علم لينين الثوري نقيض -الماركسية العلمية-!


طلال الربيعي
الحوار المتمدن - العدد: 6112 - 2019 / 1 / 12 - 06:32
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

هنالك مدارس ماركسية متعددة تسعى الى الاجابة على اسباب القهر والظلم والاستغلال طبقيا و التبعات المترتبة على ذلك اخلاقيا والى التغيير. ومن أكثر المدارس شيوعا, وخصوصا في منطقتنا, هي ما يسمى الماركسية التي يطلق عليها أحيانا كثيرة "ألماركسية العلمية", الحتمية, أو البنيوية. والعلم هنا هو صنو لعلم نيوتن وحتميته الميكانيكية.
وهذه الماركسية تجمع بين تحليل الهياكل الاجتماعية والاقتصادية المحددة تاريخيا مع إيمان راسخ بكونها "مذهبا!" علميا. واعتقادها الجازم بكونها المدرسة الوحيدة, علميا او معرفيا بالاحرى, المؤهلة لاحتكار الحقيقة يجعلها صنوا دنيويا للديانات السماوية ويقينياتها او كهنوتياتها. الماركسية العلمية تضحي بألانسان وكأن العلم في حاجة الى قربان! العلم هو الدين الجديد. والحدود بين الدين والعلم, فلسفيا وعمليا, تضمحل وتتلاشى, وخاصة فيما يخص دور الانسان في صنع تاريخه. فالدين, في اعم صيغه, يؤمن ان مصير الانسان محدد سلفا من قبل الله او الآلهة او قوة علوية. وفضيلة الانسان تكمن في ان يكون الوعاء الذي تتحقق من خلاله الارادة الألاهية. ومنطق هيغل العلمي, في كتابه علم المنطق, والمثالي, نفسه يعتقد ان الانسان تجسيد للروح المطلقة, للارادة العلوية, سواء تجسد ذلك في آلهة او كقوانين طبيعية تحكم الكون والوجود والانسان معا. الماركسية العلمية هي هيغلية مثالية تتسربل بسربال العلم المادي, فهي التي توفر التبرير النظري لالغاء الانسان وجعله مجرد اداة يحتم عليها الانصياع الى قوانين العلم الطبيعي ولا خيار لها في تجنب الانصياع لقوانين هذا العلم وحتميته او ارادته الحديدية, وليس من صدفة ان احزاب الشيوعية العلمية تقدس الانضباط الحزبي الحديدي من خلال مفاهيم سلطوية تراتبية مثل "الديموقراطية المركزية" او التركيب التنظيمي "أللجنة المركزية", التي تحيل اعضاء الحزب الآخرين الى دمى ديكوراتية! فهل هناك من يستطيع تجنب الانصياع الى قانون طبيعي كقانون الجاذبية؟ وحتمية العلم حلت هنا محل ارادة الله. وكلاهما كلي القدرة. العلم, او شئ من هذا القبيل, هو الاسم الآخر الذي يمكن اضافته الى اسماء ألله الحسنى التسعة التسعين:
" روى البخاري... ومسلم... عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ).
استدل بعض العلماء (كابن حزم رحمه الله) بهذا الحديث على أن أسماء الله تعالى محصورة في هذا العدد."
وهذا الذي قاله ابن حزم رحمه الله لم يوافقه عليه عامة أهل العلم ، بل نقل بعضهم (كالنووي) اتفاق العلماء على أن أسماء الله تعالى ليست محصورة في هذا العدد . وكأنهم اعتبروا قول ابن حزم شذوذاً لا يلتفت إليه."
السؤال
هل أسماء الله تعالى الحسنى تسعة وتسعون اسماً فقط ؟ أم أنها أكثر من ذلك
https://islamqa.info/ar/answers/41003/%D8%A7%D8%B3%D9%85%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87-%D8%AA%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%89-%D8%BA%D9%8A%D8%B1-%D9%85%D8%AD%D8%B5%D9%88%D8%B1%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%AA%D8%B3%D8%B9%D8%A9-%D9%88%D8%AA%D8%B3%D8%B9%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D8%B3%D9%85%D8%A7

ونحن نذهب الى ما ذهب اليه "النووي" ليبلغ العدد مئة على الاقل, وذلك فقط لان العدد مئة يذكرنا بقوانين بريمر المئة التي تبناها الحزب الشيوعي العراقي باسم الماركسية, الماركسية العلمية. وهذا بحد ذاته دلالة لا يمكن ان يتسرب اليها الشك في ابتذال هذا النوع من الماركسية وانتماء منتسبيها باسم العلم, الى صفوف النيوليبرالية الفاشية كنظام اقتصادي سياسي يضع قناعات عدة حسبما تقتضي به المناسبة ولتحقيق اقصى قدر من التمويه. والقناع قد يكون الزعم باعتناق الماركسية العلمية او الاسلام السياسي او خلافهما.

وان تخلي الحزب عن اللينينية كان يهدف الى فسح المجال للماركسية العلمية, الماركسية التي تصبح صنوا لمثالية الدين او المثالية الهيغلية, ان تكون هي الماركسية المتسيدة (اقرأ: المستبدة!). وكل ذلك يجري باسم العلم. ولذا كان تحصيل حاصل ان تكون حلقات السردية كالتالي
الحزب يتخلى عن اللينينية, وهذا نتج عنه ان
الحزب يشترك في مجلس حكم بريمر ويتبنى سياسات النيوليبرالية الفاشية (الجديدة), وهذا نتج عنه ان
الحزب يدخل في تحالف مع الاسلام السياسي الفاشي
والإسلام السياسي هو الوجه الآخر للرأسمالية المتوحشة!
http://www.m.ahewar.org/s.asp?aid=178734&r=0

فكما يقول بروفسور علم الاجتماع في جامعة باريس الثامنة Eric Fassin
I argue that it makes sense to speak of a “neo-fascist moment” of neoliberalism
The neo-fascist moment of neoliberalism
https://www.opendemocracy.net/can-europe-make-it/ric-fassin/neo-fascist-moment-of-neoliberalism
"...ان النيوليبرالية تحتوي على عناصر الفاشية الجديدة"
وحتى ان قادة الحزب قد عبروا عن رؤيتهما المستقبلية هذه وان كان ذلك بصيغ مراوغة وبتناقض لا مثيل له.

وبتعبير آخر, ان خيار الحزب كان حصيلة اجراءات براغماتية للتخلي عن التزاماته بالدفاع عن الانسان, الانسان الكادح, وكان من دواعي اختياره هو منطق الماركسية العلمي في ان الماضي او الحاضر يحدد المستقبل: انهيار الاتحاد السوفيتي يحدد مستقبل الحركة الشيوعية, وذلك وعلى عكس ما ارتأى لينين, الذي تخلى الحزب عن تعاليمه, في ان المستقبل يتحكم في الحاضر, وبذلك لا مكان للحتمية الميكانيكية في علم لينين ولا مكان فيه لتراتبية زمنية جامدة في حتمية الدخول في مرحلة للانتقال الى مرحلة اخرى, كالدخول في الرأسمالية كمرحلة ضرورية لا بد منها للعبور الى الاشتراكية. وتوصيفة هؤلاء الماركسيين العلميين للمراحل التطورية هي توصفية لاتطورية في واقعها: انها مماثلة, في جوهرها, لتوصيفة الاطباء ألعدليين لمراحل تحلل الجسم البشري وموته تدريجيا بعد اعلان وفاته, اي ان المراحل تحدث في مراحل يعقب بعضها البعض زمنيا ولكنها ليست مراحل تطورية. انها مراحل التحلل والتفسخ. انه اغتصاب لغوي اعتبار هذه المراحل تطورا فقط لان بعضها يلي البعض الآخر. ومعرفة الاطباء العدليين تساعد في تحديد سبب ووقت الوفاة من اجل اكتشاف سبب الوفاة والتعرف على حيثيات الموت او الجريمة المحتملة المسببة في الموت. وما يقدمه الاطباء ألعدليون للبشرية هو فائدة ونعمة, يمكن القول, وعلى عكس ما يقدمه الماركسيون العلميون, كما في حالة الحزب المذكور اعلاه, او غيره من الستالينيين, الذي هو ضرر ونقمة. واني لا اريد الدخول هنا في تفصيلات جزئية للاستدلال على الفروق بين الاثنين, علمية الاطباء العدليين و(لا)علمية الماركسيين العلميين, ونحن لا ننسى لحظة واحدة ان العلم هنا بعرفهم هو العلم الطبيعي وميتافيزيقيته هي ميتافيزيقية زمن نيوتن, اي العبور من الماضي الى المستقبل عبر الحاضر. والحاضر بعرف ميتافيزيقية نيوتن هو زمن تافه, مجرد محطة او لحظة عابرة تتلاشي زمنيتها في لحظة نطق الكلمة او كتابتها. فلا يمكن القبض بايدينا او حواسنا على الحاضر, كما لا يمكننا ان نحكم مسك الماء بقبضة ايدينا, لاننا في مجال سعينا هذا سنجد انفسنا قد تخطينا اللحظة الراهنة الى لحظة مستقبلية. اللحظة الراهنة لا وجود لها في الفيلم السينمائي لان الفيلم يجمع كل اللحظات في استمرارية متواصلة تنفي اللحظة. ونفي اللحظة يجعلنا ننصاع رغم ارادتنا الى منطق كاتب السيناريو الذي يقرر محتوى الخاتمة, والخاتمة تصبح خاتمة لاعتبارات براغماتية ولا تشكل خاتمة الا لاعتبارات قسرية.

وبعبارة اخرى, ان الماركسية العلمية تضحي بالحاضر لاجل المستقبل الموعود. انها تقول للناس اني اعدكم سعادة جنات الفردوس, شعب سعيد, اذا اتبعتم قوانين العلم ومعطيات العقل, والعقل بالطبع هو (لا)عقل الحزب الذي يفكر باسم الانسان الملموس من اجل الانسان المجرد. والحزب يصبح مرجعية في تحديد ماهية الانسان وصيرورته في طريقها الى الاكتمال, الى الشيوعية, وكما تحدد الكنيسة او المرجعية الدينية احتكارها الوحيد لتفسير النصوص الدينية المقدسة. والانسان يكف في ان يكون نصا سرديا وغير قابل للتأويل المتعدد ويفقد بذلك سرديته الخاصة و يتجرد من خصوصيته, او ان خصوصيته قد اصبحت بلا معنى, او كخصوصية الاموات والجثث البشرية التي قد تكون لها حرمة, ولكن ليس لها من خصوصية وهي اساسا ليست في حاجة لها, اللهم الا اذا ثبت النقيض بقيام الاموات واعلامنا بالعكس.

والماركسية العلمية تفقد علميتها و قدرتها في التحليل المعرفي من خلال عاملين مهمين:
الاول, عدم الاعتقاد بان الكلمات قوة مادية قادرة على التغيير بمحض كونها كلمات, وذلك لاعتبارات مبتذلة بخصوص تحكم العامل الاقتصادي او التحتي في العامل الفوقي. وهذه الاعتبارات لا تصمد امام حقائق العلم الذي تسعى هذه الماركسية الى التلبس بلباسه. والدلائل على ذلك عديدة, واني اختار احدها من بحوث الطب النفسي. فالبحوث في مجال العلاج النفسي الذهني , اي استخدام الكلمات والافكار, تثبت ان قدرته في علاج الكآبة والقلق تساوي قدرة عقارات مضادات الكآبة او القلق في العلاج, ان لم تتفوق عليها.
.Does CBT Work?
http://cogbtherapy.com/how-effective-is-cbt-compared-to-other-treatments/
ويمكن تبين التغييرات العصبية التي يحدثها العلاج النفسي في دماغ المريض من خلال فحص الرنين المغناطيسي الوظيفي MRTf. ولكن الطب النفسي الرسمي, النيوليبرالي , يفضل كثيرا استخدام العقاقير بدلا من العلاج النفسي, وذلك انسجاما مع منطق وسياسات شركات الادوية. فالحكومات تحقق هي الاخرى ارباحا هائلة من خلال الضرائب المفروضة في منفعة متبادلة, وذلك على عكس بحوث العلاج النفسي التي تفتقر عادة الى تمويل مالي حتى بالحد الادنى لنفس الاسباب.
المزيد في:
طلال الربيعي - الطب النفسي النيوليبرالي
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=505656

والماركسية العلمية تلغي سحر الكلمة وفعلها وتحيل المادية الديالكتيكية بذلك الى مادية ميكانيكة, ميكانيكية فويرباخ, ميكانكية الاحياء ألاموات, الزومبيات, والزومبيات لا تستطيع صناعة التاريخ لكونها كيانات بيولوجية او تركيبات ميكانيكية لاحد طرفي ثنائية ديكارت الكارتيزية. وزومبيات الماركسية العلمية هي وجه العملة الآخر لزومبيات الرأسمالية. وواقع ان الزومبيات لا تملك مادية تاريخية حدى بالبعض, وان كان لاسباب مناقضة, للكلام عن نهاية التاريخ.

ثانيا, ان الفصل الجامد بين الفكرة المسبقة والشئ الملموس هو فصل ميكانيكي لا وجود له في الواقع. فالنجار لا يستطيع صناعة كرسي اذا لم تتوفر في عقله مسبقا صورة او معنى الكرسي. اي ان المجرد يتحقق في الملموس ولكن فقط بعد توفر المفهوم المجرد في العقل. ونفس الكلام ينطبق على الانتفاضات والثورات الاجتماعية. فالثوار ينبغي ان يكون لديهم تصورا مجردا او عقليا عن الثورة قبل الشروع فيها. وهذا يناقض المفهوم التقليدي للزمن, حيث ان الزمن المستقبلي يحدد احداثيات وحيثيات الماضي وتصبح الحتمية هي القول بعدها وليس قبلها "أن احداث الماضي حتمت قيام الثورة!" ولكن احداث الماضي يتم تسييرها والتحكم بها من قبل الثوار بنمط معين من اجل جعل صيرورة الثورة صيرورة حتمية. اي ان الحتمية هي اسقاط مستقبلي على الماضي. وهذا النوع من الحتمية جسدته ثورة اكتوبر بقيادة لينين. وهذا يستدعي معالجة مطولة بعض الشيء قد اتوفر عليها لاحقا.