف عندهم مرتكزا دلاليا من القيم والاصول , وان اغلبية اهل المدن اصبحوا الان متريفيين بسبب الهجرات الهائلة , فانك تعرف مقدار طاقة الحقد الكامنة عند الجماعة الشيعية ضد هويتها وكينونتها وماهيتها .
الثاني : الاختراق البدوي والريفي للهوية والجماعة الشيعية ساهم في ضعف الرابطة الشيعية في العراق . فالعراقي هو اولا ساعدي وركابي وعبودي وموسوي وفتلاوي وحسناوي وزبيدي ولامي وزيدي وسعيدي ومالكي اولا , والقيم البدوية هى من تتحكم به وتسير توجهاته الاجتماعية والثقافية والسلوكية والنفسية من خلف الستار , وليس المذهبية , اي انه يفضل عشيرته على مذهبه . فالشيعي العراقي يمكن ان تسب مذهبه وتنعته باقسى الصفات - وخاصة العبارة الشهيرة التي يرددها العراقيون (الشيعة شنيعة) - الا انك لاتستطع ان تسب عشيرته وحمولته او تنقدها بكلمة , لانه سوف ينتفض عليك انتفاض الاسد الهصور ويهددك عشائريا , وربما قد يؤذيك جسديا وماديا , ويبدو ان الدكتور الوردي قصدهم بالقول (ان العراقي مسلم ظاهرا وبدوي باطنا) .
الثالث : الاختراق الايديولوجي والسياسي للهوية الشيعية في العراق . فقد ساهمت التيارات الفكرية العلمانية الوافدة خلال القرن العشرين في خلخلة التضامن العضوي والنسبي للجماعة الشيعية في البلاد . فقد تماهى العراقيون مع تلك التوجهات بافراط لامثيل لها , واصبح الشيعي العراقي هو وطني وقومي وشيوعي وليبرالي وحتى اسلامي اولا واخيرا , واخذ ينظر الى التشيع بمنظار تلك التيارات وماتحدده من اراء سياسية ومطارحات علمانية بالنسبة الى المذاهب والاديان .
الرابع : ان السبب الاساسي لعدم بلورة الهوية الشيعية في العراق – حسب رؤيتي على الاقل – هو ان الاغلبية لايمكن لها ان تبلور هوية متراصة وتضامن عضوي حقيقي فيما بينها , لان (الاخر) سيكون من بين صفوفها ومجالها الاجتماعي , وهذا (الاخر) قد يكون عشائري او طبقي او اجتماعي او حكومي او سياسي او ايديولوجي , وبما ان (الاخر شرط الهوية) او (ان وجود الاخر شرط وجودي) كما يقول سارتر , فان انعدام وجود الاخر المتضاد مع الجماعة الشيعية جعلها في حالة من الحرب الاهلية الداخلية وغير المعلنة بين الافكار والايديولوجيات والفئات والطبقات والعشائر وغيرها , حتى يمكن القول ان الصفة التي تنطبق عليه هو انه مجتمع عابر الهويات ومتعدد التوجهات , ولايملك بالتالي اي كينونة او هوية متراصة . وقد اكد (هيغل) هذه الرؤية في كتابه الخالد (ظاهريات الروح) بقوله (ان الاخر ضروري لوعي الذات , وبدونه ليست الذات شيئا , لانها لاتعي نفسها الا بمقدار ماتعي الاخر). كما ان لانعدام الهوية المتراصة للشيعة في العراق تبعات اخرى مصاحبة - فضلا عن الانكفاء الذاتي للحقد وتركيزه وتوجيهه نحو الداخل - وهو فقدان المشروع الحضاري الخاص بها , فقد اكد برهان غليون ذلك بقوله (لاتستطيع جماعة أو فرد من انجاز مشروع مهما كان نوعه او حجمه دون ان تعرف نفسها او تحدد دورها وشرعية وجودها كجماعة متميزة تعرف ماتريده , وماتريد ان تكون عليه . فشرط نهضتها ان يكون لها ذات , اي ارادة) . بمعنى ان فقدان الهوية عند الاغلبية الشيعية في العراق تبعات عده اهمها :
1 . تركيز ظاهرة الحقد والكراهية ضمن المحيط الشيعي وتدويرها نحو الداخل وعدم تنفيس هذه الطاقة الكبيرة الى الخارج او نحو (الاخر) المختلف .
2 . غياب المشروع الحضاري والسياسي والفكري الخاص بها , والذي من المفترض ان يعبر عن طموحها وامالها ورغبتها بالازدهار والمساواة والحرية والديمقراطية .
3 . ان اهم تبعات فقدان الهوية الشيعية في العراق هو السماح لجميع التوجهات الايديولوجية والتيارات الفكرية باختراق البنية الاجتماعية الشيعية وخلخلتها وانتهاكها .
4 . عدم وعي الجماعة الشيعية او الفرد الشيعي في العراق بذاته , الامر الذي يسمح بترويضه وتدجينه واخصائه من قبل السلطات الطائفية الحاكمة عبر التاريخ .
وقد يعترض البعض على هذه الافكار بالقول : كيف تريد ان يكون للشيعة مشروعهم الخاص وهم اغلبية المجتمع العراقي , فيما كان يجب المناداة بدل من ذلك بالمشروع الوطني الجامع الذي يضم كل العراقيين ؟ في الواقع ان هذا هو اصل الاشكال الذي عانى منهم شيعة العراق على مدى التاريخ السياسي المعاصر بعد الحرب العالمية الاولى , وتوافد القيم المدنية والعلمانية الحديثة بعد الاحتلال البريطاني للعراق عام 1914 وهو تبني المفهوم او المشروع الوطني الجامع طيلة العمر الاول للدولة العراقية الحديثة (1921-2003) . فيما كان السؤال الصحيح هو ماذا حصل الشيعة من هذا المشروع الوطني ؟ الم ينالوا سوى التهميش والاقصاء والتخوين والتكفير والاستبداد والقمع والارهاب ؟ بل وقبل ذلك هل ان الشركاء والاخوة في الوطن – واهمهم السنة والكورد - تبنوا المشروع الوطني الجامع ام اعتبروا طائفتهم واثنيتهم وقوميتهم اولا ثم الوطن ثانيا ؟ من المؤكد ان المطلع الموضوعي والعلمي يجد ان الاخوة الشركاء كانوا غير وطنيين ابدا ويفضلون طوائفهم واثنيتهم وقوميتهم اولا واخيرا , رغم ان بعضهم – مثل السنة العرب قد ارادوا الايحاء باحتكار الوطنية من خلال السلطة ومقدراتها في الاعلام والتربية والتعليم والجيش وغيرها , وصدقهم بذلك حتى الاغلبية من المثقفين الشيعة والكورد والمسيحيين المخصيين والمدجنين , ولكن نظرة سريعة وجريئة وموضوعية على التاريخ الحديث والمعاصر نجد العكس من ذلك بتاتا , فهم كانوا ابعد الناس عن الوطنية , بل ان الوطن عندهم هو رديف السلطة والحكم والمكاسب والمناصب , ووجدنا كيف ان السنة العرب مثلا وبعد فقدانهم السلطة عام 2003 اصابتهم الهيستريا الجماعية , وشنوا حملة تاريخية وشاملة لتدمير الوطن وخلخلة نسيجه الاجتماعي من خلال الارهاب والتخوين والتكفير . واما الكورد وبمجرد حدوث الخلاف بينهم وبين الحكومة العراقية او المركز في بغداد عام 2017 حول الاموال والواردات والوزارات حتى اعلنوا الاستقلال والانفصال عن بغداد , ولم يقف امامهم سوى الاعتراض الدولي والاقليمي , ولو كان ذلك متوفرا لكانوا تركوا العراق واشكالاته منذ زمن طويل . فيما ان الشيعة المغفلين وحدهم بقوا متمسكين بالوطن كفرة مجردة متسامية عن الواقع , رغم الماسي والمحن والتصفية والابادة المنظمة من الشركاء طيلة عقود طويلة , ولم يفرطوا به لانهم (ام الولد) كما يقولون , والمرتكز الدلالي في هويته الوطنية والحضارية والتاريخية والاجتماعية , ولكنهم من جانب اخر يجب ان يعلموا ان المشروع الوطني الجامع يجب ان يعترف به جميع الشركاء والاخوة في الوطن – وخاصة السنة والكورد – حتى يكتب له النجاح والاستمرارية , والا فان الرابطة الوطنية ستكون هشة وضعيفة اذا لم يحصل ذلك , مثل الخرسانة اذا لم تتفاعل كليا في قالب واحد , وبقيت مكوناتها الرئيسية محافظة على خواصها وسماتها العامة , فانها سرعان ماتنفصل وتتحلل اذا واجهتها عوامل الزمن والمناخ او اي قوة خارجية اخرى .
ويتمظهرالحقد الشيعي نحو الشيعة من خلال صورتين :
الاول : حقد عامة الشيعة على الشيعة انفسهم . وهو الحقد الذي تبلور نتيجة العقود الطويلة من الحرمان والظلم والطغيان والاستبداد والفقر والجوع والمرض , والمعاناة المزمنة للمجتمع الشيعي او الفرد الشيعي والجنوبي من التهميش والاقصاء والاستلاب , واحساسة الدائم بالتوتر والغضب والحزن والياس من الحياة , الامر الذي يجعله يعيش في حالة من الكراهية والحقد نحو المجتمع او الوسط الذي يعيش به , لانه يعتقد انه السبب في خلق تلك الاجواء على قاعدة (الجحيم هم الاخرون) وليس (الاخر) الحاكم المختلف بالثقافة والتوجة والمذهب . وهذا يرجع الى سببين :
السبب الاول : ان من طبيعة الاغلبية الاجتماعية انها تسلك سلوكا طبيعيا من حيث الكراهية والحقد نحو الاخرين المختلفين من ابناء المجتمع سواء اكان عشائريا او طبقيا او سياسيا او ايديولوجيا او مناطقيا . فالفرد الشيعي يولد وينمو بين عائلته او وسطه الاجتماعي وهو يسمع مفردات الكراهية نحو الاخرين , سواء من الاقارب او الجيران او المختلف العشائري او المتنفذين او الاغنياء او المعارضين السياسيين والايديولوجيين للسلطة الحاكمة وغيرهم . ولايسمع مفردات التحريض والكراهية نحو السلطة التي هى السبب الاول والاكبر في تلك الاختلالات والنواقص والسلبيات والمصائب , بسبب الخوف من السلطة اولا , وانعدام الوعي السياسي ثانيا , وهيمنة الجهل والبلاهة والفطارية والخبالية ثالثا , والضغط النفسي الذي يشكله الوسط الاجتماعي القريب الذي يعيش فيه الفرد رابعا .
السبب الثاني : انعدام وجود السلطة السياسية الاحادية والشمولية التي توجه الكراهية والحقد نحو الفئات الاجتماعية والطائفية والسلطوية الاخرى من خلال التربية والاعلام والجيش وغيرها – كما هو حاصل عند اهل السنة - وحتى لو وجدت تلك السلطات الرمزية مثل المؤسسة الدينية وبعض المثقفين والمعارضين , الا انها تبقى قاصرة ومحدودة لسبب بسيط وهو : انها لاتملك ادوات السيطرة والتوجيه والضبط والتدجين والخصاء مثل الانظمة الشمولية التي تملك مقدرات الدولة وامكاناتها المالية والاعلامية والامنية والعسكرية والدعائية والمشروعية القانونية والسياسية .
الثاني : حقد مثقفي الشيعة على الشيعة انفسهم . وهو الحقد الذي نشا مع تكوين النخبة المثقفة المؤدلجة والثورية بعد الحرب العالمية الثانية , وتصاعد بصورة لافتة بعد الانقلاب البعثي – الطائفي في شباط 1963 . حيث اخذ الفرد المتعلم الشيعي ينظر الى مجتمعه وهويته وتاريخه ومذهبه بعين الاخر المتحكم بالسلطة والقرار والدولة وليس بعينه هو , او حتى العين المحايدة او الموضوعية على الاقل . وبما ان (الاخر) المتمثل بالسلطات القومية بعد انقلاب شباط 1963 اخذت تنظر الى المجتمع الشيعي على انه رمز الشعوبية والخيانة والتخلف والتبعية والاباحية , واضحت تردد تلك الاتهامات التاريخية والمقولات القرو – سطية من خلال الاعلام والتربية والتعليم والايحاء والجيش وغيرها , الامر الذي جعل المتعلم والمثقف الشيعي يعيش العقدة النفسية والدونية والنقص والاستلاب والخجل امام خطاب تلك السلطة , ومن ثم الركون اليه والاستسلام له , بل وربما المزايدة عليه وتبنيه وتقمصه من اجل نفي تلك الاتهامات عن ذاته المازومة والمخصية , واثبات وطنيته المتهمة وعروبته المستلبة ومدنيته الكسيحة وعلمانيته الموتورة امام الاخر الحاكم والسيد الوهمي في ضميره المدجن , ونجد هذا منتشرا بصورة كبيرة عند اتباع الايديولوجيات الثورية من الشيوعيين والقوميين .وقد اخطانا سابقا عندما قلنا ان السبب الاساس لهذه السلوكيات المازومة والاحساس بالنقص والاستلاب والدونية عند الانتلجنسيا الشيعية هو الشعور بالعجز والخصاء امام الاب الميت والمركزية السنية والقومية العربية والتماهي مع خطابها الاقصائي والطائفي والعنصري فحسب , فيما ظهر لنا لاحقا – وخاصة بعد السيطرة الداعشية عام 2014 - ان السبب هو اعمق من ذلك بكثير , وهو تراكم ظاهرة الحقد وتركيزه عند المثقف الشيعي ضد مجتمعه ووسطه الاجتماعي .
ان تلك السلوكيات والتصرفات تحتاج الى المزيد من الحفر والاركيولوحيا المعرفية (الابستمولوجيا) للوصول الى بيان الطبقات القارة خلف هذا التراكم الايديولوجي والسياسي والذاتي عند الشخصية العراقية الشيعية منذ قرون , وتحليل مقولاتها وتفكيك مطارحاتها وتعرية اصولياتها التي تحدد توجهاتها الغرائبية والصبيانية والخبالية , وكيف انها اضحت نموذجا للانهزامية والاستلاب والنقص والعجز امام الاخر , بل والجبن والسقوط والانحلال , فاذا كان الانسان لم يكن ليعتبر وطنه ومجتمعه واهله قضيته الاولى , فمن هى قضيته الاساس اذن ؟؟ واذا كان المثقف لايقف بوجه القوى الارهابية والاستبدادية والطائفية والعنصرية والاجرامية التي تقتل الانسان وتنتهكه وتهجره وتغتصبه , فمع ضد من يقف اذن ؟؟ في الواقع لايمكن حصر تمظهرات وتصورات وسلوكيات حقد المثقف والمتعلم الشيعي نحو المجتمع الشيعي نفسه , لان ذلك قد يحتاج الى دراسة موسعة ومفصلة , ولكن يمكن ادراج اهمها وهى :
أ . تبرير افعال الديكتاتورية البعثية والتعمية على اعمالها المشينة والاجرامية تقربا للمركزية السنية والقومية العربية وخضوعا لتوجهاتها الطائفية ومنطلقاتها الاستبدادية وانساقها العنصرية , بدعوى الموضوعية والحيادية والاعتدال ظاهرا , ولكنها تحمل في اعماقها استفزازا وحقدا هائلا على المجتمع الشيعي , ونكاية بالاحرار والمعارضين والمثقفين الحقيقيين الذين وقفوا ضده , سواء اكان بالسلاح او الفكر اوالادب وغيرها . ولايمكن حصر جميع تلك الاراء وطرحها لان ذلك ربما يحتاج الى دراسات خاصة لتحليلها واستعراضها وبيان سلوك الخصاء والحقد فيها , ولكن يمكن ذكر اهمها وهو ماادرجه الكاتب والروائي عبد الرحمن مجيد الربيعي من اهالي مدينة الناصرية عندما كان مستقرا في تونس . فبعد اكتشاف المقابر الجماعية لضحايا النظام البعثي السابق بعد السقوط عام 2003 طالب الربيعي - وبعد اشهر قليلة فقط - بغلق هذا الملف ونسيانه واسدال الستار عنه , وطبعا لانعرف سبب ذلك , وعزينا الامر تملقه للعرب في تونس وضرورات المكان الذي يعيش فيه , ولكن ظهر ان السبب هو اعمق من ذلك بكثير , وهو الاستخفاف بالمجتمع الشيعي وضحايا النظام الذين وجدت عظامهم في المقابر الجماعية من النساء والاطفال والشيوخ والشباب الابرياء الذين قتلوا او دفنوا احياء ظلما وعدوانا (وجلهم طبعا من الناصرية) وهذا الموقف ليس بالغريب عن الربيعي , فقد سبق ان وصف مدينة الناصرية في روايته (الوشم) عام 1972 برمز العهر السياسي تملقا للسلطات البعثية الطائفية الحاكمة واستهدافا للشيوعيين في المدينة . واما الكاتب جعفر المظفر من البصرة , فبعد اكثر من ثلاثين عاما من نهاية الحرب العراقية الايرانية التي كلنا يعلم انها صدام حسين هو من بداها بتحريض وتشجيع من الدول الخليجية الغنية , وانها كانت المدخل لنفق التراجع والظلام والتدهور في العراق , اكتشف المظفر متاخرا ان صدام حسين له مبرراته في الهجوم على ايران , وانها مبررت موضوعية او واقعية , وربما ان ايران هى من بداتها بطريقتها الخاصة . وكنا سابقا نعتقد ان السبب في هكذا كتابات هو التملق للمركزية السنية والقوميين العرب او نوعا من الخصاء او مركب النقص امام الاب الميت , فيما ظهر لنا ان السبب هو الحقد على المجتمع الشيعي الذي نعرف جيدا انه الضحية الاولى لهذه الحرب . فيما وجدنا من جانب اخر ان الكاتب المظفر يتكلم برومانسية وطفولية عن مسؤول سني في البصرة قبل اكثر من نصف قرن ساهم في بناء دور سكنية للموظفين , وكانه متفضلا ومتصدقا عليهم , وليس من مسؤولية الدولة بناء المساكن لمواطنيها او موظفيها , وانتقد الحوزة العلمية لعدم المساهمة ببناء تلك الدور , وطبعا هو تذكر هذا المسؤول الوحيد وعمله الايجابي , ولكنه قفز على الالاف المسؤولين السنة الذين عينوا في البصرة طوال العمر الاول من الدولة العراقية (1921-2003) من عسكريين واداريين ورجال امن وقضاة , الذين نالوا من البصرة واهلها وقيمها وعاداتها واعراضها بكلمات وسلوكيات مخزية لانستطيع ذكرها , وطبعا المظفر يعرفها جيدا , ولكنه لايذكرها خوفا من الاتهام بالطائفية ومن ثم الطعن بوطنيته وعروبته امام بقايا الانكشارية والمماليك في العراق .
ب . الموقف المتخاذل من الارهاب وداعش في العراق بعد 2003 . فكلنا يعلم ان المجتمع العراقي – وتحديدا الشيعة – واجهوا اخطر تحدي وجودي في تاريخهم من قبل الارهاب وسلوكياته الاجرامية والهمجيه , فاذا كانت الديكتاتورية البعثية الصدامية شكلت تحديا تاريخيا وثقافيا واخلاقيا للمجتمع الشيعي في العراق , فان المرحلة الارهابية – وخاصة النسخة الداعشية - بعد سقوط النظام البعثي الحاكم عام 2003 قد شكلت تحديا وجوديا خطيرا لامثيل له , لسبب بسيط وهو ان هذه التنظيمات الارهابية التي خرجت من كهوف التاريخ , مدعومة من الدول الطائفية العربية والسنية - وخاصة السعودية وتركيا وقطر والامارات وغيرها - تعتبر جميع الشيعة من الرجال والنساء والاطفال والشيوخ هم مرتدين وخارجين عن الاسلام , ويجب بالتالي قتلهم وابادتهم جميعا دون تردد او رحمة او تاويل , بل ان المتراخي من الارهابيين والفقهاء والشيوخ في تكفيرهم هو مرتد مثلهم ويجب قتله وتصفيته ايضا . وهذا يعني لو ان اقل اختراق ارهابي داعشي لمدينة او محافظة شيعية , وخاصة القريبة من مناطق داعش السنية مثل بغداد والحلة وكربلاء او بلد والدجيل او تلعفر , فان اكبر مذبحة ستكون قد حصلت في التاريخ . وقد يجد البعض من المثقفين والكتاب ان هذا نوعا من المالغة والتهويل , وان زمن الابادات المنظمة قد ولى زمانه في العصر الحديث , فيما انهم يعرفون جيدا ماذا حصل في الحرب الاهلية في يوغسلافيا السابقة , وكيف ان الصرب - وفي وسط اوربا - قاموا بعمليات ابادة واغتصاب منظمة للمسلمين البوسنة . وان المذابح في رواندا التي تجاوزت (800) الف ليست بعيدة عنهم , وان جريمة سبايكر وقتل اكثر من 1700 متدرب عسكري افضل دليل عياني على خطورة الموقف والسلوك الارهابي الطائفي والاجرامي , ناهيك عن الاعمال الارهابية التي لم تنقطع يوما طيلة السنوات العشر الاولى بعد السقوط (2003-2014) من حيث القتل والتفجير والاختطاف والتهجير والاغتيال والتخوين والتكفير وووو , وغيرها من السلوكيات التي سطرت اكبر فصل من الماساة والحزن والخوف والالم للمجتمع الشيعي , وخاصة عوائل الضحايا من الشهداء والمفقودين والمختطفين , فكل انسان يقتل في هذه الاعمال الاجرامية , يحمل معه ماساة محزنة , ويخلف وراءه ماسي اخرى متعددة من الارامل والاطفال , والالم للامهات والاباء والاهل , فكات المرحلة مابين سقوط الموصل عام 2014 واعلان الفتوى بالجهاد وتاسيس الحشد الشعبي وبين تحرير المدن العراقية السنية الحاضنة للارهاب عام 2017 واعلان الانتصار على داعش , هى من اصعب المراحل في التاريخ العراقي المعاصر , اذ كانت سنوات قاتمة وموحشة من الالم والحزن والخوف والقلق , بخسائرها الكبيرة من الشباب المقاتلين والمتطوعين تجاوزت اعدادهم عشرات الالاف , توزعوا على جميع محافظات العراق الشيعي , امتلات باجسادهم العطرة مقبرة وادي السلام في النجف . الا انها من جانب اخر كانت سنوات من المجد والشجاعة والايثار والشرف والاباء لم نشاهدها في التاريخ الا نادرا , ولكن رغم تلك المحنة ورغم ذلك الالم والحزن والتحدي والخطر الحقيقي , نجد ان المثقف الشيعي الذي نعرفه سلفا انه مخصيا ومستلبا ومدجنا بعيدا عن تلك التحديات والاخطار والاشكالات , ولم يتضامن او يقف مع مجتمعه واهله ووطنه في هذه المحنة , حتى وان كانت بدوافع وطنية او انسانية , اذا لم تكن مذهبية او مناطقية , بل كان محايدا وباردا يعيش في برجه العاجي بسكون وصمت لامثيل له , استعصى على الفهم والتفسير عند الكثير من الكتاب المحايدين , بل ان السقوط والخنوع والجبن قد وصل ببعضهم الى درجة ليس الحياد والبرود , بل والوقوف ضد ابناء مجتمعه وتبرير الارهاب وادخال القضية بالصراعات السياسية والعزف على اشكالات ثانوية لااصل لها بقضية الارهاب مثل تبرير تهميش السنة او الفساد او الدستور او التدخل الايراني او الميليشيات او قاسم سليماني , وغيرها من التبريرات التي تندرج ضمن خانة الخصاء والجبن عن مس الاب الميت اولا , والحقد على المجتمع الشيعي ثانيا . بمعنى ان رد فعل المثقف الشيعي من الارهاب في العراق بعد 2003 ينقسم الى نوعين :
الاول : المثقف الشيعي المخصي : ويتميز ان موقفه من الارهاب يتسم بالبرود واللاابالية وعدم الاهتمام به , ليس ترفعا او جهلا بالخطر او انعزالا عن الواقع وانما خوفا ورهبة من انتقاد الاب السني او مهاجمة المكزية السنية والقوميين العرب , لان الارهاب هو في الاخير ارهابا سنيا وعربيا . وبما ان المثقف الشيعي العراقي - كما اثبتنا ذلك - مثقفا مخصيا من السلطات القومية والطائفية السنية الحاكمة خلال اربعين عاما (1963-2003) فانه بالتالي اعجز او اجبن من ان يرفع صوته معارضا للارهاب والقوى التي تقف ضده .
الثاني : المثقف الشيعي الحقود : ويتميز ان موقفه من الارهاب يكون ضمن مواقف وتوجهات عديدة تندرج اغلبها ضمن اما تبريره او التعاطف معه ضمنيا او اتهام الحكومة بتهميش واضطهاد السنة او نقل المعركة الى جانب هامشي اخر مثل الفساد او الصراع الطبقي والديني , او التدخل الايراني او الاحتلال الامريكي او الدستور , او تمييع المعركة وتهوينها واعتبارها مجرد صراعات سياسية او اقليمية بين ايران والسعودية او دولية بين امريكا وايران , او اعتبارها مجرد خلافات دينية او مذهبية اسلامية قرو – سطية . وكل ذلك ياتي من اجل خلط الاوراق ومساواة الضحية والجلاد واعتبارهما في درجة واحدة من المسؤولية , وان الشيعة والسنة في هذه المعركة لايختلفان بالخطا والتكفير والارهاب , وان السبب هو الدولة الدينية وووو وغيرها من مفردات الجبن والعار والذل والرغبة بتسويف الارهاب والمواجهه ضده . وهذا النوع من الحقد يشكل - للاسف – الاغلبية العددية الساحقة من توجهات المثقفين المخصيين الشيعة بحسب القاعدة الاتية (كل مثقف شيعي حقود على مجتمعه هو مثقف مخصي بالضرورة , ولكن ليس كل مثقف شيعي مخصي هو مثقف حقود) . ومن حسن الحظ انني لم اكن الوحيد من انتبه الى هذه الظاهرة المخزية عند المثقفين العراقيين , فقد اشار الكاتب (سلام مكي) الى مقالة كتبها الاستاذ المختص بعلم النفس (حسين سرمك حسن) حول هذه الظاهرة بقوله (نشر الناقد العراقي حسين سرمك حسن، مؤخراً، مقالاً عن موقف المثقف العراقي من الحرب التي تخوضها القوات الأمنية والحشد الشعبي ضد الإرهاب في تكريت وغيرها من المدن، بطريقة لا تخلو من الانفعالية والقسوة تجاه المثقفين، بدأها بالسؤال التالي: ماذا تنتظرون أيّها المثقفون العراقيون ؟ فالأستاذ سرمك، يبدو انه استقرأ الأحداث وما نتج عنها من مواقف للمثقفين العراقيين وخلص إلى نتيجة مفادها أن المثقف العراقي مازال صامتاً إزاء المعركة المصيرية ضد العدو الأول للإنسانية وهو الإرهاب. وقال في مقالته أيضاً: إنّ تردّد البعض من المثقفين العراقيين- مهما كانت انتماءاتهم السياسية والاجتماعية وولاءاتهم الفكرية- في التصدّي الحازم لكلاب داعش وليس الاكتفاء بشجب أفعالها الحيوانية فقط، هو عار أوّلاً، وعلامة ضعف في التربية الوطنية ثانياً.
. في الواقع إن عدداً من المثقفين، يشعر بالحرج من التطورات والانتصارات التي تحققها القوات الأمنية وفصائل الحشد الشعبي، لدرجة انه التزم الصمت؛ لأنه يرى إن إعلان تأييده لهذه الفصائل سيخدش موضوعيته ووطنيته وحياديته ) .
ان هذه الظاهرة الغريبة نشاهدها وبصورة كبيرة عند الكتاب الشيعة الذين يعيشون في الخارج من المغتربين وغيرهم , وربما يكون لهم العذر في انهم بعيدون عن تداعيات الارهاب وماسيه في داخل العراق , فضلا عن خطورته وعواقبه ونتائجه الكارثية على المجتمع والدولة والانسان . وهو عذر اقبح من فعل - اذا صح ذلك - لان وسائل الاعلام الحديثة والانترنت والفيس بوك وتيوتر وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي تنقل الاحداث اول باول وبالصوت والصورة , لاتضع لهذا العذر مكانا او تبريرا , الا انه يمكن اعتباره عذرا يطرح للافتراض والجدل على اعتبار ان البعيد عن المكان هو بعيد عن الحدث وعن التفاعل معه , الا ان هذه الظاهرة ايضا نجدها وبافراط حتى عند عامة المثقفين والمتعلمين في داخل العراق . فرغم المشاهدات العينية اليومية للارهاب وتداعياته الماساوية من الانفجارات والانتحاريين والاف الشهداء والجرحى الذين يسقطون شهريا وامام الاعين , ويفدون الى المحافظات والمدن الشيعية في الوسط والجنوب , الا اننا وجدنا عندهم برودا لامثيل له وتهاونا في عرض اشكالاته واداناته يبعث على الشك والتساؤل , ولايشكل هما وجوديا او تحديا تاريخيا بل – وكما قلنا سابقا – الاغلبية من عامة المثقفين والادباء نجد عندهم التبرير والتستر والتعمية على الارهاب وحاضنته الاجتماعية والطائفية والسياسية , وربما يصل الحقد الصريح بهم الى التعاطف معه واعتباره نوعا من المقاومه ضد الاحتلال الامريكي او الايراني . ويمكن تفسير هذا السلوك الغريب ضمن ثلاث احتمالات :
الاول : الجهل بالارهاب وخطورته على المجتمع العراقي او التهوين منه واعتباره نوعا من التحدي البسيط , او الانقياد للاعلام العربي والسني الذي يعتبره نوعا من الصراعات السياسية بين الاحزاب الحاكمة . وبما ان اغلبية العراقيين ينقادون للاعلام العربي بسهولة , فان هذا الموقف الجاهل سيشكل حتما في نظامهم المعرفي معطى رئيسي من الحكم والتقييم والطرح . كما ان الجهل بخطورة الارهاب اضاف ظاهرة اخرى تتعلق بامكانية التعايش والمصالحة معه واحتوائه وكسب السنة من خلال اليات معينة , وهو بالطبع طرح ساذج ومبسط لواقع معقد , وبحسب وصف ماركس (كيف نواجه الواقع الضاري بالدبابيس وهو ينهال على رؤوسنا بالهروات) اي كيف نواجه الوحوش البشرية التي احتوت خلاصة السقوط والانحلال والعار بالورود والاعتدال والمصالحة , او احتوائها من خلال المهرجانات والقصائد وغيرها , لان ذلك يصب في صالحها اولا واخيرا (فمصاصو الدماء لايموتون .... لانهم اصلا اموات) – كما يذكرون بالافلام الامريكية -
الثاني : الاهتمام بقضايا اخرى تشكل عند اغلبية العراقيين من الشيعة نوعا من الاهمية القصوى والملحة بصورة تجعله لايهتم بقضية اخرى مثل الارهاب , واهمها قضية الاموال والفساد . فالعراقي ينتفض على الاموال ولاينتفض على الارواح , لانه – وببساطة – يهتم بالاموال اكثر من الارواح , وفد وجدنا هذه الظاهرة اثناء الحرب العراقية الايرانية وكيف ان عوائل الضحايا يبحثون عن الحقوق والاموال وقطع الاراضي لابنائهم من الشهداء حتى قبل مناسبة (الاربعين) , بل والكثير كانوا يجبرون ابنائهم على التطوع في الحرب او في قوات الحرس الجمهوري تحديدا من اجل الاموال والرواتب الكبيرة , رغم المحرقة والسيل اليومي من القتلى والمفقودين والجرحى , والسبب هو الجوع التاريخي والحرمان الاسطوري الذي عانى منه المجتمع العراقي الجنوبي خلال الحقب التاريخية والقرون الطويلة , لذا تجد اغلبية المثقفين والكتاب مشغولين بالفساد والاموال وصرفيات الموازنة والرواتب وغيرها ولاينشغلون بالارهاب وتداعياته وخطورته وضحاياه . واعتقد ان اول من اشار الى هذه الظاهرة تاريخيا هو الامام علي في وصف العراقيين وكيف انهم ينتفضون للاموال ولاينتفضون للارواح بقوله (ينام الرجل على الثكل ولاينام على الحرب) وفسرها الشريف الرضي الجامع لخطب الامام في (نهج البلاغة) بان يصبرون على قتل الاولاد ولايصبرون على سلب الاموال .
الثالث : وهو ماذكرناه سابقا بان السبب الاساس لعدم انشغال المثقفين والكتاب والادباء الشيعة بالارهاب او نقده وتعريته وفضحه واعتباره اشكالا رئيسيا في البلاد بعد 2003 هو ان الشعور بالنقص والدونية والاستلاب امام المركزية السنية والعروبية والخوف من الاتهام بالطائفية , لان الارهاب هو – وكما قلنا – ارهابا سنيا وعروبيا , وبما ان الانتلجنسيا الشيعية قد تعرضت للخصاء من قبل المركزية السنية والقومية العربية منذ انقلاب 1963 فانها بالتالي اجبن واضعف من ان توجه لها اللوم والاتهام والنقد , ناهيك عن الادانة والتعرية والفضح . ومصداق هذا الكلام كثيرة ولاتعد او تحصى في مجال الارهاب واهمها الموقف من الميليشيات فكلنا يعرف ان الميليشيات هى نتيجة للارهاب وليس سبب له , وانها من اهم القوى الفاعلة التي واجهت الارهاب , بل ان الحشد الشعبي هو من قضى عليه قضاء مبرما ونهائيا بعد مرحلة ظهور داعش وسقوط الموصل عام 2014 . ومن الطبيعي ان يكون اهل السنة عدوهم الاول وهاجسهم الاساس هو الميليشيات والحشد الشعبي وليس الارهاب , الا اننا وجدنا ان اغلبية المثقفين والادباء الشيعة يرددون دون وعي مقولات اهل السنة والقوميين العرب ببغائيا , والسبب هو ان الخصاء الذي تعرضوا له يجعلهم يسيرون وفق صدى مايقوله الاب الميت في نفوسهم وشخصياتهم المدجنة دون تامل او مراجعة او تحقيق .
ان هذه التفسيرات الاربع كانت تشكل عندي الاحتمالات الثلاث المقبولة لسكوت المثقفين والكتاب الشيعة عن الارهاب , فاذا كان المثقف السني يصمت عن الارهاب ويعتبره اشكالا ثانويا وهما ضعيفا , فان السبب هو ليس لان الارهاب لاينال منه ومن مجتمعه ومدنه واهله الا النزر اليسير (عدا مرحلة داعش بعد 2014) فحسب , بل لانه يرى في الارهاب عملا ايجابيا ينال من الاحتلال او العملاء او القوى التي اخذت منه السلطة والحكم وهم الرافضة او الصفويين (وطبعا المقصود بهم الشيعة) , الا ان الغريب ان تجد المثقف الشيعي يطابق رايه من المثقف السني حذو النعل بالنعل – كما يقولون – وبعد التفحص والتحقيق والاطلاع على اراء الانتلجنسيا الشيعية من خلال مواقع التواصل الاجتماعي وارائهم وكتاباتهم عن الارهاب وافعاله واجرامه والبرود والتستر والتعمية التي يقومون بها عليه وجدنا – للاسف – ان السبب لاينحصر بتلك الاحتمالات والتفسيرات الثلاث التي ذكرناها سابقا , وان السبب هو اعمق واخطر من ذلك بكثير , وهو حقد الانسان الشيعي العراقي بصورة عامة من مثقفين وكتاب ومتعلمين وادباء على مجتمعهم واهلهم وطائفتهم ومذهبهم بصورة ليست لافتة للنظر فحسب , بل وباصرار وتاكيد عجيب لايبعث على الشك والتاويل والسؤال , بل وربما اعتبر هذا الحقد الذي يتمظهر من خلال صور واراء براقة وخادعة من الحياد والموضوعية , هو نوعا من الاعتدال والوطنية ونكران الذات والتسامي عن المنظورات المناطقية والطائفية , وهذا الحقد تجده ظاهرا على مدى الخمسة عشر الاخيرة من اعتى موجه ارهابية في التاريخ تعرض لها المجتمع العراقي الشيعي (2003 -2018) من السكوت والتخاذل والجبن والتبرير الى التهوين والتستر والتعمية , وبالطبع لانستطيع استعراض جميع اراء ومواقف وكتابات اولئك المثقفين والادباء والكتاب حول الارهاب , لان ذلك يحتاج الى دراسة مفصلة وموسعة , ويكفي منك ان تلقي نظرة على ارشيف موقع المخصيين الاول في العراق وهو موقع (كتابات) لصاحبه اياد الزاملي , وموقع الحوار المتمدن وموقع ايلاف السعودي الذي يكتب فيه القيادي الشيوعي السابق عزيز الحاج وغيرها , لعرفت مقدار السكوت والتخاذل والاستلاب امام الارهاب والاجرام وقاعدته الطائفية الاجتماعية والسياسية . ولكن يمكن ذكر مشاهدات شخصية رايتها في مواقع الانترنت وخاصة التواصل الاجتماعي (الفيس بوك) والاطلاع على مواقف الكثير من الكتاب والادباء والمثقفين والاكاديميين وغيرهم الذين كانت لي معهم صداقات , انا بادرت لااقامتها من اجل دراسة المعالم الثقافية والسياسية والاجتماعية للانتلجنسيا العراقية والتوجهات الفكرية والايديولوجية التي ينادون بها , وقد صدق حدسي السابق الذي استقصيته من كتابات هؤلاء وغيرهم من الفضائيات والمقالات وغيرها , ووجدتهم نسخة طبق الاصل من تلك المواقف المستلبة من الارهاب والحقودة على المجتمع الشيعي . ويكفي ان تنظر الى كتابات (عزيز الحاج وجعفر المظفر وكاظم حبيب وعلاء اللامي ورشيد الخيون وعلي الربيعي ومحمد مظلوم وعبد الرحمن مجيد الربيعي وزهير الجزائري (كتب مقالة يتيمة على العنف في العراق والحرب الاهلية عام 2006 في مجلة الثقافة الجديدة وكالعادة ركز فيها على الميليشيات) وعماد العبادي وعون الخشلوك واياد جمال الدين وضياء الشكرجي وحسن العلوي وعلي ثويني وطارق الحربي وموسى الحسيني وليث الصندوق وشمخي جبر وقاسم حسين صالح وسعدون هليل وحيدر سعيد وغيث التميمي وناظم عودة وشوقي عبد الامير وعبد الرزاق الربيعي ومنتظر الزيدي واياد الزاملي وعبد الرحمن الربيعي و وصافي الياسري وسمير عبيد وزكي رضا وفلاح المشعل وعلي السوداني وهادي حسين وطاهر البكاء وغيرهم المئات) لوجدت الصمت المطبق والسكوت المريب والتعمية الغريبة على الارهاب واعماله المشينة وحاضنته الاجتماعية والعربية وافعاله الاجرامية . والمؤسف ان تجد الكثير من تلك الاسماء من اهالي الناصرية فهذه المحافظة - كما هى مدينة الابطال والمثقفين - فهى ايضا محافظة المخصيين , والسبب هو انها اول محافظة تعرضت للتدجين والترويض والقمع من ال سعدون ومنذ الشروط المذلة التي فرضوها على عشائر المنتفك والاستيلاء على اراضيهم الزراعية , ثم اعقبها الخصاء الاقطاعي والحرس القومي والحكم البعثي والتدجين الحكومي في الجيش العراقي (فهى بلد المليون عريف ونائب ضابط في الجيش المنحل) وغيرها .
وكما قلنا بان حصر وادراج واستعراض اراء ومواقف جميع هؤلاء الكتاب هو من الصعوبة بمكان , ولكن يمكن ذكر بعض العينات التي استقصيتها في موقع التواصل الاجتماعي (الفيس بوك) , فبعد حصول العمليات الارهابية وخاصة الانتحارية بالسيارات المفخخة واستشهاد المئات من الافراد الشيعة العراقيين وخاصة بعد عام 2010 - وهو العام الذي اشتركت به في (الفيس بوك) - توقعت ان تكون مواقف المثقفين والادباء والفنانين العراقيين هى الحزن والالم والاسى على تلك الارواح البريئة من الشباب والنساء والاطفال الذين تتمزق اشلائهم في الطرقات وتتلاشى بالارجاء , او على صور الامهات والزوجات والابناء والاخوات الذين تظهر صورهم وهم في حالة يرثى لها من الالم والمصيبة والجزع , او التنديد والفضح لتلك العمليات الاجرامية والفاعلين ورائها والمحرضين عليها من مخابرات دول خليجية وعربية , والمروجين اعلاميا لتسويقها بحجة المقاومة والجهاد والتهميش للسنة العرب وغيرها , الا انني اتفاجا ان الموقف غير ذلك كليا , فالمثقف الشيعي اما تجده مشغولا بالهجوم على الحكومة والعملية السياسية , او منغمس بالكتابة الادبية والرومانسية او تسويق نفسه وابراز نرجسيته من خلال الكتابات الشعرية , بل وربما حرض بعضهم على الارهاب وبرره بحجة مقاومة الاحتلال الامريكي او الايراني , او تجده مشغولا بالجنرال قاسم سليماني او الميليشيات او غيرها . واما تلك الاشلاء المبعثرة ودماء الضحايا المتناثرة والارواح المستباحة فلاتشكل في كتاباتهم ومطارحاتهم قيد انملة من التفكير والاهتمام , والسبب الاساس لان الضحايا هم اصلا من ابناء جلدتهم ومدينتهم ومذهبهم الذين يكن لهم حقدا دفينا واحتقارا اسطوريا , اذ لو كان الضحايا من المسيحيين او الايزيديين لكانت المواقف مختلفة تماما , فالمزايدات والمظهريات والرومانسيات ستصل الى اعنان السماء, ولكن بما ان الضحايا هم من الشيعة فالامر لاباس به , ولايشكل جرحا نازفا او الما معتبرا , لانهم اعتادوا يكون مجتمعهم واهلهم من الضحايا على مدى التاريخ . وقد شكلت عندي في الواقع هذه المواقف وعدم الاهتمام صدمة كبيرة وحيرة استعصت على التفسير والتحليل اشهر طويلة , واذا كانت هذه المواقف المخصية والحقودة فردية او شاذة لقلنا ان هذا لايشكل مقياسا او تعميما يستحق الدراسة والنقد , الا انك تجد ان هذه المواقف تشكل الاغلبية من الانتلجنسيا الشيعية . ومن الطبيعي ان يكون للامر تفسير او تحليل حقيقي وغير مرئي او دارج عند الكتاب والمختصين , لذالك عقدت العزم على دراستها نفسيا واجتماعيا وسياسيا , واستعنت بكتابات علي الوردي وجورج طرابيشي ونيتشة وفرويد ويونغ وفوكو وبورديو وغيرهم من الذين تبنوا منهجية الحفر (الاركيولوجيا) والعصاب الجماعي والتحليل النفسي والسلوك الجمعي الخاصة في دراسة المجتمعات والخطاب والسلطة والانتلجنسيا والبنى غير المرئية التي تحرك التوجهات من خلف الستار , حتى يمكن القول اني قد اكون المختص الاول بدراسة الانتلجنسيا العراقية معرفيا ونفسيا واجتماعيا , وكتبت بهذا المجال عشرات الدراسات في موقع (الحوار المتمدن) , (فيما يعد الدكتور سيار الجميل المختص الاول بدراستها تاريخيا وسياسيا , رغم ان كمال مظهر احمد وعامر حسن فياض قد سبقوه بهذا المسار الا انهم لم يتوسعوا بذالك مثله) . وخرجت من تلك القراءات والدراسات والكتابات بحصيلة تبين الدوافع والاسباب وراء سكوت المثقفين العراقيين الشيعة عن الارهاب والطائفية والعنصرية , وارجعتها في الاعم الاغلب الى افرازات نفسية وانثيالات اجتماعية اكثر منها ثقافية او سياسية . ويمكن ادراج موقفين من تلك المواقف التي وجدتها او درستها بالفيس بوك , وهما موقف الشاعر محمد مظلوم وموقف الكاتبة فاطمة المحسن . فكلاهما التزما الحياد المطلق من الارهاب وضحاياه , وكأن هؤلاء القتلى من الحثالات والاوباش ولايستحقون الرثاء او التضامن او الجهد اوحتى كتابة خاطرة مبسطة او مقالة تقليدية بحقهم . فالشاعر محمد مظلوم مثلا , واثناء قمة تصاعد العمليات الانتحارية التي تنال يوميا من المئات من العراقيين الابرياء , صادف خلال تلك الفترة وفاة زوجته في دمشق , فانفتحت قريحته وشاعريته المعطاء بعشرات القصائد والخواطر على هذا المصاب الجلل والحدث الاليم , فيما على النقيض من ذلك نجد الجفاف المطلق والسكوت المطبق على الضحايا الاخرين من اقاربه واهله ومدينته , ولم يذكرهم بخاطرة صغيرة او قصيدة فردية واحدة , ونحن لانريد ان نحجر على الناس مشاعرهم وواحزانهم ومايحبون ومايكرهون , ولكن في الوقت نفسه لانريد منهم التسامي عن احزان الاخرين ومصائبهم والآمهم وتبخسيها وتجوازها . واما الكاتبة فاطمة المحسن فالامر مختلف عن محمد مظلوم , فاذا كان الاخير يعتذر بانه لم يكتب في القضايا السياسية ووجعها واشكالاتها , فان المحسن لها في كثير من الحالات بعض الكتابات والاراء السياسية , وطبعا ليس في مجال الارهاب وضحاياه وتعريته او نقده , او بيان الدول الخليجية والعربية التي تدعمه وتحرض عليه , لان ذلك يدخل في دائرة (التابو) الذي لايجوز نقده او مسه , خاصة وانها تنشر في جريدة (العرب) السعودية , كما ينشر رشيد الخيون في (الاتحاد) الاماراتية , وعزيز الحاج في موقع (ايلاف) السعودي , بل الامر مختلف عن ذلك تماما , فهاجسها الاساس هو الميليشيات والجنرال سليماني . وفي احدى النقاشات العقيمة بالفيس بوك حاولت استدراجها في نقد الارهاب والتنديد به والكتابة عنه من خلال ربطه بالضحايا الاخيرين من اهالي مدينتها في الناصرية , وتذكيرها بموطن الصبا والاهل والنستولوجيا !! وذكرتها (انا الفطير) بالضحايا الابرياء من العملية الارهابية في مطعم (فدك) جنوب الناصرية عام 2017 التي راح فيها مايقارب السبعين شهيدا من الشباب والنساء والاطفال , الا انها ردت عليه بقسوة وتانيب وتوبيخ بسبب ربطها بالضحايا وتذكيرها بالناصرية , وكأن الامر يشكل لها حرجا (وفي الواقع حتى الان لااعرف سبب الانتفاضة والتوبيخ تحديدا) واعادت النغمة عن سليماني ومشاريعه التوسعية التي لايسيطر عليها احدا .
في ختام هذا القسم نذكر ان الكثير من اولئك الكتاب قد استندوا الى اعذار او اسس من النقد والتوبيخ والقاء اللوم على الحكومة والعملية السياسية والميليشيات والفساد والنفوذ الايراني وغيرها في مواجهة الارهاب والتنديد به واعتباره الهاجس الاول عندهم . وانا اقول اذا كانت الدولة فاسدة والطبقة السياسية فاشلة وتخضع للنفوذ الايراني او متقاعسة في مواجهته الارهاب , فهل هذا يعد مبرر للسكوت والتستر عليه او التعمية عنه او حتى تجاوزه والتسامي عنه ؟؟ اعتقد ان هذا الموضوع لايحتاج الى تفكير عميق ليجد ان هذه الاعذار واهية وغير عقلانية , ففي جميع دول العالم , وعندما يواجه المجتمع القليل من التحديات الوجودية والمصيرية الاخرى - كالارهاب مثلا - يترك المثقفون خلافاتهم واشكالاتهم مع الدولة ويتحدوا مع المجتمع ضده صفا واحدا , الا في العراق , فالجانب الايديولوجي والسياسي والذاتي يحدد توجهاتهم الفكرية والثقافية حتى في احلك الظروف والتحديات المصيرية , ولاتشكل عندهم تلك الارواح والدماء اي نزعة او نظرة او مشاعر من التاثير او التضامن , بل ربما الكثير منهم يفرح بها – مثل الاعلامي مظفر قاسم حسين وباقي مقدمي قناة الشرقية - لانها تنفس عن مكامن الحقد والغل والكراهية المكبوتة عندهم ضمن اللاوعي ضد المجتمع , او ان بعضهم يرحب بها ضمنيا – او حتى صريحا - لانها تؤكد صحة توجهاتهم السياسية والايديولوجية ضد الدولة العراقية بعد 2003 وفشلها في الادارة والحكم . وقد اطلعت على مواقف الكثير من المؤدلجين الثوريين من الشيوعيين الشيعة , وكيف انها حافلة بالشماتة الضمنية والترحيب بالتفجيرات والانهيار , لانها تؤكد مصداقية وصحة اراءهم في الحكومة والدولة والمجتمع , بل وربما رحب بها اخرون من الحاقدين ايضا , لانها تؤكد صحة ارائهم السياسية في فشل هذا الشخص او هذا الحزب او تلك الطائفة في ادارة الحكومة والدولة بعد 2003 . وكل هذا ان دل على شيء فانه يدل على مبلغ الاستهانة بارواح الناس ودمائهم واعراضهم ومصيرهم واخضاعها للمحددات العصابية والنفسية والسياسية (يتبع القسم الرابع والاخير) الدكتور سلمان الهلالي /الناصرية الغراء .