سيرورة تطور نمط الإنتاج الرأسمالي في الهند نحو الامبريالية


عبد السلام أديب
الحوار المتمدن - العدد: 6110 - 2019 / 1 / 10 - 02:23
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

تشكل الورقة التالية خلاصة ثلاث زيارات لي الى الهند سنوات 2011 و2017 و2018، وقد تجمعت لدي خلال هذه الزيارات الثلاث عدد من المراجع والمصادر حول سيرورة تطور نمط الإنتاج الرأسمالي نحو الامبريالية بالهند، كما ساهمت نقاشات وندوات حضرتها بالهند، نقابية وسياسية، حول نفس الموضوع، في توضيح رؤيتي لطبيعة هذه القوة الامبريالية الصاعدة في شبه القارة الهندية والتي كانت تسمى تحت الاستعمار الانجليزي بجوهرة التاج البريطاني. ورغم البوليميك الحامي الوطيس الذي جرى بيني وبين رفيقين عضوي الحزب الشيوعي الهندي، الماركسي اللينيني، النجمة الحمراء، Shri K.N. Ramachandran وSanjay Singhvi حول مدى انطباق معايير لينين التي وضعها لتمييز طبيعة البلدان الامبريالية على الهند حتى يمكننا وصفه بالبلد الامبريالي الجديد أم لا، إلا أنني اشكر لهما سعة صدرهما وحفاوتهما البالغة واتاحتهما لي فرصة التعرف عن قرب على المجتمع الهندي ومساره السياسي والاقتصادي والاجتماعي. التقرير الحالي عبارة عن خلاصة موجزة حول مسار الهند الاقتصادي تحت الاستعمار البريطاني تم مساره عقب الاستقلال الى اليوم، فهي مجرد محاولة لفتح النقاش حول سيرورة بلدان الاستعمار الجديد المتخلفة منها والمتقدمة. إذن فيما يلي مضمون التقرير:

من بين القضايا المهمة التي تبعت على تعميق التفكير والنقاش وطرح التساؤلات لاستخلاص الدروس، هناك سيرورة نمط الإنتاج الرأسمالي في بلدان العالم الثالث سواء منها المتقدمة مثل دول البريكس ودول الميست أو البلدان التي لم تزدد سوى امعانا في التخلف وهي تحاول تطوير نمط الإنتاج الرأسمالي داخلها. أغلب القراءات حول الموضوع تظل ذات طبيعة استقرائية ملساء لا تذهب الى عمق الأشياء بل تكتفي بوصف سطحي لها، رغم توفر العديد من الأدوات النظرية التي يمكن من خلالها اجراء تحليل ملموس للواقع الملموس وبالتالي التعرف على سيرورة نمط الإنتاج الرأسمالي في كل بلد على حدة والوقوف على الاختلافات التي تميز كل سيرورة منها على حدة.

سأحاول فيما يلي تقديم قراءة في سيرورة نمط الإنتاج الرأسمالي بالهند خاصة وأن هذا البلد ينتمي اليوم إلى بلدان البريكس BRICS (البرازيل، روسيا، الهند، الصين، افريقيا الجنوبية) وهي المجموعة الاقتصادية التي يوجد مقرها الحالي بشنغاي بالصين والتي عقدت مؤخرا (24 يوليو 2018) مؤتمرها السنوي العاشر بجوهانسبورغ بجنوب افريقيا.

وإذ تشكل الهند نمطا جديدا من البلدان الامبريالية الصاعدة والتي تتجمع فيها كافة المعايير التي عددها لينين والتي قرر على أساسها بأن الامبريالية تشكل المرحلة العليا للرأسمالية، فيمكن الاعتماد على نفس المنهج في التحليل لمعرفة مدى توفر نفس المعايير في باقي بلدان البريكس وبلدان الميست MIST (المكسيك، اندنوسيا، كوريا الجنوبية، تركيا). إن التحليل المادي الملموس والديالكتيكي لطبيعة هذه القوى الاقتصادية الرأسمالية الجديدة من طرف الماركسيين اللينينيين، يمدهم بأدوات نظرية للإحاطة بطبيعة تطور نمط الإنتاج الرأسمالي في عالم اليوم والذي يختلف طبعا عن رأسمالية المنافسة الحرة التي سادت خلال القرن التاسع عشر والتي حللها كارل ماركس بإسهاب في كتابه رأس المال ويختلف أيضا عن حقبة بداية القرن العشرين وهي مرحلة بداية ظاهرة الامبريالية انطلاقا من سنة 1898 والتي حللها لينين أيضا بإسهاب في كتابه الرائع الامبريالية هي المرحلة العليا للرأسمالية.

وسأتناول من خلال هذه الورقة النقاط التالية:

1 – مرحلة الهيمنة الشكلية لرأس المال على العمل خلال فترة الاستعمار البريطاني للهند

2 – مرحلة الهيمنة الفعلية لرأس المال على العمل عقب استقلال الهند سنة 1947

أولا: من رأسمالية المنافسة إلى رأسمالية الاحتكارات والامبريالية:

" لكي تنشأ علاقة رأس المال، بشكل عام، يفترض مسبقا مرحلة تاريخية معينة وشكل إنتاج اجتماعي. ويجب أن تتطور وسائل الاتصال والإنتاج والاحتياجات، أولاً، في إطار نمط سابق للإنتاج، تتجاوز العلاقات القديمة للإنتاج، فتفرض تحولها إلى علاقة رأس المال. لكنها تحتاج فقط إلى أن تتطور بشكل كافي يسمح بخضوع شكلي للعمل الى رأس المال. وعلى أساس هذه العلاقة المتغيرة، تتطور مع ذلك، تحولات محددة في طريقة الإنتاج، فتنشأ قوى إنتاج مادية جديدة، والتي على أساسها يتطور نمط الإنتاج الجديد في البداية، ويخلق في الواقع ظروفًا حقيقية جديدة لنفسه. وبذلك تحدث ثورة اقتصادية كاملة. فمن ناحية، تنشأ، لأول مرة، شروط حقيقية لهيمنة رأس المال على اليد العاملة واستكمالها وإعطائها شكلا مناسبا، ومن ناحية أخرى، تنشأ، في إطار قوى إنتاج العمل، التي تطورت بفضله في تعارض مع العامل، في ظل شروط إنتاج وعلاقات اتصال، شروط حقيقية لنمط إنتاج جديد، حلت محل الشكل العدائي السابق لنمط الإنتاج الرأسمالي، وتضع الأساس المادي لسيرورة جديدة لشكل الحياة الاجتماعية التي تم تصميمها حديثا، مع تكون شكل اجتماعي جديد.(1) "

يقدم لنا كارل ماركس من خلال هذه المقولة الأساس المادي الذي تتحول في اطاره العلاقات الاقتصادية والاجتماعية من نمط انتاج معين الى نمط انتاج رأسمالي. فهذا الشكل من التحول الذي وصفه كارل ماركس في هذا الإطار هو ما حدث فعلا خلال سيرورة انتقال طويلة في أوروبا من نمط انتاج اقطاعي نحو نمط الإنتاج الرأسمالي. فقد طورت البرجوازية في ظل نمط النتاج الاقطاعي عددا من تقنيات وسائل الاتصال والإنتاج نتجت عنها حاجيات جديدة داخل المجتمع القائم، وهو ما مكن من توفير شروط علاقات اقتصادية جديدة تمثلت في علاقات إنتاج رأسمالية، ونشوء قوى انتاج مادية جديدة، دفع تراكمها نحو حدوث ثورة اقتصادية كاملة. على أساس هذه التحولات نشأت ظروف اجتماعية جديدة أخضعت الطبقة العاملة الناشئة تدريجيا شكليا في مرحلة أولى ثم فعليا في مرحلة ثانية لهيمنة الطبقة البرجوازية الصاعدة اقتصاديا وسياسيا.

نفس السيرورة من نشوء نمط الإنتاج الرأسمالي ستحدث في المجتمع الهندي بشكل قسري وشكلي أولا انطلاقا من هيمنة الاستعمار البريطاني على شبه القارة الهندية من خلال تكسير نمط الإنتاج الاقطاعي القائم لصالح نمط الإنتاج الرأسمالي. فما هي النوازع التي حركت الهيمنة الاستعمارية البريطانية على الهند انطلاقا من سنة 1856؟

من المعلوم أن البرجوازية البريطانية خلال القرنين الثامن والتاسع عشر كانت رائدة في تطوير نمط الإنتاج الرأسمالي مع انطلاق الثورة الصناعية واكتشاف العديد من التقنيات والآليات لتحديث قوى الإنتاج، نشأت عنها علاقات انتاج متطورة بين طبقة بروليتارية متحولة من فلاحي الاقطاعيات الى عمال المدن وطبقة برجوازية مهيمنة وهو ما أعطى زخما سياسيا موازيا ظهرت على أساسه كافة نظريات الاقتصاد السياسي ونظريات الاشتراكية العلمية. ونتيجة للازمات الدورية الحادة لنمط الإنتاج الرأسمالي منذ بداية القرن التاسع عشر، فإن الدولة البرجوازية بدأت تتطلع أكثر فأكثر نحو التوسع الاستعماري من أجل تصدير ازماتها أولا وللهيمنة على المصادر الأولية والايدي العاملة الرخيصة في المستعمرات ثانيا وتحول هذه المستعمرات الى أسواق قابلة لاستيعاب الإنتاج الزائد داخل بريطانيا ثالثا.

وإذا كانت بريطانيا من بين البلدان الاستعمارية الامبريالية الأولى بحيث أصبحت تنعت بالإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس نظرا لترامى مستعمراتها على مدار الكوكب بكامله، فإن لينين استطاع انطلاقا من مثل هذه التجربة أن يحلل الظاهرة الامبريالية في تمظهراتها الحديثة واستطاع تعريفها وتحديد معاييرها المميزة في كتابه "الامبريالية أعلى مراحل الامبريالية". فقد حدد لينين خمسة معايير تميز المرحلة الامبريالية لنمط الإنتاج الرأسمالي وهي كالآتي(2):

1-أن يبلغ تركيز الإنتاج ورأس المال درجة عالية من التطور تنشأ معه الاحتكارات التي يصبح دورها حاسمًا في الحياة الاقتصادية.

2 –أن يندمج رأس المال المصرفي مع رأس المال الصناعي، فينشأ، استناداً إلى ذلك رأس المال المالي وأوليغارشية مالية؛

3 –أن يصبح لتصدير رأس المال، بخلاف تصدير السلع، أهمية خاصة للغاية؛

4 –أن تتشكل الاتحادات الدولية الاحتكارية للرأسماليين الذين يقسمون العالم بينهم؛

5 – أن ينتهي التقسيم الإقليمي للعالم بين أكبر القوى الرأسمالية.

ويؤكد لينين على أن السياسات الاستعمارية والامبريالية لا تشكل اختلالات مرضية وأنها قابلة للعلاج في الرأسمالية، كما يعتقد كاوتسكي وانما تشكل نتيجة حتمية تنبثق عن أسس الرأسمالية نفسها(3).

ثانيا: سيرورة الاقتصاد الهندي في ظل هيمنة رأس المال الشكلية على العمل:

1 - تصدير رأس المال في اتصال مع زيادة تصدير السلع يعني تحقيق أرباح هائلة للاحتكارات. في البلدان الاستعمارية، كانت قوة عمل العامل رخيصة جدا، حيث تدفع أجور زهيدة للتجويع الدائم للعمال لتكريس خضوعهم الشكلي لرأس المال(4). وفي بعض الأحيان لا يتم دفع أجور هؤلاء العمال على الإطلاق، بل يتلقون في المقابل الطعام والسكن فقط. وقد كانت نتائج هذه الممارسات كارثية في الهند.

2 – وقد أشار كير هاردي الكاتب والعضو في حزب العمال البريطاني النتائج الكارثية المترتبة عن السياسة الاستعمارية البريطانية، في عام 1910، إلى أنه "نتيجة لسياستنا في الاستغلال فإن الشعب الهندي غرق في حالة من التعاسة والبؤس تحت الحكم الاستعماري لشعب "متحضر"، ربما لم يصلها أبدا أشخاصا آخرين على وجه الأرض"(5).

3 – وحول حصيلة النهب الاستعماري البريطاني للهند فقد جاء في نفس المصدر الى أنه، "من الواضح أن الاستثمار لم يحقق أرباحًا كبيرة في مكان آخر، منذ بداية تاريخ العالم، كما حدث بالنسبة لنهب الهند(6).

كما أكد مدير شركة الهند الشرقية، العقيد سايكس أمام لجنة تقصي الحقائق في مجلس العموم البريطاني في عام 1848، على أن الأرباح السنوية، التي تصل الى 3.5 مليون جنيه إسترليني، جعل الهند قادرة على دفع هذا الكرم بفائض من الصادرات على الواردات.

4 - وقد تطور مبلغ الأرباح الإجمالية الناجمة عن الاستغلال الاستعماري والمحولة سنويا عبر بند "نفقات داخلية" من قبل الحكومة الاستعمارية البريطانية كما يلي: بالمليون جنيه إسترليني(7):

السنوات – النفقات الداخلية – الفائض في الصادرات
1851 – 2,5 – 3,3
1901 – 17,3 – 11,0
1913-1914 – 19,4 – 14,2
1933-1934 – 27,5 – 69,7


5 – تم تحقيق نهب الشعب الهندي وتحويل ما تم نهبه إلى أموال سائلة، حيث يتم اعادتها من جديد إلى الهند كصادرات رأس المال. وكان الغرض من ذلك هو غزو الهند بواسطة استثمارات كبيرة لتحسين عملية اختراقها بالتجارة لاحقا ومحاولة فرض هيمنة رأس المال شكلا تم فعلا على العمل تدريجيا. وفي هذا الاطار تم بناء شبكة من السكك الحديدية ومن الطرق؛ كما تم تطوير نظام التلغراف، ونظام بريدي موحد، ونظام مصرفي أوروبي، والهدف هو زيادة اعتماد الهند على إنجلترا وتكثيف استغلال الكادحين إلى أقصى درجة ممكنة بمعنى تحقيق خضوع شامل للعمل لرأس المال.
وقد تم تحويل رأس المال الإنجليزي الذي تم استثماره في الهند لأول مرة إلى أموال ونقلها إلى إنجلترا كعائدات استعمار مجزية؛ ثم يعاد استثمار تلك الأموال كصادرات رأس المال نحو الهند وتدخل في دفاتر المحاسبة على أنها "ديون عمومية" على الشعب الهندي، والتي، يأتي في مقدمتها، دفع معدلات فوائد مرتفعة وأرباحًا جراء تلك الديون.

6 – وقد توزع الدين العمومي في الهند كما يلي(8): (بملايين الجنيهات الإسترلينية)

السنوات – الديون الهندية – الديون الهندية اتجاه بريطانيا – المجموع
1856 - - 4
1858 – 70
1860 - - 30
1876 – 140 -
1880 - - 71
1900 – 224 - 133 - 357
1913 – 274 - 177 - 451
1939 – 532 - 352 - 884


7 - تشكلت الاستثمارات البريطانية غير المباشرة لرأس المال، والتي تم تنفيذ الجزء الرئيسي منها، من خلال استغلال وحشي للشعب الهندي، في حين كانت الصادرات البريطانية المباشرة لرأس المال صغيرة جدا، باستثناء السنوات التي تلت الحرب العالمية الأولى مباشرة، عندما تدفق رأس المال الإنكليزي إلى الهند تطلعا نحو المشاركة في الأرباح الهائلة.

8 - وفي عام 1920، قفز متوسط أرباح أكبر مصانع القطن إلى 120 في المائة، وارتفعت أرباح الأسهم بنسبة تصل إلى 200 وإلى 365 في المئة. كما بلغ متوسط أرباح مصانع الجوت: 140 في المائة، وبلغ أحيانا حتى 400 في المائة – وهي أرباح هائلة! حيث كان 41 مصنعا للجوت يوجد تحت السيطرة البريطانية، بإجمالي رأس مال يبلغ 6.1 مليون جنيه إسترليني، وبلغت مجتمعة 22,9 مليون جنيه إسترليني ما بين 1918 إلى 1921. بالإضافة إلى ذلك، تم إدخال 19 مليون جنيه في دفتر الحسابات كاحتياطي-أي 42 مليون جنيه في أربع سنوات فقط.

9 – وقد جذبت هذه الأرباح الهائلة رؤوس الأموال البريطانية. حيث ارتفعت صادرات رؤوس الأموال نحو الهند بسرعة، إلا أنها تراجعت مرة أخرى بسرعة خلال الأزمة اللاحقة. وإذا قارنا تصدير رأس المال البريطاني نحو الهند وسيولته مع تصدير رأس المال إلى جميع البلدان الأخرى في الخارج، فسنحصل على الصورة التالية (بملايين الجنيهات الإسترلينية):

الفترة السنوية – رؤوس الأموال البريطانية المصدرة الى الخارج – رؤوس الأموال المصدرة الى الهند
1908 – 1910 – 172,3 - 14,7
1921 – 1910 – 129,0 - 30,2
1925 – 1927 – 120,9 - 2,1
1932 – 1934 – 135,1 - 4,2


10 - أدى النهب البريطاني الرهيب للشعب الهندي في ظل الهيمنة الشكلية لرأس المال على العمل إلى انتفاضات عفوية، والتي تم إخمادها بواسطة القمع الوحشي. حيث أصبح التعذيب والقتل والإعدام الجماعي شأن يومي عادي. وحيث لم تنشأ حركة وطنية منظمة بعد. لكن هذا الوضع سيتغير مع تطور الرأسمالية في المستعمرات نفسها، حيث سيتحقق تدريجيا اخضاع العمل فعليا لرأس المال ولو بدرجات متفاوتة وفي رقع جغرافية محدودة. فتصدير رأسمال من قبل الامبرياليين أحدث تصديرا للرأسمالية أيضا إلى المستعمرات، مما أدى إلى تقويض وتدمير النظام الإقطاعي الاجتماعي السابق وتحويل البنية الطبقية. ومع هيمنة البرجوازية الشكلية في مرحلة أولى ثم الفعلية في مرحلة ثانية، نشأت وتطورت بروليتاريا صناعية، حيث أصبحت البرجوازية والبروليتارية الطبقتين الرئيسيتين في المستعمرات، والتي تطورت بشكل حتمي نحو الاصطدام ومواجهة الإمبريالية. وهكذا خلقت الإمبريالية حفاري قبرها أيضاً في المستعمرات.

11 - في بداية القرن العشرين، تم تقسيم معظم بلدان آسيا وأفريقيا بين القوى الاستعمارية الإمبريالية المهيمنة آنذاك. وظلت فقط ثلاث بلدان كبيرة هي الصين وايران وتركيا محافظة على استقلالها كدول، لكنها في الواقع ظلت بلدانا شبه مستعمرة فيما يتعلق بقضايا الاقتصاد وتخضع بالتالي لإملاءات الدول الإمبريالية.

12 - حلل لينين البلدان أشباه المستعمرات كما يلي:
"إن رأس المال المالي أصبح قوة كبرى، ويعتبر قوة حاسمة، ويمكن القول، أنه قادر في جميع العلاقات الاقتصادية وفي جميع العلاقات الدولية، أن يخضع لنفسه، وفي الواقع أنه قادر أن يخضع لنفسه، حتى الدول التي تتمتع بأكبر استقلال سياسي. سنرى أمثلة على ذلك. بطبيعة الحال، أن يحرز رأس المال المالي على وضع "أفضل"، يستمد منه أكبر ربح، وهو شكل من أشكال الخضوع الذي يترتب عندما تفقد البلدان والشعوب الخاضعة لاستقلالها السياسي. وفي هذا الصدد، تقدم البلدان شبه المستعمرة مثالاً نموذجياً "للمرحلة الوسطى". من الطبيعي أن يصبح نضال هذه البلدان شبه مستعمرة مرّاً بشكل خاص في حقبة الرأسمال المالي، عندما تكون بقية دول العالم قد قسمت بالفعل(9).

13 - قاتلت البلدان الإمبريالية بعضها ضد بعض في هذه الدول التي تنقسم إلى شبه مستعمرات لتحديد "مناطق نفوذها"، أي حصتها في الاستثمار الرأسمالي. وكانت بلدان أمريكا اللاتينية التي فازت باستقلالها كدول في النصف الأول من القرن التاسع عشر بسبب صراعها ضد الاستعمار الإسباني والبرتغالي المتهالكان، خضعت هي أيضاً للقوى الإمبريالية في أوروبا وأمريكا الشمالية. وأخيراً، في أوروبا أيضاً، تمت سرقة استقلال عدد كبير من الدول والتي عانت من الاضطهاد الوطني، ولا سيما داخل عدد من الدول مثل روسيا والنمسا والمجر.

14 - كما أدى صعود البرجوازية والبروليتاريا في المستعمرات إلى تحويل المقاومة العفوية وغير المنظمة للشعوب الاستعمارية ضد عبوديتها، إلى حركة وطنية واعية لا ترغب بالسماح للمجتمع الإقطاعي القديم بالعودة بل قامت بإعداد ثورة برجوازية وطنية ديمقراطية حديثة.

15 - كان لثورة عام 1857 في الهند طابع انتفاضة القوى الإقطاعية المحافظة التي كانت تخشى فقدان كافة حقوقها وامتيازاتها القديمة. لكنها كانت تشعر أيضا بالقلق من مشاركة الجماهير، لكنهم فعلوا ذلك بطريقة غير منظمة وعفوية. وهو ما أظهر الاستياء العميق وسط الجماهير المستغلة والمضطهدة. وعقب الاضطرابات التي حدثت في 1857-1858 برزت البرجوازية الكومبرادورية الهندية الصاعدة بشكل متزايد.

16 - وفي عام 1880، أصبحت البرجوازية الهندية تمتلك 156 مطحنة غزل قطنية وتشغل 44.000 عامل. وفي عام 1900، ارتفع العدد إلى 193 مصنعًا للغزل مع 161.000 عامل. واضطرت هذه الشركات إلى مواجهة صعوبات جسيمة، والتي ساءت في عام 1882 عندما ألغت الحكومة الاستعمارية الرسوم الجمركية على استيراد المنتجات القطنية بناء على طلب صناعة النسيج الإنجليزية. وخلق هذا الواقع الجديد صراعا اقتصاديا أساسيا بين البرجوازية الهندية والبريطانية مما عزز الحركة الوطنية في الهند. وبعد ثلاث سنوات، تمثل الجواب السياسي في تأسيس المؤتمر الوطني الهندي كمنظمة قائدة للحركة الوطنية الهندية.

17 - في المستعمرات الأخرى أيضاً، ومع صعود طبقتين برجوازية وبروليتارية أصليتين، تطورت حركات التحرر الوطني التي ناضلت من أجل الاستقلال والتحرر من نير الإمبريالية. ولعبت صحوة البروليتارية دورا مزدوجا في النضال ضد الاستغلال والقمع الامبرياليتين. فقد دعمت، من ناحية، النضال من أجل الاستقلال الوطني والحقوق والحريات البرجوازية الديمقراطية، والدخول في تحالف مع البورجوازية الوطنية؛ وحاربت، من ناحية أخرى، ضد استغلال القوة العاملة وقمع حركات الإضراب، أي من أجل التحرر الاجتماعي.

18 - ومكنت الإضرابات البروليتارية والمظاهرات الجماهيرية والحركات الديمقراطية الوطنية من تقوية تأثيرها. وبدأت الطبقة العاملة في المستعمرات وشبه المستعمرات تلعب دورًا أكبر من أي وقت مضى، اقتصاديًا وسياسيًا. فعلى سبيل المثال، تزايدت في الهند، حركة الإضرابات في 1928-1929 إلى فقدان حوالي 44 مليون يوم عمل، وذلك أكثر مما كانت عليه خلال السنوات السبع السابقة. وفي بومباي وحدها، أضرب 150 ألف عامل في مجال النسيج عن العمل لمدة نصف عام.

19 – ويشكل الفلاحون وعمال المزارع في البلدان المستعمرة، الغالبية العظمى من الجماهير الكادحة. وقد دمرت الإمبريالية الأسس الاقتصادية لتلك المجتمعات العائلية، والتي كانت قائمة على قطاع الزراعة والحرف اليدوية، واستبدلت بها إنتاج السلع الرأسمالية.

20 -وتمكنت البروليتاريا، التي تطورت من فلاحين وحرفيين الى عمال بعدما تم تدمير مصادرها الاقتصادية، من تشكيل تحالف مع الجماهير الفلاحية لشن الصراع من أجل التحرر الوطني. وكان الهدف العام لهذا النضال هو التحرر من نير الإمبريالية وإلغاء بقايا الإقطاع. ويختلف نطاق نضال التحرر الوطني ونضجه السياسي بحسب طبيعة كل دولة مستعمرة على حدة، كما يعتمد على مستوى التنمية الاقتصادية وظهور بروليتاريا وتطورها كقوة تنظيمية.

ومن خلال تتبع تطور الطبقة البروليتارية في البلدان المستعمرة أمكن التمييز بين ثلاث أصناف، 1 – بروليتاريا محلية ضعيفة النمو في بلد مستعمر متخلف صناعيا؛ 2 – وبروليتاريا محلية ضعيفة كذلك في بلد مستعمر ضعيف التطور صناعيا؛ 3 – وبروليتاريا متطورة الى حد ما في بلد مستعمر صناعي.

22 - وبما أن البروليتاريا الصناعية هي من يشكل القوة الرئيسية في حركة التحرر الوطني وتضطلع بالدور القيادي، خاصة في تحالف النضال مع الفلاحين، فإن النضال الثوري ضد الإمبريالية يصبح أكثر شمولاً واتساقاً عندما تكون البروليتاريا أقوى وتسترشد بحزب ثوري.

23 – وقد تشكلت للبروليتاريين في المستعمرات وفي البلدان الإمبريالية، مصالح مشتركة في النضال ضد عدوهم الإمبريالي المشترك ومن أجل هدف مشترك هو الإطاحة بالهيمنة الإمبريالية.

24 – وقد اندلعت الحرب العالمية الأولى وثورة أكتوبر لعام 1917 في روسيا، وكذا الصراعات الثورية التي حدثت في أوروبا الوسطى، لتهز النظام الرأسمالي العالمي الإمبريالي. حيث تم تحرير روسيا والشعوب المقموعة سابقا في الإمبراطورية الروسية من نير الاستعمار.

25 – أما في أوروبا، فقد تطورت عدد من الدول البرجوازية الوطنية الجديدة مثل إيرلندا وبولندا وفنلندا، وهلم جرا. وفي المستعمرات وشبه المستعمرات، اندلعت النضالات الثورية للشعوب ضد الإمبريالية، وبرزت بها صراعات برزت فيها البروليتاريا بشكل أكثر وضوحا كقوة سياسية مستقلة.

26 – ويؤكد ستالين على الأهمية الدولية لثورة أكتوبر 1917 كما يلي(10):

1 - وسعت ثورة أكتوبر نطاق القضية الوطنية وتحولت من مجرد مكافحة القمع الوطني في أوروبا إلى مسألة الكفاح من أجل تحرر الشعوب المستعمرة والمستعمرات وشبه المستعمرة من الإمبريالية.

2 –كما فتحت إمكانات واسعة لتحررهم وإيجاد الطرق الصحيحة لذلك، وبالتالي سهلت إلى حد كبير قضية تحرير الشعوب المضطهدة في الغرب والشرق، وأدمجتها في تيار مشترك للنضال المظفر، ضد الامبريالية.

3 – كما أقامت جسرا بين الغرب الاشتراكي والشتات المستعبد، بعد أن خلقت جبهة جديدة من الثورات ضد الإمبريالية العالمية، تمتد من البروليتاريين في الغرب، من خلال الثورة الروسية، إلى شعوب الشرق المضطهدة.

27 - في عصر الثورة البروليتارية العالمية، التي بدأت مع ثورة أكتوبر، كانت كل حركة مناهضة للإمبريالية في البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة تشكل حليفا طبيعيا للبروليتاريا في البلدان الإمبريالية. لهذا السبب أكد ماو تسي تونغ(11) أنه على الرغم من أن نضال الصين المناهض للإمبريالية لا يزال يتسم بطبيعة ثورة برجوازية ديمقراطية، إلا أنه، شكل مع ذلك، ثورة برجوازية ديمقراطية من نوع جديد. فهي لم تعد تشكل جزءًا من الثورة البرجوازية العالمية القديمة، بل تشكل جزءا من الثورة العالمية الجديدة، الثورة العالمية البروليتارية الاشتراكية.

28 – وقد أدى سحق الاتحاد السوفياتي للفاشية الى تشكل ظروف مواتية للأغلبية العظمى من المستعمرات للحصول على استقلالها الوطني بعد الحرب العالمية الثانية. وقد شكل ذلك علامة على أن الإمبريالية بلغت حدا من الضعف لا يمكن الاستهانة به. كما أصبحت قيادات البروليتاريا في الكفاح من أجل التحرر الوطني، تشكل ضمانة بأن الثورة الوطنية الديمقراطية البرجوازية قد تصل إلى نتائج هائلة خلال فترة قصيرة في العديد من البلدان ومواقع السلطة للإمبريالية سابقا وبقايا الإقطاع التي تم القضاء عليها بشكل جذري. وعند اكتمال الثورة الديمقراطية للشعب في هذه البلدان، قد يتمكن حزب البروليتاريا من انجاز الثورة الاشتراكية وبناء الاشتراكية.

29 – في ظل السيرورة الثورية الجديدة التي تحققت بفضل ثورة أكتوبر 1917 والاستقلالات التي تحققت في العديد من البلدان المستعمرة تمكنت الهند بفضل مقاومة شرسة للمستعمر البريطاني لعبت فيه البروليتاريا الهندية والدعم السوفياتي السياسي من الحصول على استقلالها السياسي الشكلي سنة 1947 وانتقالها الى وضعية بلدان الاستعمار الجديد الخاضعة للنفوذ الامبريالي الخارجي.

ثالثا: سيرورة الاقتصاد الهندي في ظل هيمنة الرأسمال الفعلية على العمل:

1 - في بداية استقلالها عن الاستعمار البريطاني سنة 1947، قامت دولة الهند، ذات الكثافة السكانية المرتفعة، والغنية بالموارد الطبيعية، بتطوير قاعدة صناعية لإنتاج مواد التجهيز كاملة تقريبا، ساهم فيها تأميم الصناعات الأساسية والشركات الكبرى الرأسمالية. وبعد سنة 1956، ساهم الاستعمار الجديد للاتحاد السوفياتي في الحد في جزء كبير من التطور المستقل للبلاد. كما طورت الهند خلال هذه الحقبة كذلك سمات بيروقراطية رأسمالية تقوم على مؤسسات عمومية ذات قاعدة مادية صلبة ستشكل لاحقا الرأسمالية الاحتكارية للدولة.

2 – وقد شكلت سياسة ما يسمى "بالثورة الخضراء" رافعة لسياسة التصنيع الرأسمالي في القطاع الفلاحي. كما ألغى قانون 1976 نظام السخرة، وحرر العمال الزراعيين الضروريين لهذا التصنيع. كما شكل ذلك دافعا من أجل نمو هائل للسوق الداخلي الهندي لتصريف سلع الإنتاج والاستهلاك. وانطلاقا من هنا تأسست المجموعات الهندية الأساسية للمواد الأولية في قطاعات الاسفلت، والغاز الطبيعي والبترول والفحم والتعدين والألمنيوم. وتشكلت اغلبيتها انطلاقا من مقاولات عمومية كانت لا تزال تحت التبعية للبلدان الامبريالية على المستويين المالي والتكنولوجي.

3 - شكل انهيار الاتحاد السوفياتي الامبريالية الاجتماعية سنة 1991، مرحلة قطيعة حاسمة، تمكن الرأسمال المالي الدولي عقبها من فرض سياسته النيو ليبرالية على الهند كذلك(12). كما فتحت السياسة الاقتصادية الجديدة لوزير المالية، مانموهان سينغ، السوق الهندي الداخلي على السوق الدولي من خلال انخراطها في منظمة التجارة العالمية سنة 1995 وأيضا عن طريق تنظيم خوصصة القطاع العمومي الهندي. وقد سهل سينغ على أوسع مستوى الاستثمارات الخارجية وإقامة العديد من المناطق الصناعية المتخصصة والتي عرفت تزايدا بلغ عددها 421 منطقة صناعية سنة 2017، وتضمنت 4.456 مقاولة و1,7 مليون مستخدم(13).

4 - وسيفيد هذا البرنامج العمومي للخوصصة والمناطق الصناعية المتخصصة أيضا البرجوازية الاحتكارية الهندية التي كانت تتوفر على رؤوس أموال صناعية غنية، وبنكية وتجارية وفلاحية. وقد تزايدت حصة الهند الدولية من الناتج الداخلي الإجمالي بشكل ثابت ما بين 1995 و2007 حيث انتقلت من 1,2 إلى 2,1 في المائة – أي بزيادة بنسبة 75 في المائة.

5 - وفي سنة 2004، مباشرة بعد انتخاب صونيا غاندي في منصب الوزير الأول، عرفت بورصة الهند أكبر انهيار لها منذ 135 سنة. ويكمن السبب في خوف رأسمال المالي الدولي في أن الحكومة ستتخلى عن سياسة الخوصصة. أمام هذه الوضعية قامت البرجوازية الاحتكارية الهندية، بالضغط من أجل أن تتخلى صونيا غاندي عن الرئاسة. وقد عرفت البورصة قفزة صاروخية حالما تم تسمية مانموهان سينغ وزيرا أولا. وفي إطار صراع المنافسة بين البرجوازية الاحتكارية الهندية مع الاحتكارات الدولية من أجل مراقبة الاقتصاد والدولة، تمكنت الاحتكارات الهندية الرئيسية تدريجيا من الحصول على نفود واستقلال حاسم.

6 -ونتيجة لذلك، تطورت الهند تطورا رأسماليا هائلا لتحتل دور متزايد على المسرح الدولي. وفي سنة 2006 اعترفت الولايات المتحدة الامريكية بالهند كسادس قوة نووية. وقد خول النمو السريع لقطاع الاتصالات والانترنيت، امتيازات تنافسية خاصة للاحتكارات الهندية التي تتوفر على العديد من الاختصاصيين ذوي التكوين اللامع في الاعلاميات.

7 -وفي تناقض صارخ بالمقارنة مع المناطق الهندية الصناعية عالية التقانة، لا زالت تتواجد في الهند مناطق من البلاد شديدة التخلف وتتسم بانتشار مظاهر الفقر المريع، مطبوعا بإنتاج قروي شبه اقطاعي. هذا الواقع دفع بعض الاقتصاديين اليساريين الى التشكيك في الطابع الامبريالي الجديد للهند، لكن متى كانت الرأسمالية تهتم بتنمية الجماهير الكادحة؟ والتي لا ترى فيها سوى مجالا للاستثمار والاستغلال، بأساليب وطرق الاستعمار البريطاني السابق.

8 - في وضعية مشابهة للهند في روسيا قال لينين(14) سنة 1917:

"سيكون من غير الصحيح ان نعتبر الامبريالية في روسيا ككل منسجم (فالإمبريالية هي بشكل عام كل غير منسجم)، لأنه يتعايش في روسيا عدد مهم من الجهات ومن فروع العمل، فلا يحدث سوى المرور من الاقتصاد الطبيعي وشبه الطبيعي نحو الرأسمالية".

9 - اليوم، تعمق المجموعات الاحتكارية الهندية تبعية بلدان أخرى للاستعمار الجديد. وهكذا أصبحت الشركة الهندية Indian Oil أكبر منتج للمحروقات في سيريلانكا(15). وفي سنة 2015، استحودت الشركة الهندية Bharti Airtel على خمسة عشرة شبكة اتصالات افريقية. كما أصبح الاحتكار الكيميائي الهندي الصناعي، المنتج الأكبر عالميا للألياف والبوليستر، ويتوفر على مواقع للإنتاج الرئيسي في تركيا، وماليزيا والصين وبريطانيا والأراضي المنخفضة. كما أن صادراته توجه نحو 121 بلد(16). وتوجد في طليعة الرواد العالميين الهنود شركة Mahindra في قطاع صناعة الجرارات، ثم شركة Wipro في قطاع التكنولوجيات الإعلامية وشركة Crompton Greaves في قطاع المحولات الكهربائية.

10 - ومنذ تأسيسها سنة 2007، فإن المجموعة التعدينية الهندية ArcelorMittal تسلقت سريعا وبطريقة عنيفة مرتبة المنتج الأول للصلب في العالم. وقد تم تأسيسها بعد استعادتها من طرف Mittal Steel للمجموعة اللوكسمبورغية Arcelor، المجموعة العالمية الثانية للصلب. وقد أصبحت أيضا بإنتاجها ل 41 مليون طن من الصلب سنويا سنة 2006 وتشغيلها ل 199.000 مستخدم على المستوى العالمي، المجموعة الأولى للصلب في أوروبا قبل شركة الاحتكار الهندي Tata Steel، والذي ينتج 24 مليون طن في السنة ويشغل 70.000 مستخدم. كما تشغل ArcelorMittal أكثر من 30.000 عامل طما تشغل عمال المناجم في كازاخستان وأوكرانيا والبوسنة وكندا والولايات المتحدة الأمريكية والمكسيك والبرازيل وليبيريا وذلك باستخدام أساليب عنيفة في استغلال الانسان والطبيعة(17).

11 - عندما واجهت حكومة مانموهان سينغ مقاومة جماهيرية كبيرة لبرنامجه الخاص بالخوصصة القسرية وإنشاء مناطق اقتصادية خاصة ، في عام 2014 فإن ناريندرا مودي Narendra Modi، المرتبط بالفاشية الهندوسية (حزب بهاتيا جناتا BJP)، هو الذي حل مكانه في الحكومة. وتميز برنامجه "صنع في الهند" في اعتماد تدابير هيكلية واستثمارات تشجع على وجه الخصوص التوسع في الاحتكارات الهندية. كما تقوم على اتخاذ تدابير لحماية المستثمرين في الخارج وفرض ضرائب على الاحتكارات الدولية. في عام 2016، انضمت 58 مجموعة هندية إلى صفوف أكبر 2000 شركة في العالم(18).

12 – وقد استثمرت مجموعة التعدين الهندية Adani 11.5 مليار يورو في إنشاء منجم Carmichael للفحم في أستراليا. ويبلغ إنتاجه السنوي 60 مليون طن، ويعتبر من أكبر مناجم الفحم في العالم. ويشكل بناء خط للسكك الحديدية واستئجار ميناء الفحم التابع لشركة Abbot Point لمدة 99 عاماً جزءاً من هذا الاستثمار. كما رخصت الحكومة الأسترالية لهذا المشروع المجنون في عام 2017 رغم كونه يتسبب في انخفاض كبير في مستويات المياه الجوفية وفي تدمير النظام البيئي الفريد في الحاجز المرجاني العظيم قبالة السواحل(19). وتسعى حكومة مودي بقوة إلى بناء وتطوير 370 محطة طاقة تعمل بالفحم ولا تزال تبني عشرة مفاعلات نووية جديدة.

13 - أسس مودي برنامج حكومته بشكل واضح على أساس إيديولوجية Hindutva، وتستهدف هذه الإيديولوجية بناء إمبراطورية هندوسية في إطار وحدة الثقافة الجغرافية في شبه القارة الهندية بأكملها. وتشكل هذه الأيديولوجية أساس تطلعات الهند الإمبريالية. حيث تستهدف حكومة مودي بمختلف الأساليب إلى تحويل نيبال ذات الغالبية الهندية إلى دولة هندوسية وذلك عبر فرض الحصار عليها بشكل مخالف للقانون الدولي كما حدث عام 2015. ومن خلال تشجيع الحركات الانفصالية في منطقة Terai وكذا عبر التدخل المباشر في تحديد تشريعاتها. وباعتبارها إيديولوجية عدوانية معادية للشيوعية، فإن القومية الهندوسية تشكل العدو المعلن للحركة الماركسية اللينينية والحركات المعادية للإمبريالية.

14 - في عام 2016، تجاوزت نفقات الهند العسكرية التي بلغت 55,9 مليار دولار أمريكي النفقات العسكرية لكل من فرنسا وبريطانيا. كما تم تشغيل أول حاملة طائرات تم بناؤها في الهند في عام 2013. وفي عام 2016، تم إطلاق أول سفينة شحن فضائية قابلة لإعادة الاستخدام.

15 -كما عمل مودي على ابرام تحالفات "استراتيجية" مع اليابان والولايات المتحدة موجهة ضد الصين. في الوقت الذي تهدد فيه الصين تطلعات أمريكا للهيمنة على العالم، نجد هذه الأخيرة تعتمد على الهند في شرق آسيا. ويفترض هذا التحالف الإمبريالي وجود مصلحة مستقلة للهند لتأكيد نفسها ضد المنافس الصيني. فهو تحالف مؤقت ومتناقض قائم على المنفعة المتبادلة. فالاعتماد الهندي السابق من جانب واحد على الولايات المتحدة بدأ يفسح المجال تدريجياً للتداخل، على الرغم من أن الولايات المتحدة كقوة إمبريالية عظمى ما زالت تفرض ارادتها.

16 -يركز التوسع الامبريالي الجديد للهند، في مجال السياسة الداخلية، على قمع النضال الطبقي لجيش الملايين من البروليتاريا الصناعية ومئات الملايين من سكان الريف.

بدلا من الخاتمة:

هناك ثلاثة مسارات طبعت تطور نمط الإنتاج الرأسمالي منذ ظهوره خلال القرن الثالث عشر والى اليوم.

فهناك أولا مرحلة الهيمنة الشكلية ومرحلة الهيمنة الفعلية لرأس المال على العمل: فنظرا لكون الرأسمالية عبارة عن استثمار مالك وسائل الإنتاج في قوة العمل من أجل نهب فائض القيمة الذي يشكل أساس التراكم الرأسمالي، فإن حاجة الرأسمالية الأساسية هي الهيمنة على العامل وعلى قوة العمل واغترابه الكلي حتى يسهل استغلاله دون أن تبذر منه ردات فعل عنيفة على الطبقة الرأسمالية المهيمنة. وقد رصد كارل ماركس في هذا الاطار مرحلتين لهذه الهيمنة في فصله السادس غير المنشور من رأس المال، حيث يصف المرحلة الأولى بالخضوع الشكلي للعامل الى رأس المال، وحيث لا يكون هذا الخضوع مكتملا لذلك قد تلجأ الرأسمالية لعدة وسائل لتحقيق هذا الخضوع الشكلي، وقد رأينا في حالة الهند ان اخضاع بريطانيا للطبقة العاملة الهندية عن طريق الاستعمار واستعمال القوة في الاستغلال وهو ما ارسى البنيات الاقتصادية والاجتماعية الرأسمالية التي حطمت تدريجيا النظام الاقطاعي السابق، بل ونتج عن كل ذلك انقسام طبقي في المجتمع الهندي بين برجوازية وبروليتاريا محليتين، تحالفا مرحليا لمقاومة الامبريالية الإنجليزية وتحقيق الاستقلال الشكلي لسنة 1947. كما يصف ماركس المرحلة الثانية بالخضوع الفعلي للعمل الى رأس المال ، وهي مرحلة عليا من الخضوع والهيمنة تساهم فيها التكنولوجيات ومناهج الإنتاج وإعادة الإنتاج وانتشار الثقافة البرجوازية وسط الطبقة العاملة التي تجد نفسها مغتربة كليا تحت الهيمنة الفعلية للرأسمال. وقد تحققت هذه الحالة في حالة الهند تحت هيمنة الاحتكارات الهندية الفعلية على العمل، وقد بلغ مدى تطور الاحتكارات الهندية درجات متطورة استطاعت ان تبسط هيمنتها عالميا وتصبح من بين الشركات الألفين الأوائل على الصعيد العالمي وان تبسط هيمنتها على العديد من البلدان في افريقيا واسيا وامريكا اللاتينية.

ثم هناك ثانيا، مرحلة رأسمالية المنافسة الكاملة ومرحلة الرأسمالية الامبريالية وهيمنة الاحتكارات الدولية النشاط. فالمرحلة الأولى سادت حتى نهاية القرن التاسع عشر تقريبا وهي المرحلة التي درسها كارل ماركس بعمق في كتابه رأس المال، غير ان كارل ماركس كانت له نظرات توقعية لمستقبل رأس المال حيث نجده في الكثير من أعماله يصف مآل الرأسمالية المعولمة وهيمنتها الفعلية على العمل حيث يبدأ مرحلة انحطاطها مع تفاقم تناقضاتها الداخلية. أما المرحلة الثانية وهي مرحلة الاحتكارات الدولية النشاط والتي أصبحت هي المهيمن الرأسمالي الفعلي على العالم، وحيث يصبح جهاز الدولة مجرد أداة تدبير وتحقيق استراتيجيات هذه الاحتكارات مما يجعلها تتسم بالطابع الامبريالي. وأفضل من عبر عن المرحلة الاحتكارية الامبريالية هو لينين في كتابه الامبريالية أعلى مراحل الرأسمالية والذي يحدد بدقة المعايير المميزة للبلدان الامبريالية. ويوضح لينين أن الدولة الرأسمالية تمر هي أيضا بمرحلتين مرحلة استقلاليتها عن الاحتكارات الرأسمالية، ثم مرحلة ثانية تندمج فيها أجهزة الدولة بأجهزة الاحتكارات الرأسمالية، فتصبح كيان واحد متمثل في رأسمالية الدولة الاحتكارية والتي تهيمن بشكل فعلي على الأحزاب والنقابات وعلى كامل الحياة السياسية وحيث يصل مستوى الخضوع الفعلي للعمل لرأس المال مستويات عليا. الا ان التناقضات الرأسمالية تصل في هذا المستوى الى أقصاها تهدد بالانفجار في أية لحظة.

ثم هناك ثالثا مرحلتي صعود وهبوط نمط الإنتاج الرأسمالي، وقد وصف كل من لينين وروزا لوكسمبورغ عذين المرحلتين بدقة. ففي المرحلة الأولى التي تبدأ مع شباب الرأسمالية وحاجتها الى المزيد من الاستغلال والتوسع في ظل رأسمالية المنافسة أولا والهيمنة الشكلية للرأسمال على العمل والبحث الدائم عن فضاءات غير رأسمالية لتصدير أزماتها وفرض هيمنتها الرأسمالية الشكلية على هذه الفضاءات غير الرأسمالية لتحقيق المزيد من التراكم الرأسمالي، لكن مع انتهاء الهيمنة الاستعمارية الامبريالية على كافة القارات ويستحيل إيجاد مناطق جديدة غير رأسمالية فان الرأسمالية تتحول نحو تدميرها الذاتي كما حدث خلال الحربين العالميتين وما يحدث حاليا من حروب. فهذه المرحلة الجديدة هي مرحلة هبوط نمط الإنتاج الرأسمالي والتي تتطابق مع مرحلة الهيمنة الفعلية للرأسمال على العمل وحيث تبدأ الإنسانية والبروليتاريا خاصة عن سبل اسقاط نمط الإنتاج الرأسمالي كليا والمرور نحو المجتمع الإنساني الشيوعي الخالي من الطبقات ومن الهيمنة ومن الدولة.

المسارات الثلاث من تطور سيرورة نمط الإنتاج الرأسمالي تتكرر سواء في كيفية تطور البلدان الرأسمالية الامبريالية الكلاسيكية أو في كيفية تطور نمط الإنتاج الرأسمالي في البلدان التي خضعت سابقا للاستعمار المباشر وأصبحت تخضع للاستعمار الجديد والتي نجح بعضها في التطور نحو بلدان امبريالية جديدة مثل دول البريكس ودول الميست وقد اتينا على ذكر نموذج منها وهي الهند، أو بلدان الاستعمار الجديد المتخلفة كبلدان شمال افريقيا مثل المغرب وبلدان عديدة في افريقيا وآسيا وامريكا اللاتينية. الا ان الطبقة العاملة تظل في جميع هذه البلدان الطبقة الأضعف الأكثر عرضة للاستغلال والاضطهاد وهي التي تشكل حسب كارل ماركس حفارة قبور البرجوازية.

المراجع

1 - كارل ماركس، الفصل 6 غير المنشور من رأس المال، الصيغة الإنجليزية، الأعمال، الصفحة 465 - 466
2 - Lenin, Imperialism, The Highest Stage of Capitalism, Social Editions, p.124
3 - Lenin, Imperialism and socialism in Italy, 1915, in, Lenin, collected work, volume 21, Page 358.
4 - انظر أصل نظرية خضوع العمل الشكلي وخضوعه الفعلي لرأس المال في الفصل السادس غير المنشور من رأس المال لكارل ماركس، ماركس وانجلز، الأعمال المجلد 34.
5 - هـ. روو، الهند، انطباعات واقتراحات، 1910، الطبعة الإنجليزية، الصفحة 79
6 - المرجع نفسه ، ص 78
7 - The Cambridge Economic History of India, Vol. 2, c.1751-c.1970-Kumar, Dharma and Desai, Meghnad, eds.
8 - نفس المرجع
9 - لينين ، الامبريالية أعلى مراحل الرأسمالية، الأعمال ، المجلد 22 ، ص 259
10 - جوزيف ستالين، ثورة أكتوبر والقضية الوطنية، الأعمال، المجلد 4، ص 170
11 - ماو تسيتونغ، الأعمال المختارة، المجلد الثاني، الصفحة 344
12 - Stefan Engel, On the Emergence of the New-Imperialist Countries, Verlag Neuer Weg, August 2017, page: 42.
13 - Fact Sheet on Special Economic Zones sur http://www.sezindia.nic.in.
14 - لينين "نصوص لمراجعة برنامج الحزب" ، أبريل ومايو 1917، الأعمال، المجلد 24، باريس / موسكو 1966، الصفحة: 478
15 - voir : http://www.iocl.com.
16 - voir http://www.ril.com.
17 - Annualreview2015.arcelormittal.com/operations-and-performance/segment-
review/mining.
18 - Forbes Global 2000.
19 - http://www.greenpeace.org.au.