يوميات نصراوي: حين صنفت خطرا أمنيا!


نبيل عودة
الحوار المتمدن - العدد: 6114 - 2019 / 1 / 14 - 06:14
المحور: سيرة ذاتية     

يوميات نصراوي: حين صنفت خطرا أمنيا!

نبيل عودة



نظر إلي من خلف عالمه المليء بالهواجس، قال وهو يعرض نفسه لأشعة ضوء القمر المتسللة عبر نافذة الزنزانة الضيقة:
- التاريخ في نظري لم يبدأ بعد..
- هل عدنا إلى ما قبل التاريخ؟
- ما قبل التاريخ هو تاريخ أيضا!!
- الفهم يستعصي علي.
- إن ما يمر بنا هو مهزلة، سيخجل التاريخ من أن يحفظها في طياته.
- فهمت ولم أفهم
أعطاني ظهره ووقف يرنو عبر فتحة الزنزانة الضيقة لما يتسرب من ضوء القمر. بان من زاويتي المعتمة أشبه بلوحة دينية لملاك ما، محاط بهالة من الضوء الإلهي، توسمت بكلامه نبوءة تثلج الصدر، قلت:
- لا أحد يستطع استعمال قدراتك الشخصية كما تقدر عليها أنت. فاشرح لنا ما ترى بعقلك وليس بعينيك.
لم يعقب بكلمة أخرى.. غلبنا النعاس والإرهاق من التحقيقات الطويلة، من لعبة شد الحبل بيننا وبين محققي الشرطة بظن أن أعصابنا ستنهار.. أو نناقض أنفسنا في إفاداتنا.. كانت اللعبة معروفة، تلقينا شرحا لها من رجل قانون قبل أن نحظى بعماد الاعتقال الأول. والتزمنا بما شرح لنا. كان صمتنا هو الحل الأمثل لكل ما يثير شكوكنا ان وراء أسئلة نشك انها مصيدة لنا!!
اصطدمت بقوة مع ضوء النهار فلم اعرف موقعي لبرهة، أخذت اصطاد بعض الأفكار العابرة في ذهني... رأيت البداية وتمنيت النهاية.. لم نرتعب من قرار الحكومة الجديد الذي يصنفنا عربا سلبيين وعربا ايجابيين، فرضت ابتسامة بلهاء على شفتي.
"حكومتنا الرشيدة" اتخذت قرارا بالتفرقة بين نوعين من مواطنيها العرب... عرب ايجابيين، أي ما نسميهم بلغتنا الشعبية "مرتزقة السلطة"، الذين باعوا كرامتهم بقروش صدئة. وعرب سلبيين، هي صفة كل المناضلين ضد مشاريع التهويد ومصادرة الأرض وتضييق الخناق على تطور بلداتنا ومؤسساتنا التعليمية. بالطبع فرض على العرب السلبيين أوامر تحديد التنقل التي تمنع "المغضوب عليهم" من مغادرة بلداتهم بدون تصاريح عسكرية، بل وتفرض على من تراه خطرا على الأمن (أمن البلطجية السياسية)، أوامر تمنعه من مغادرة منزله بعد غياب الشمس، ودائما تحضر دورية شرطة للتأكد ان الأمر ينفذ!!
اذكر ان شاعرنا محمود درويش كان من الذين تلقوا أوامر تحديد التنقل والاعتقال المنزلي بعد غياب الشمس (إثبات وجود)، وقبلها كان قد شارك في مهرجان سياسي كبير عقد في مدينة الناصرة ضد قرارات الحكومة، بتصنيفنا عربا سلبيين تفرض علينا أوامر تحديد التنقل الانتدابية الاستعمارية سيئة الصيت، أي في مثل حالتي كنت ممنوعا من مغادرة مدينتي الناصرة بدون تصريح من جهاز الشرطة، سابقا كان التصريح من الحاكم العسكري، الغي الحكم العسكري عام 1966 بعد معركة نضالية طويلة وحافظوا على بقاياه مثل أوامر تحديد التنقل والاعتقال الإداري والنفي وغير ذلك من الموبقات، وهو قانون سائد اليوم ضد أبناء شعبنا الفلسطينيين في المناطق المحتلة. ألقى محمود درويش في مهرجان الناصرة قصيدته التي اشتهرت باسم "سجل أنا عربي" ( اسمها "بطاقة هوية") يقول فيها:
سجل
أنا عربي
ورقم بطاقتي خمسون ألف
وأطفالي ثمانية
وتاسعهم سيأتي بعد صيف
فهل تغضب
سجل
أنا عربي
وأعمل مع رفاق الكدح في محجر
وأطفالي ثمانية
أسل لهم رغيف الخبز
والأثواب والدفتر
من الصخر
ولا أتوسل الصدقات من بابك
ولا أصغر
أمام بلاط أعتابك
فهل تغضب
سجل
أنا عربي
أنا اسم بلا لقب
صبور في بلاد كل ما فيها
يعيش بفورة الغضب
جذوري
قبل ميلاد الزمان رست
وقبل تفتح الحقب
وقبل السرو والزيتون
وقبل ترعرع العشب
أبي من أسرة المحراث
لا من سادة نجب
وجدي كان فلاحا
بلا حسب و لا نسب
يعلمني شموخ الشمس قبل قراءة الكتب
وبيتي كوخ ناطور
من الأعواد والقصب
فهل ترضيك منزلتي
أنا اسم بلا لقب؟
سجل
أنا عربي
ولون الشعر فحمي
ولون العين بني
وميزاتي
على رأسي عقال فوق كوفية
وكفى صلبة كالصخر
تخمش من يلامسها
وعنواني
أنا من قرية عزلاء منسية
شوارعها بلا أسماء
وكل رجالها في الحقل والمحجر
يحبون الشيوعية (1)
فهل تغضب
سجل
أنا عربي
سلبت كروم أجدادي
وأرضا كنت أفلحها
أنا وجميع أولادي
ولم تترك لنا ولكل أحفادي
سوى هذي الصخور
فهل ستأخذها
حكومتكم كما قيلا؟
إذن
سجل برأس الصفحة الأولى
أنا لا أكره الناس
و لا أسطو على أحد
ولكني إذا ما جعت
آكل لحم مغتصبي
حذار حذار من جوعي
ومن غضبي!!
قد يقول البعض انها خطابية مهرجانية، وهذا صحيح، ولكننا كنا بأمس الحاجة لمثل هذا الشعر الذي ألهب الجماهير وملأها عزما وتحديا ضد تعسف السلطة. شعرنا المهرجاني له طابعه النضالي والتثقيفي، كانت القصيدة أهم من الخطاب السياسي في مهرجانات ومظاهرات واجتماعات شعبنا. في نفس المهرجان شارك أيضا الشاعر، زميل درويش شعرا، فكرا ونضالا، سالم جبران، بقصيدة هامة هي "القائمة السوداء" يقول فيها:
سجل اسمي في القائمة السوداء
سجل اسم أبي، أمي، إخواني
سجل .. حتى حيطاني!
في بيتي لن تلقى إلا شرفاء!!
لا تنظر نحوي
بعيون باردة بلهاء.
سجل اسمي..
فأنا لن أتنازل
عن ارضي الطيبة المعطاء
لن اعمل جاسوسا
للأجهزة السوداء
في كل مظاهرة تلقاني
صوتي مع آلاف الأصوات
يجلجل في الأجواء
وإذا ما شئت مزيدا
فأنا أحمر
من بلد حمراء
سجل اسمي في القائمة السوداء
وطني ملكي
أبقاه لي أجدادي
وسابقيه للأبناء
حر فيه أنا.. أتجول كيف أشاء
خبئ في غير ملفاتك، بالقائمة السوداء!
حفظنا القصيدتين غيبا. انتهى المهرجان بمظاهرة، اعتقالات ليلية، تحقيقات شرطة وباقة من أوامر الإقامة الجبرية.
كنت في السابعة عشرة او الثامنة عشرة من عمري عندما تلقيت أول امر إقامة جبرية.. كان ذلك بعد المهرجان السياسي الخطابي الشعري الذي عقد في قاعة سينما ديانا في الناصرة كما أذكر ذلك جيدا! واعتقلت بسبب مشاركتي برفع شعارات ضد ما تبقى من قوانين الحكم العسكري.
قضيت يوما واحدا في الزنزانة.. كان الاعتقال بكل قساوته، جامعة هامة في مسيرة حياتي.
عانقت الرياح بشدة ..
فحملتني إلى عالم توهمت انه معتوق.
أسرعت أبحث عن أحبائي،
فوجدتهم يضمدون جراحهم وأطفالهم يلعبون بآلات الموت.
حرت في أمري،
اضحك أم ابكي..؟!
لكن حيرتي لم تطل!!
قالت لي عجوز مقعدة:
- كم هو أخلاقي
وإنساني ان تعطي ابتسامتك لمن فقد القدرة على الابتسام...
- لكنهم أعداءنا يا جدتي ..؟
- ابتسامتك ستغير ما نشأوا عليه
- المسيح أعطى خده الأيسر بعد الأيمن، فصُلب؟
- لكنه كسب العالم كله.
- أراك تبتسمين وآلامك تبكي الحجر. ألا تعرفين البكاء ؟
- فقدت أربعة، ولا أريد أن أنزل القبر قبل أن أزغرد لاستشهاد الخامس..
- ومتى تبكين؟
- يا بني، نحن نبكي حين نلد.. لأننا نخاف أن يحمل ولدنا العار لأرحامنا. أما حين يستشهد ، فنزغرد فرحين لطهارة ما بذرنا...
- هل هي "متسادا" جديدة؟(2)
لم تفهم معنى سؤالي. واصلت تقول:
- بذورنا هي الشيء الوحيد الأكيد في عالم العروبة...
ازدادت حيرتي .. وكلما ازدادت حيرتي التبست علي طريقي، كنت مشتت الفكر مثقل الرأس. قالت أمام حيرتي:
- لن تفهمني إذا لم تكن فلسطينيا!!
استيقظت متعبا من النوم .. بحث عن العجوز فلم أجد إلا الليل والصمت ...
احترت وحيرت.
طفت الأصقاع وأنا أرنو نحو ضوء القمر الذي بدا يتلاشى.
تهت في أفكاري وتخيلاتي.
كان الألم ينهش كبدي،
والتيه يمزقني.
التقيت بتائه مثلي:
- إلى أين؟
- إلى هناك...
- أين هناك؟
- حيث كلهم ...
- لا أفهمك.. أنا تائه .. فهل تعرف الطريق؟
- أعرفها وتعرفني.. مرات كثيرة مررت فوقها.. وما زلت اكرر التجربة.. انها أمامنا ممتدة، حتى ما بعد الأفق.. قد تقصر .. لكنها طريق عربية لذا لا تقصر، بل تطول.. وتطول..
- هل ستبقى ماشيا؟
- لا أدري.
- هل لها نهاية؟
- من يعلم؟
- حيرتني
- كنت مثلك لكني فقدت حيرتي أيضا.
- تمشي ولا ترى نهاية للطريق؟
- أراها بوضوح من زاويتي المعتمة؟
- - ماذا ترى؟
- استمرار الضياع!!
ركعت ركعتين وما صليت.
تمردت وقذفت صليبي
ركضت نحو الأشياء..
غافلت الريح..
وقفت فوق التلال..
صرخت، صمت، تأوهت..
جذبتني الوديان..
قطفت أجمل الورود البرية وبعثرتها فوق وجهي
خاطبت الجماد..
صحت في الفراغ..
أصبت بغيبوبة فوق بساط أخضر من الحشائش
تنشقته، تنشقته وتنشقته..
تهت في تعقيدات فكرية..
حاولت ان افهم متى يبدأ التاريخ؟
متى استطيع ان اعرف طريقي؟
تهت في خضم عجيب من الاصطلاحات حتى سرقني الوقت.
أسرعت عائدا قبل حلول الظلام.
استيقظت قبل الفجر مرة أخرى...
فقدت ذاكرتي. اكتشفت ذلك بالصدفة. أنا لا اعرف من أنا. هكذا فجأة بلا مقدمات. لا اعرف إن كنت أحلم. أحاول تذكر اسمي. تخذلني ذاكرتي. أحاول ان احدد بدايات لأشياء حولي، تختفي كأنها لم تكن. أنشط لمعرفة صور أشخاص ملامحهم تداعب ذهني... تختلط على الصورة.
أغوص في مخيلتي واستحثها ان تنشط. أغوص وأغوص.. أنسى إلى أين أغوص. لماذا أغوص؟ أحدق حولي دون أن أفهم أو استوعب ما أرى.. من أنا؟ ماذا أفعل هنا؟ أحاول النوم. فيجذبني صمت عجيب!!
*****
قال زميل لي :
- تحيرني معادلات التاريخ بدقتها وشموليتها. هل تعرف ان دراسة التاريخ تعطي الإنسان أفقا واسعا وقوة نفسية جبارة؟
- الوقت غير مناسب للفلسفة.
- إذن عد للنوم.
فجأة شعرت بالألم. الصور المائعة عادت تداعب ذهني.. بدأت أفقد صلتي بالأشياء من جديد... تملكني شعور مبهم عن عالم مأساوي بأحداثه. أحسه ولا أراه. أخوض فيه ولا اكتشف مكنوناته. أتنشقه وأعجز عن معرفته.
بين الفينة والأخرى يعاودني الذهول. أحاول ان أجد الروابط.. أضيع ورائها. التقي كثيرين اعرفهم.. وكثيرين لا اعرفهم. أحاورهم بصمت ثقيل. انتهي إلى ركن مظلم... فأعود من حيث بدأت.
هربت لآفاق جديدة. رأيت طلوع الشمس واحمرار الشفق عند المغيب. في الليل القوا القبض علي. اقفلوا علي في زنزانة وقالوا اني سافل!!

سأتقدم حاملا لحدي بيد
وباليد الأخرى ثورتي
فعانقيني إذا شئت
يا أغلى من روحي عندي.

فتحت عيني ... فوجئت.
بدأت أستعيد وعيي أو بعض منه.. ما جرى بات أكثر وضوحا. الآن ترتبط الأحداث بذهني. أين كنت غائبا؟
يطلبونني للخروج. هل هو تحقيق جديد؟
لم يكسرني عنفهم ولن يكسرني. علي أن أظل هادئا... متيقظا..
سأقوم الآن وأتحرك للخروج...
التقيته دامي الوجه.. ارتمى فوق صدري، ودس ليدي قصاصات صغيرة من الورق. أسرع الشرطي يفصل ما بيننا.
خبأت قصاصات الورق في جيب بنطالي. شعرت بها كنزا غير عادي..
التحقيق يكرر نفسه.. ملوني أو مللتهم.. غضبوا لأني أفشلت جهودهم في إيجاد أدلة كافية باني سافل!!
أطلق سراحي!!
هذا مجمل ما استطعت قراءته على قصاصات ورق من علب السجائر. التي وصلتني من معتقل لا اعرفه.
بعض الكلمات لم تكن واضحة ناسبت كلمات مكانها، حافظت على المضمون، ماذا أفعل بها؟
صاحبها يطلب إنقاذه من موت مؤكد.. يروي رحلة تعذيب طويلة ليقر بما لم يفعل. يصر على رفض الاعتراف بما لا علاقة له به.
احترت فيما اعمل مع قصاصات الورق.. لمن أسلمها ولا اسم فيها؟
وقعت عيني على صحف في صباح أحد الأيام .. عناوين مزعجة.. لكن عنوانا صغيرا جعلني أتجمد بذهول:
"العثور على جثة شاب مليئة بالكدمات "
الصورة في الجريدة لم تفارق ذهني، منذ حضنني ليدس قصاصات الورق في يدي..
***********
1- بعض المواقع لسبب غبي جدا، حذفت المقطع الذي يقول "يحبون الشيوعية" بتجاهل كامل لما كان يمثله محمود درويش في حياته وشعره وفكره، لا اكتب ذلك من منطلق سياسي، أنا أيضا خارج صفوف الحزب الشيوعي، ولكن التاريخ مقدس وتزييفه جريمة!!
2- " متسادا" قلعة تقع على جبل يطل على البحر الميت، اشتهرت بعد الحدث الدرامي المثير الذي أدى إلى انتحار 953 يهودياً رفضوا الاستلام للقوات الرومانية التي حاصرت القلعة خمسة أشهر، أثناء التمرد اليهودي الذي وقع في العام 70 ميلادية، عندما اجتاح الجنود الرومان القلعة لم يجدوا على قيد الحياة إلا سيدتين وخمسة أطفال، أما الباقون فقد انتحروا بعد أن رفضوا الاستسلام.
[email protected]