هل فشلت الاشتراكية حقا؟


توما حميد
الحوار المتمدن - العدد: 6098 - 2018 / 12 / 29 - 03:50
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

هناك قمع سافر ضد الشيوعيين والتحريرين وقادة وفعالي الطبقة العاملة في الكثير من البلدان وخاصة في منطقة الشرق الاوسط بما يتماشى مع متطلبات النظام الاقتصادي في تلك البلدان وبشكل خاص ابقاء الايدي العاملة رخيصة. وهناك قمع فكري على مستوى العالم الذي يصل الى حد اعتبار الاشتراكية والشيوعية لحد الان في امريكا مثلا مرادفة للنازية والفاشية والشمولية واعتبار الشيوعيين والاشتراكيين وفعالي الطبقة العاملة اناس معتوهين او عملاء او مخربي الاقتصاد الخ. معظم النقد الموجه ضد الماركسية والشيوعية هو جزء من حملة برجوازية شرسة وواعية ولكن هناك انتقادات نتيجة عدم الالمام بالماركسية باعتبارها منظومة فكرية تدعو الى تغير الوضع الحالي.
أسباب تعدد التفسيرات للماركسية.
منذ وفاة ماركس في عام 1883 أي في اقل من قرن ونصف القرن التي هي فترة وجيزة من الناحية التاريخية أصبحت أفكاره منظومة فكرية وانتشرت الى كل ارجاء الكرة الأرضية. ويعتبر ماركس اليوم أعظم نقاد الرأسمالية وتعتبر الماركسية أكثر نقد جذري ومتكامل ضد النظام الرأسمالي.
كما يقال، الماركسية هي ظل الرأسمالية فأينما أصبحت الرأسمالية النظام الاقتصادي السائد تبرز الماركسية كنقد جدي وتبرز على أساسها تيارات وأحزاب ومنظمات سياسية ونقابات ومنظمات عمالية ومنظمات اجتماعية وثقافية وفكرية وبيئية وحتى منظمات مهنية وجرائد وكتب الخ.
من الطبيعي عندما تصل الماركسية الى مجتمعات مختلفة من ناحية التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي فأنها سوف تعني أمور مختلفة وتأخذ الأفكار الماركسية تفسيرات مختلفة ويتم استخدامها من قبل تيارات وحركات مختلفة لتحقيق اهداف مختلفة. في الكثير من الأحيان يتم تشويه او سوء فهم الأفكار والمفاهيم الماركسية الأساسية وخاصة في الدول التي تحكمها أنظمة قمعية لأسباب منها قلة الاطلاع على الماركسية. في الميدان الاقتصادي الماركسية تعتبر وتستخدم كأداة لتحقيق طيف واسع من الأمور تتراوح من تلطيف بعض عواقب النيو ليبرالية المتوحشة والحد من الازمات الاقتصادية التي لا يمكن تحملها الى تحقيق تدخل محدود للدولة في الاقتصاد الى إقامة الاشتراكية الديمقراطية الى اقتصاد رأسمالية الدولة على غرار القطب الشرقي وأخيرا اقتصاد مستند على ملكية العمال لوسائل الإنتاج وادارتهم لموقع العمل والتحكم بفائض القيمة الذي ينتجونه. وقد برزت الجدلات مجددا حول الماركسية وخاصة منذ ازمة النظام الرأسمالي في 2008.
على المستوى العالمي أكثر الجدالات جدية حاليا حول الماركسية هو الجدال الدائر حول البديل للنظام الرأسمالي و المعنى الحقيقي للاشتراكية ، بمعنى هل الاقتصاد الاشتراكي هو النموذج الذي يستند على ملكية الدولة لوسائل الإنتاج وعلى التخطيط المركزي وتحكم الدولة بالتوزيع وهو النموذج الذي مثله القطب الشرقي او هو نموذج اقتصادي يستند على تثوير موقع العمل بحيث تعود ملكية وسائل الإنتاج الى العمال وان يتحكموا بكل تفاصيل الإنتاج والتوزيع بشكل ديمقراطي، اي عامل واحد صوت واحد , وبدون التسلسل والمراتب الهرمية التي تسود مواقع العمل البرجوازية الخاصة والمملوكة من قبل الدولة. والجدال حول أفضل السبل للانتقال الى الاشتراكية، هل يكون من خلال إقامة التعاونيات العمالية في قلب النظام الاقتصادي الرأسمالي بحيث تكون من القوة يصبح الفوز بالسلطة عملية تحصيل حاصل او من خلال الاستيلاء على السلطة عن طريق الثورة واستخدامها من اجل تثوير الاقتصاد وبناء الاقتصاد الاشتراكي او ببساطة من خلال النضال في كلا هذين الميدانين. سوف ابين رأي في هذا المجال بشكل مختصر لاحقا.

الانتقادات العمومية للماركسية

كجزء من الحملة المذكورة التي بدأت تتقهقر بسبب ازمة النظام الرأسمالي، نجد بانه ما ان ينطق شخص باي كلام عن حقوق الطبقة العاملة والنضال الطبقي وعن الاشتراكية والحزب الشيوعي الثوري يحاول ألف شخص مصادرة حقه في الكلام والتعبير عن آرائه. في ظل سطوة الفكر اليميني لا يجد خصوم ونقاد الشيوعيين وفعالي الحركة العمالية حاجة الى الدخول في نقاش علمي او منطقي ورد الافكار بالحجة بل يكتفي بقذف مجموعة من الأفكار الكليشية والحاضرة مثل: كيف لكم ان تتحدثوا عن الاشتراكية والاشتراكية انهارت في المعسكر الشرقي؟ الا تعني الاشتراكية ما قام به ستالين وبول بوت ونظام كوريا الشمالية؟ كيف لك ان تتحدث عن الماركسية في وضع العراق في وقت ليس لنا في العراق اقتصاد رأسمالي؟ الخ.

ان النقد الموجه ضد الماركسية والأحزاب الاشتراكية والشيوعية يختلف من بلد الى بلد اخر رغم وجود انتقادات عمومية على المستوى العالمي. واحد اهم الانتقادات العمومية والجاهزة هو ان الاشتراكية فشلت لان الاتحاد السوفيتي والقطب الشرقي قد انهار.
في الحقيقة يصور فشل تجربة الاتحاد السوفيتي ليس كدليل على فشل الاشتراكية فقط بل كدليل على طوباوية الفكر الماركسي وعبثية النضال الشيوعي والعمالي ويستخدم بشكل فعال في قمع الشيوعيين ومصادرة حقهم في النقد وحتى في ابداء الرأي حول المشاكل التي تواجه المجتمع. رغم ان هذا الانتقاد يعتبر في نظر الكثيرين بديهية وحقيقة غير قابلة للدحض الا انه انتقاد تافه وسخيف الى ابعد الحدود. إذا فشلت تجربة الاتحاد السوفيتي وتجارب الدول التي دارت في فلكه تحت ثقل تناقضات هذا النظام الداخلية فان عدد لا يحصى من التجارب والمحاولات البرجوازية لإقامة النظام الرأسمالي فشلت او قمعت قبل ان يثبت النظام الرأسمالي اقدامه في بريطانيا ومن ثم ينتشر الى كل زاوية من زوايا العالم في اخر 200-300. فنضال البرجوازية ضد النظام الاقطاعي استمر لعدة قرون قبل ان تتمكن البرجوازية من تثبيت النظام الرأسمالي. يجب ان اشير ان نقدي للاتحاد السوفيتي ولقصوره والجوانب السلبية وحتى الفظيعة التي رافقت هذه التجربة هو ليس نفي لإنجازات هذه التجربة وجوانبها الايجابية والدروس التي علمت البشرية وهي ليست مشاركة في حملة البرجوازية العالمية على هذا النظام. رغم انه ليس لي أي تقارب مع هذه التجربة الا انني لااتفق مع الانتقادات التي يوجهها مناصرو النظام الرأسمالي لتجربة الاتحاد السوفيتي. حتى فيما يتعلق بجرائم ستالين ضد خصومه التي يحمل كل شيوعي مسؤوليتها بعد عقود، يجب ان نشير ان أمريكا بالنيابة عن النظام الرأسمالي تقتل من البشر سواءا من خلال الحروب او دعم انظمة وحركات في منتهى الرجعية او من خلال شيوع ظواهر مثل الانتحار او المخدرات او العنف الذي تقف ورائه مصالح صناعة السلاح او الامراض التي تسبب فيها مصالح شركات صناعة المأكولات والمشروبات وغياب الرعاية الصحية الخ في عدة سنوات عدد اكبر من الذين قتلوا على يد النظام في الاتحاد السوفيتي في 70 عاما. ان ماقام بها ستالين من جرائم كانت من متطلبات الإبقاء على نظام اقتصادي معين مثلما هي الاف الجرائم التي تقوم بها البرجوازية على المستوى العالمي من متطلبات الإبقاء على النظام الرأسمالي الحاكم.

من جهة أخرى، البرجوازية على طوال عمر النظام الرأسمالي لم تحسم أي نموذج اقتصادي هو نموذجها الأنسب والافضل حيث نجد التأرجح بين الرأسمالية المتوحشة المتمثلة بالنيو ليبرالية حيث يعطى للدولة اقل دور ممكن وبين الكنزية التي تستند على إعطاء الدولة دور مهم في ادارة وتنظيم الاقتصاد، بين المنافسة الحرة وبين الاحتكار، بين الوطنية والحمائية من جهة وبين العولمة من جهة أخرى، الخ. بعد تحقيق الصين لنمو اقتصادي كبير لمدة تفوق العقدين من الزمن في حين الغرب يعاني من نمو ضعيف جدا، هناك حتى حديث عن فشل " الديمقراطية البرلمانية" من الناحية الاقتصادية وضرورة الاهتداء بالنموذج الصيني في إدارة الاقتصاد.

اهم حجة تساق لتبرير الأوضاع المزرية التي يعش فيها أكثر من اربعين مليون امريكي مثلا او لتبرير ازمة 2008 ومئات الكوارث التي تجلبها الرأسمالية هو ان النظام الرأسمالي الحالي هو ليس النظام الرأسمالي الحقيقي الذي يفترض انه يستند على المنافسة والسوق الحر. فهناك منظرون برجوازيون وحتى ممن يعتبرون انفسهم ماركسيون او من اليسار أمثال بول كروكمان (Paul Krugman ) و غاي ستانديغ (Guy Standing ) يناضلون بجدية من اجل بناء الرأسمالية " الكلاسيكية" حيث تسود فيها المنافسة وتستند على السوق الحر، وهي اكثر فكرة طوباوية نسمعها في الوقت الحاضر. لا وجود لرأسمالية مثالية وما نجده امامنا من احتكار وغياب المنافسة، عدم استقرار اقتصادي، أزمات دورية، فقر مدقع، عدم مساواة لا يعقلها العقل، تدمير كارثي للبيئة، حروب مستمرة، امراض، مجاعات، حصارات اقتصادية، فساد فلكي، التميز على أساس العرق والدين ولون البشرة والجنس والتعصب القومي والديني والمذهبي وغيرها هي الرأسمالية الحقيقية.

اذا كان يحق للبرجوازية بان يأخذ نظامها الاقتصادي كل هذه الاشكال وان يتنكر مناصرو الرأسمالية لعدد لا يحصى من الأنظمة الرأسمالية الفاشلة او الاجرامية لماذا لا يحق للشيوعي بان يامن بان الاتحاد السوفيتي لم يكن النموذج الاشتراكي الذي يناضل من اجله ونموذجه للاشتراكية هو ليس إحلال مليكة الدولة لوسائل الإنتاج بدل الملكية الفردية لتلك الوسائل والتخطيط المركزي محل ميكانزيم السوق بل هو نموذج يستند بالإضافة الى درجة من التخطيط المركزي ودور معين لسلطة مركزية على تغير على مستوى موقع العمل أي المايكروايكونمي بمعنى إحلال ملكية العمال لوسائل الإنتاج محل ملكية حفنة قليلة لوسائل الانتاج واحلال الديمقراطية في موقع العمل محل الدكتاتورية التي يمارسها الرأسماليون او مسؤولو الدولة البرجوازية في المشروع الاقتصادي الرأسمالي؟.

رغم ان أساس التحليل الماركسي للأنظمة الاقتصادية بما فيها النظام الاقتصادي الرأسمالي هو ما يحدث في موقع العمل اي كيف يتم تنظيم عملية انتاج البضائع والخدمات والعلاقة بين الناس المشاركين في عملية الإنتاج وماذا يحصل للفائض المنتج الا انه لحد الان تم التركيز على من يمتلك وسائل الإنتاج، الدولة ام القطاع الخاص وكيف يتم توزيع البضائع والخدمات من خلال السوق او عن طريق التخطيط المركزي من خلال الدولة وعلى دور الدولة بشكل عام في إدارة الاقتصاد وتنظيم عملية الإنتاج والتوزيع.

ان التصوير الذي ساد لحد الان عن النظام الرأسمالي هو ان ما يميزه هو الملكية الخاصة والأسواق كألية لتوزيع السلع، لذلك فان الاشتراكية يجب ان تعني نقيض تلك الميزتين اي الملكية العامة من خلال الدولة لوسائل الإنتاج وتوزيع البضائع والخدمات من خلال التخطيط المركزي. أي كما قلنا لم يتم التركيز على كيفية تنظيم عملية الإنتاج نفسها وماذا يحدث بين الناس عندما تنتج البضائع والخدمات، والى أي حد يتحكم المنتج -العامل بما يتم انتاجه وبظروف العمل وبفائض الانتاج.

في الحقيقة ان وجود الأسواق او غيابها ووجود قطاع اقتصادي تديره الدولة من عدمه ومقدار تدخل الدولة في الاقتصاد لا يقول لنا كيف يتم الإنتاج.
الأسواق ظهرت منذ ان برز التخصص في الإنتاج قبل الاف السنين عندما لم يعد بإمكان الفرد انتاج كل ما يحتاجه من اجل العيش فظهرت الأسواق لمبادلة الإنتاج بشكل مباشر او من خلال واسطة مثل النقود أي ان الأسواق تواجدت مع الأنظمة الاقتصادية التي سبقت النظام الرأسمالي بما فيها النظام العبودي والنظام الاقطاعي، رغم ان الأسواق تختلف في حجمها ونوعيتها من نظام اقتصادي الى نظام اقتصادي اخر. و نمط الإنتاج الرأسمالي مثل أنماط الإنتاج الاخرى يمكن ان يتواجد مع الأسواق كألية للتوزيع. في الحقيقة تحت النظام الرأسمالي كل مدخلات الإنتاج بما فيها قوة العمل (القدرة على العمل) ومخرجات الإنتاج عادة ما توزع من خلال الأسواق.
ولكن النظام الرأسمالي للإنتاج الذي يستند على علاقة صاحب عمل/ عامل يمكن ان يتعايش مع مختلف أنظمة توزيع البضائع والخدمات، من السوق " الحر" حيث تكون القوانين شبه غائبة الى السوق المنظم من خلال قوانين قد تكون محدودة او صارمة جدا وحتى توزيع بدون أسواق، ففي ظروف معينة يتم الغاء تام للأسواق وتبديلها بنظام مختلف للتبادل بشكل دائمي او موقت ونفس الشيء ينطبق على منتجات نظام الإنتاج العبودي والاقطاعي. إن الغاء الأسواق وتبديلها بنظام توزيع اخر مثل التوزيع المركزي المبرمج من خلال مؤسسات الدولة لا يغير من طبيعة نظام الإنتاج الرأسمالي مادام بقي نمط الإنتاج على حاله.
من جهة أخرى في ظل النظام الرأسمالي ان ما يتم داخل العائلة وهو جزء كبير من اقتصاد المجتمع اوبين الأصدقاء والكثير من الاعمال التطوعية والفعاليات الاقتصادية التي تقوم بها الدولة لا تتم حسب قوانين السوق.

كما ان وجود قطاع اقتصادي تسيطر عليه الدولة لم يقتصر على النظام الرأسمالي وفي نفس الوقت لا ينفي الرأسمالية. في النظام العبودي كان هناك قطاع خاص وقطاع عام، أي عبيد مملوكين من قبل الافراد وعبيد مملوكين من قبل الدولة وفي النظام الاقطاعي كان هناك قطاع خاص وقطاع عام أي قن يعملون لصالح اقطاعيين كأفراد او لصالح الدولة. اليوم في النظام الرأسمالي بعض أكبر المشاريع الاقتصادية الرأسمالية ليس في الصين فقط بل في قلب الغرب مملوكة للدولة ولاتزال الدولة هي المسؤولة بشكل اساسي عن البنية التحتية، وتوفير الظروف التي تستند عليها عملية تراكم الرأسمال والحياة اليومية للسكان مثل الموانئ والمطارات والطرقات والشوارع وجزء من السكن. كما انها مسؤولة عن العملة، والجيش والدفاع المدني وأحيانا الصحة والتعليم الخ التي هي كلها ميادين اقتصادية.

تدخل الدولة في إدارة الاقتصاد وفي تنظيم الاسواق من عدمه هو ايضا ليس امر مقتصر على الرأسمالية. وعلى مر عمر الرأسمالية سعى الإصلاحيون للتخفيف من جوانب وعواقب النظام الرأسمالي غير المقبولة والتي لا يمكن تحملها التي ينتجها منطق الربح الذي هو أساس النظام الرأسمالي عن طريق تدخل الدولة في الاقتصاد والاسواق تحت ضغط نضال الطبقة العاملة باليات مثل وضع حد ادنى للأجور والضرائب التصاعدية وغيرها والتي تؤدي بالنهاية الى إعادة توزيع الثروة والتي هي بالضد من جوهر النظام الرأسمالي. الدولة أيضا تتدخل في محاولة لمنع او التخفيف من الازمات الاقتصادية الدورية من خلال السياسات النقدية المتمثلة بتغير نسبة الفائدة وكمية النقود في الأسواق او من خلال السياسات المالية المتمثلة بقيام الدولة بزيادة الانفاق والاستثمار وبالتالي تحفيز الاقتصاد.

فيما يتعلق بتدخل الدولة البرجوازية في الاقتصاد في دول رأسمالية تعتبر ايقونة اقتصاد سوق الحر فلا اعتقد هناك حاجة للإسهاب في هذا الامر، يكفي ان نقول ان لولا تدخل الحكومات في 2008 لانهار الاقتصاد الرأسمالي بشكل كامل.
باختصارإذا نظمت وحدات الإنتاج على أساس علاقة رأسمالي/ عامل فأنها تبقى رأسمالية بوجود او عدم وجود الأسواق بوجود او عدم وجود قطاع عام ومع تدخل مكثف او محدود للدولة في إدارة الاقتصاد وهذه ليست المسائل التي تميز النظام الرأسمالي عن الأنظمة الاخرى.

لقد ميز ماركس نقده لنمط الإنتاج الرأسمالي عن الانتقادات التي وجهت للأسواق. حسب ماركس ان المشاكل الاجتماعية للنظام الرأسمالي مثل عدم المساواة وعدم الاستقرار وغيرها هي ليست نتيجة التبادل من خلال الأسواق فحسب بل نتيجة طبيعة نظام الإنتاج الرأسمالي الذي يستند على استلاء قلة صغيرة على فائض القيمة. لذا فان الغاء الأسواق بدون تغير جذري لمسالة تحكم العمال بفائض القيمة المنتجة لا يغير من طبيعة النظام ولن تحقق المساواة والعدالة والحرية.

كما قلنا ان ما يميز النظام الرأسمالي من وجهة نظر الماركسية هو كيف يتم تنظيم موقع العمل اي عملية انتاج البضائع والخدمات وما هي العلاقة بين المشاركين في عملية الإنتاج حيث ان المشاريع الإنتاجية الرأسمالية اما يمتلكها ويديرها قلة صغيرة جدا، فتجعل هذه القلة تلك المشاريع تعمل لصالحها لذا فهم اغنياء ويمتلكون السلطة والقوة ويمكنهم التأثير على السلطة السياسية، او يديرها قلة صغيرة من موظفين ومسؤولين عندما تكون مملوكة للدولة فتظهر التناقضات التي وجدناها عندما تقع كل مصادر القوة في يد الدولة. في كلتا الحالتين ليس العامل لا يستحوذ على الفائض الذي ينتجه بل ليس له أي صوت في عملية الإنتاج. لذا فان الاشتراكية يجب ان تذهب ابعد من الملكية العامة من خلال الدولة كبديل للملكية الخاصة والتوزيع المخطط كبديل للسوق بل يجب ان تقوم بتثوير موقع العمل. يجب ان يصبح تغير موقع الانتاج الصفة المميزة للنظام الاشتراكي، يجب ان يستند موقع العمل على مبدا عامل واحد صوت واحد حيث يقرر العمال بشكل جماعي وديمقراطي ماذا ينتج وكيف وتحت أي ظروف عمل يتم الانتاج وماذا يحدث للإنتاج وللفائض. التوزيع والتخطيط وكل وظائف السلطة المركزية الضرورية لإدارة المجتمع وكيف يتم تنظيم الحياة داخل العائلة وفي مواقع السكن يجب ان تستند وتتوافق مع موقع الإنتاج المميز للنظام الاشتراكي. سوف نعود الى هذا الموضوع في مكان اخر.

وهناك وسيلة أخرى تستخدم بنجاح في القمع الفكري وهي انكار راهنيه الماركسية والادعاء بعدم انطباقها على المجتمع الحالي لسبب او لأخر. ويعتبر مسالة انكار وجود الطبقات في المجتمع الرأسمالي المعاصر والادعاء بان التقسيمات الأساسية هي التقسيمات التي تستند على أساس الوطن والجنس والثقافة والتطور الاقتصادي والاجتماعي ولون البشرة والعرق والعشيرة جزء أساسي من هذه الوسيلة. في الدول الغربية تم انكار وجود الطبقات لفترة طويلة باعتبار ان الرأسمالية الغربية تمكنت من خلق طبقة وسطى ضخمة تشمل الغالبية العظمى من سكان هذه المجتمعات بما فيها الطبقة العاملة التقليدية.
ولكن انهار هذا الادعاء منذ ازمة 2008 ولكن بدئنا نسمع في الدول الغربية بمصطلح جديد من " الماركسيين" وهو البريكريت ( ( precariat لوصف شريحة واسعة جدا من الطبقة العاملة. فمثلا، كاي ستانديغ ( Guy Standing ) يخصص جزء كبير من كتابه البريكريت ، الطبقة الجديدة الخطيرة ( The Precariat: The New Dangerous Class) لوصف هذه الشريحة. ليس لدينا أي مشكلة مع وصفه لظروف هذه الشريحة وفي الحقيقة ان هذا الوصف والتفاصيل التي جاء بها تثير الاعجاب ولكن اعتبار هذه الشريحة طبقة جديدة هي تحريف واضح للماركسية لسبب بسيط جدا، إذا ناضلت هذه الشريحة في أي بلد من اجل مطالب يومية وحققت مكاسب جيدة سوف تتحول حسب هذا الوصف الى طبقة جديدة وهي البروليتارية. هل تزول طبقة وتتحول الى طبقة جديدة من خلال نضال اقتصادي مطلبي وبدون ثورة وتحول جذري في المجتمع؟
انكار وجود الطبقات هو جزء أساسي من الايدولوجية البرجوازية كمنظومة فكرية التي هي سلاح مهم في ايدي البرجوازية لتصوير الامتيازات التي تتمتع بها والموقع الدوني والخاضع للغالبية العظمى من السكان بانه امر طبيعي. في الحقيقية البرجوازية تعمل ليلا ونهارا من اجل احياء كل التقسيمات التي تستند على الهويات البدائية للإنسان مثل العرق والدين والمذهب والقومية والجنس ألخ. يجب فهم الكثير من الكوارث في العقود الأخيرة من حرب البلقان وراوندا والعراق وسوريا وبروز الإرهاب الإسلامي في هذا السياق. الا ان مسعى البرجوازية هذا يمكن فضحه من خلال الكشف عن عواقبه والاهداف الحقيقية التي تقف خلفه. لا يمكن قمع الشيوعيين ومصادرة حقهم في التدخل في قضايا المجتمع وابداء الرأي من خلال هذا المسعى. ولكن يمكن القيام بذلك بتسفيه الفكر الماركسي من خلال تصويره كفكر طوباوي او جعل الماركسية رديفة النازية والفاشية او انكار راهنيه الماركسية للمجتمع المعاصر. ان الكثير ممن يشاركون في هذا المسعى الأخير هم ممن يعتبرون أنفسهم من الماركسيين او من اليسار. بعض هؤلاء الذين خلف هذه الحملة الشعواء على الشيوعية والماركسية التي استعرت منذ سقوط الاتحاد السوفيتي هم اشخاص مغفلين وسذج ولكن اغلبهم يعملون بشكل واعي لخدمة الطبقة الحاكمة.

وهناك انتقادات أخرى تسوقها البرجوازية على مستوى العالم ضد الفكر الماركسي والاشتراكية كنظام اقتصادي منها ان الاشتراكية بعكس الرأسمالية تتعارض مع طبيعة الانسان او انها تقتل الابداع التي هي انتقادات تافهة ولكن ليست موضوع هذا المقال. سوف اتطرق الى هذه الانتقادات في مكان اخر. اكتفي هنا بالقول بان الدعاية البرجوازية ضد الماركسية والفكر الاشتراكي والشيوعي لا تختلف ابدا عن الدعاية التي قام بها مناصرو النظام الاقطاعي ضد الفكر البرجوازي او دعاية النظام العبودي ضد النضال من اجل إقامة النظام الاقطاعي. فالطبقة السائدة في كل نظام تصور نظامها بانه نظام أبدى ويمثل نهاية التاريخ. لقد وصف الاقطاعيون والكنيسة الفكر البرجوازي بالطوباوي والملحد والمعادي لإرادة الله وطبيعة الانسان ولتقاليد وقيم المجتمع وغيرها من الاوصاف التي تساق اليوم ضد الفكر الشيوعي.

الانتقادات التي توجه للماركسيين والشيوعيين في العراق.

ما اود ان أركز عليه هو الانتقادات التي يواجها الشيوعيون في العراق بشكل خاص. نسمع كثيرا عن عدم وجود طبقة عاملة او طبقة برجوازية في العراق بل لدينا مليشيات وعشائر من جهة وجماهير عاطلة او غير منتجة، لدينا مزارعين صغار وحرفيين وبعض العمال المبعثرين من جهة أخرى. يقال ليس هناك صراع طبقي بل هناك صراع شيعي -سني وصراع قومي وعشائري. يقال بانه ليس هناك قطاع صناعي واسع. ليس هناك وجود لإنتاج رأسمالي يستند على انتاج البضائع وفائض قيمة بل اقصاد مستند على انتاج بضاعة واحدة هي النفط.
من جهة أخرى يقال ان اقتصاد العراق والطبقة البرجوازية والطبقة العاملة في العراق هي مختلفة عن الاقتصاد الرأسمالي والطبقة العاملة والطبقة البرجوازية في اوروبا التي تحدث عنها ماركس وانجلز لذا فان الماركسية لا تنطبق على وضع العراق. ولهذا فان الشيوعي الذي يتحدث عن نضال الطبقة العاملة ووحدة الطبقة العاملة والثورة الاشتراكية لا يفهم شيئا عن الماركسية.

قبل ان ادخل في تفاصيل ردي على هذه الافكار يجب او اوضح ان من يدعي عدم وجود اقتصاد رأسمالي وطبقة برجوازية وطبقة عاملة في العراق بالذات ليس بنك النقد الدولي او قادة البرجوازية العالمية او المحلية. هؤلاء ليسوا بصدد انكار وجود الاقتصاد الرأسمالي والطبقات بل هم بصدد القيام بالإجراءات الاقتصادية التي تخدم الربح ومنها منع الطبقة العاملة بألف وسيلة ووسيلة من التنظيم والاتحاد والوعي بمصالحها. ان من يوجه مثل هذه الادعاءات هم في الكثير من الأحيان ممن يعتبرون أنفسهم "ماركسيين “او على الأقل من " اليسار" الذين أصبحوا بوعي او بدون وعي ابواق الطبقة الحاكمة.

من الجدير بالذكر بان "الماركسيين" في كل بلد يصرخون بان النظام الاقتصادي في بلدهم هو ليس نظام رأسمالي، " فالماركسي" الصيني يقول ان القيمة المضافة الى البضاعة المنتجة في بلدي قليلة وان اغلب فائض القيمة لا يتم تحقيقيها في بلدي بل في البلدان التي تستهلك فيها البضاعة، فمثلا أسواق وولمارت الامريكية تحقق ربح اكبر من تسويق البضائع الصينية من المستثمرين الصينين الذين ينتجون البضائع و " الماركسي " الأمريكي يقول النظام الاقتصادي الأمريكي هو ليس اقتصاد رأسمالي لان قطاع التصنيع فيه ضعيف وليس هناك منافسة وأسواق حرة و " الماركسي " العراقي يقول ليس لدينا اقتصاد رأسمالي للأسباب التي ذكرت و" الماركسي " في بلد اخر يقول ليس هناك اقتصاد رأسمالي لان هناك دولة الرفاه وتدخل واسع من الدولة في الاقتصاد الخ.

ان من يدعي عدم وجود اقتصاد رأسمالي، طبقة عاملة وطبقة رأسمالية، ونضال طبقي، لا يتحمل عناء اثبات ذلك الادعاء والكشف عن نوع النظام السائد في العراق بل تصبح مسؤولية الشيوعي والماركسي اثبات وجود النظام الرأسمالي. لا يقولون لنا اي علاقات اقتصادية تحكم الاقتصاد في العراق ان لم تكن علاقات رأسمال-العامل. هل هي علاقة سيد/ عبد، او اقطاعي/ فلاح؟ حتى أعتى مفكرو النظام الرأسمالي يعترفون بان المجتمع البشري الطبقي انتقل من النظام العبودي الى النظام الاقطاعي ومن ثم الى النظام الرأسمالي الذي يحكم اليوم العالم كله. ليس هناك نظام طبقي اخر غير هذه الأنظمة. نظام يسود فيه الفساد والتخلف والعلاقات الرجعية والشرائح الطفيلية وبطالة واسعة الخ هو ليس خارج إطار النظام الطبقي. كما ان هذه الأمور وسيادة قطاع اقتصادي معين، غياب الصناعات الثقيلة، تأخر التكنلوجيا، معدل عالي من البطالة، فساد الطبقة الحاكمة لأتغير من طبيعة النظام الاقتصادي الرأسمالي. من يقول غير هذا في هذا العصر انما يحرف الماركسية ويحاول تفنيد التحليل الماركسي للنظام الاقتصادي الرأسمالي على أساس الماركسية نفسها.

يجب ان نشير ان الادعاء بان غالبية الطبقة العاملة في أوروبا في عهد ماركس كانت تعمل في قطاع التصنيع هو ادعاء غير صحيح. كما يقول تيري ايغلتن ( Terry Eagleton) ان الغالبية العظمى من الطبقة العاملة لم تكن عمال من ذوي الياقات الخضر بل كانت من الخدم ومن النساء اللواتي كن يقمن بالأعمال المنزلية.
هؤلاء الذين يطالبون الشيوعيين بالانتظار الى ان نبني اقتصاد شبيه بالاقتصاد الرأسمالي الذي ساد في اوروبا في عهد ماركس وانجلز قبل عن نتحدث عن النضال الطبقي والثورة والتغير الاجتماعي في المجتمع هم نفس هؤلاء الذين يتشدقون بأنهم ليسوا من مناصري الدوغمائية والجمود الفكري بل يأمنون بتطور الماركسية الخ.
ولكنهم ينسون ان رأسمالية أمريكا واوروبا أي مراكز القديمة للرأسمالية اليوم مثلا هي مختلفة جدا عن رأسمالية التي تحدث عنها ماركس. اليوم 8% فقط من الطبقة العاملة الامريكية تعمل في القطاع التصنيعي. نسبة الطبقة العاملة الصناعية في سوريا ما قبل الحرب مثلا كانت أكبر من نسبة الطبقة العاملة الصناعية في أمريكا. اقتصاديات بعض الدول التي هي ضمن اغنى عشرين دولة في العالم هي اقتصاديات تستند على القطاع الخدمي مثل استراليا. فالاقتصاد الاسترالي هو اقتصاد خدمي اذ ان قطاع التصنيع ضعيف ويستند في مجال التصدير على المواد الخامة والمنتوجات الزراعية ويعتمد على الخدمات مثل قطاع السياحة وقطاع التعليم (العوائد التي تجنى من الطلاب الاجانب الدارسين في استراليا). ولكن ما من أحد يدعي بان الاقتصاد الاسترالي هو اقتصاد غير رأسمالي وهو اقتصاد لا تنطبق عليه التحليلات والأفكار الماركسية. في الولايات المتحدة هناك تقلص كبير في الصناعات الثقيلة مثل صناعة السفن وفي قطاع التصنيع الذي يشغل عمال مهرة في المقابل هناك زيادة في الصناعات الخدمية مثل القطاع المالي والسفر والاستجمام والفندقة الخ. في الحقيقة كل الدول المتقدمة تشهد هجرة كبيرة ومستمرة لوظائف في مجال التصنيع ويستند الاقتصاد بشكل متزايد على الخدمات. في حين ان الصين اصبحت مصنعا ضخما لإنتاج كل انواع البضائع للعالم. فهل يمكننا القول ان الاقتصاد الأمريكي او الاوربي هو اقتصاد غير رأسمالي؟ هل هذا يجعل الاقتصاد الصيني أكثر رأسمالية من بقية البلدان؟
من المضحك بانه هناك الكثير ممن يتحدث لحد الان عن المركز والأطراف اذ يقول أحد هؤلاء " الماركسيين" " خلق النظام الرأسمالي بخلقة مميزة بمركز وأطراف يتخلص المركز من فائض الانتاج لديه بتصريفه في المستعمرات، فهل هناك في العراق فائض إنتاج غير العجوة وأيها تلك المستعمرات التي يصرف فيها العراق فائض العجوة لدية!"
فهل هناك جمود فكري أسوأ من هذا ! لا اعرف عن أي مستعمرات يتحدث هذا " الماركسي المعاصر". حسب هذا الوصف فان الصين مثلا هي من دول الأطراف التي من المفترض ان تكون سوق لإنتاج دول المركز في حين ان المنتجات الصينية قد كسحت كل العالم بما فيه مراكز الرأسمالية القديمة بحيث أصبح المواطن فيها يعتمد على البضائع الصينية بدأ من الملابس الى الأدوات المنزلية الى الالكترونيات والى العاب الأطفال ليشمل بشكل متزايد الآلات الثقيلة والسيارات الخ. إذا نظر هذا " الماركسي" الى العلامة على لباسه الداخلي حاله حالنا جميعا سوف يجد عبارة " صنع في الصين". ان كل الصراع الدائر حاليا بين جناحي البرجوازية المؤيد للعولمة والمؤيد لما يسمى ب"القومية الاقتصادية" في أمريكا والمراكز الرأسمالية القديمة هي بسبب فقدان هذه الدول لموقعها المتميز.

أليست الرأسمالية على المستوى العالمي والرأسمالية في امريكا او بريطانيا او اوروبا مختلفة أيضا عن الرأسمالية التي تحدث عنها ماركس؟؟ بالتأكيد هناك من يدعي بان النظام الاقتصادي الأمريكي أيضا ليس اقتصاد رأسمالي لان القطاع الصناعي فيه ضعيف. ربما اذا اقتربنا من مقبرة هايغيت ( Highgate Cemetery) سوف نسمع قهقهات ماركس في قبره على مثل هذا الرأي.
أصحاب هذا الرأي لا يعرفون بان 50-60% من البضائع المصنعة التي تدخل أمريكا من الصين هي بضاعة تنتج من قبل الرساميل الامريكية التي انتقلت الى الصين من اجل الاستفادة من الايدي العاملة الرخيصة. أي ان الرأسمال الأمريكي ليس لا ينتج البضائع بل ينتجها في امكان تكون فيها تكاليف الإنتاج منخفضة مثل الصين والهند واندونيسيا وسيريلانكا والبرازيل الخ. انهم ينسون بان النظام الرأسمالي ليس ساكنا، تطرأ عليه تغيرات كبيرة مثل انهيار قطب رأسمالية الدولة، درجة كبيرة من العولمة، تطور هائل في القوة الإنتاجية وبان الرأسمالية تولد نمو متفاوت بين البلدان وداخل البلدان وحتى المناطق والمدن وأنها تؤدي الى تقسيم عالمي للعمل. الراسمالية تتغير ومعها يتغير تركيب الرأسمال وتركيب الطبقة العاملة باستمرار.
لا يمكن اخذ اراء أصحاب الرأي الذي يقول بان الاقتصاد الأمريكي او الاقتصاد العالمي هو ليس اقتصاد رأسمالي محمل الجد لأنهم هم، هو من يروج لفكرة ان مجرى تاريخ البشرية تغير وانهار الاتحاد السوفيتي نتيجة خيانة خروشتشوف للثورة الاشتراكية وقيادته لانقلاب على "الاشتراكية السوفياتية" في خمسينيات القرن الماضي وإذا لم يمت ستالين او يقتل بالسم لانتصرت الاشتراكية ولكانت البشرية اليوم بخير. ان من يفسر حركة التاريخ من خلال الصفات الشخصية لفرد مهما كانت مكانته ومن خلال الخيانة لم يفهم شيئا عن الماركسية. اعتقد ماركس بان الصراع الطبقي هو من يحدد مسيرة التاريخ. لم نسمع من ماركس بان خروشتشوف او الخيانة او الانقلابات هي محرك التاريخ.!! اذ يقول ماركس في مستهل البيان الشيوعي "إن تاريخ أي مجتمع حتى الآن، ليس سوى تاريخ صراعات طبقية"
ولم يقل ماركس هذه الجملة اعتباطا. كما لم يخص بها مجتمع محدد مثل مجتمع اوروبا مثلا ولا يستثني من هذه الحقيقية الدول الفقيرة او المتخلفة. لم يقولوا لنا هؤلاء، اين كان الصراع الطبقي والطبقة العاملة في الاتحاد السوفيتي عندما كان خروشتشوف يقوم بمؤامراته الخبيثة وتدبير الدسائس ضد الثورة والتواطئي مع "البرجوازية الوضيعة"؟ بل حتى لا يقول لنا اين كان الحزب البلشفي ولااقصد هنا المكتب السياسي بل الحزب كجهاز تنظيمي؟
كما قلنا ان أصحاب هذا الرأي لا يقولون لنا ما هو النظام الاقتصادي الأمريكي او العالمي إذا لم يكن اقتصاد رأسمالي. "الهروب من الاستحقاق الاشتراكي" ليس بنظام وليس له ربط بالتحليل الماركسي. هذه هلوسات " ماركسية" لا غير. بالطبع الاقتصاد الأمريكي ليس اقتصاد مشاعي ولابد ان يكون اقتصاد طبقي، فاذا لم يكن الاقتصاد الرأسمالي الطبقي هو السائد فأي اقتصاد طبقي هو السائد؟

في ظل النظام الرأسمالي وخاصة في عصر العولمة هناك تقسيم عمل على المستوى العالمي وهذا التحليل ليس هروب من الحقيقية بل هو الحقيقة بعينها. ففي الوقت الذي نشهد تقلص التصنيع في دول نجد بان 400 مليون صيني انتقل من الريف الى المدن الصناعية. من جهة أخرى ان حجم الطبقة العاملة الصناعية سوف يتقلص نتيجة تطور القوى الإنتاجية ومكننة الاقتصاد ودخول الروبوت الى الإنتاج بشكل مكثف. في الحقيقة هذا هو أحد التناقضات القاتلة للنظام الرأسمالي. بالدرجة التي يدخل الرأسماليون في سباق محموم لتبديل العامل بالروبوت من اجل تقليص التكاليف بنفس الدرجة يقضون على القوة الشرائية في المجتمع وتزداد احتمالات الركود الاقتصادي.
من يحلم في بناء اقتصاد وطني رأسمالي يتم فيه انتاج كل السلع والخدمات التي تحتاج اليها سكان البلد المعين انما يعيش في خيال. تقسيم العمل على المستوى العالمي تزداد وتيرته بمرور الوقت، حيث يقوم الرأسمالي بإنتاج السلعة في المكان التي تكون التكلفة في اوطأ مستوى وذلك قد يكون نتيجة رخص الطبقة العاملة او بسبب تركز التكنلوجيا وتطور القوة الإنتاجية او القرب من الأسواق او حتى نتيجة سياسات حكومية او ضغط سياسي والنتيجة هي اننا نجد بان الدول تختص في صناعات معينة ففيها من يتخصص في الصناعات الثقيلة واخرى في الصناعات الخفيفة واخرى في الصناعة الزراعية واخرى في انتاج المواد الخامة مثل النفط واخرى في صناعة السلاح وصناعة الجنس و التعليم والسياحة الخ.
هل سيبقى النظام الرأسمالي بالشكل الذي نراه اليوم؟ بالطبع لا، الصين قد لا تبقى مصنع العالم، بعض الرساميل بدأت بترك الصين نتيجة زيادة تكاليف الإنتاج بسبب ارتفاع الأجور. الأجور في الصين ارتفعت بمقدار 400-600% في قرن في حين ان الأجور في الدول الغربية بقت راكدة في اخر 3-4 عقود. لا أحد يمكنه التنبؤ بالمستقبل ولكن هناك علامات قوية تشير الى احتمال انهيار الإمبراطورية الامريكية وهناك بوادر تقسيم جديد للعالم وبروز نظام عالمي جديد. الإجراءات الحمائية قد تهدأ او تتحول الى حرب تجارية حقيقية والى حرب "بارد ة" وحتى الى حرب "غير باردة" تؤدي الى تدمير هائل ولكن هذا لا يعني ان النظام الاقتصادي ليس او لن يكون نظام رأسمالي الا اذا حدثت ثورة طبقية. النظام الرأسمالي سوف يتغير ولن يبقى بالشكل الذي ساد في عصر ماركس ولكن كل القوانين الأساسية لحركة النظام بما فيها الازمات الدورية وتناقضاته الداخلية تبقى هي نفسها كما وصفها ماركس.
في هذا العصر وفي الظروف الحالية للنظام الرأسمالي المتعفن والذي يترنح من ازمة عميقة الى ازمة أعمق بحيث أصبح مصير كل البشرية في خطر جسيم سوآءا بسبب التغير المناخي او احتمال نشوب حروب كارثية يطلب من الماركسي والعمال في العراق النضال من اجل بناء "نظام رأسمالي كلاسيكي" يسود فيه التصنيع والمنافسة الحرة ويكون خالي من السراق والفاسدين!! هل يوجد تفكير وحلم أكثر طوباوي من هذا النوع من التفكير؟ هل ان النضال الطبقي وقلب النظام الحالي والثورة الاشتراكية هي أكثر طوباوية من هذا الهدف؟

الاعتقاد بان النظام الاقتصادي في بلد مثل العراق هو نظام اقتصادي غير رأسمالي ولا تنطبق عليه قوانين النظام الرأسمالي والانتقادات التي توجه الى الماركسيين والشيوعيين على اساسه تبين سطحية أصحابه وبعدهم عن الماركسية. الواقع هو دائما فوضوي ومختلف عن الواقع المثالي المنشود. النظام في العراق بما فيه من حروب وصراعات طائفية والقتل وفساد بمديات فلكية وانهيار أسس المجتمع المدني هو جزء من النظام الرأسمالي. يجب ان نعلم جيدا بان العنف والحرب والفساد بكل اشكاله بما فيه سوء استخدام السلطة السياسية من اجل مصالح اقتصادية، السرقة والتهريب والقتل وحروب وحشية هي خواص متأصلة في النظام الرأسمالي. انها ليس خواص طارئة بل مثلها مثل الازمات الدورية وعدم الاستقرار الاقتصادي وعدم المساواة هي جزء من تركيبة هذا النظام. وهذا موضوع بحاجه الى بحث جدي.
هناك فساد هائل في أمريكا أيضا اذ ان الموقع الرأسمالي المسيطر في الميدان الاقتصادي يمكنه من شراء النظام السياسي والسيطرة على القرار السياسي بشكل غير مباشر ولذا فان اغلب المسائل التي تؤيدها الجماهير في أمريكا لا يمررها الكونجرس كقوانين في حين ان احتمال الموافقة على وامرار القوانين التي تخص القضايا التي يدعمها الرأسماليون هو عالي جدا حتى عندما يكون الدعم الشعبي لها منخفض جدا. ان مدى انتشار الفساد والصراع بما فيه الصراع على الهويات التي تفرضها البرجوازية في خدمة مصالحها يعتمد على توازن القوى بين الطبقة العاملة والطبقة البرجوازية. في مجتمع مثل العراق الذي مر بحروب مدمرة ودمرت فيه أسس المجتمع المدني والبنية الاجتماعية ومؤسسات الدولة وسلمت السلطة الى عصابات طائفية وقومية من خلال احتلال بربري نتوقع كل هذا الفساد والسرقات والجرائم وهي تمثل النظام الرأسمالي الحقيقي الحالي في هذه البقعة الجغرافية.
البعض يدعي بان الاقتصاد العراقي يعتمد على المزارعين والحرفيين الصغار والذي هو رأيا غريبا بحق. عدد المزارعين الصغار والحرفين في الدول المتقدمة مثل كندا وامريكا وأستراليا وأوروبا هو اضعاف ما موجود في العراق ولكن هذا لا يقلل من الطبيعة الرأسمالية لاقتصاديات تلك البلدان.

كون صاحب العمل فرد رأسمالي او دولة لا يغير من طبيعة النظام الانتاجي التي تستند على علاقة صاحب عمل/عامل ومن رأسمالية السلع المنتجة. اغلب الناس في المجتمع العراقي يجب ان يعملوا لصالح طرف اخر من اجل المعيشة سواءا كان ذلك لصالح فرد او الدولة وسواءا كان في مشروع اقتصادي كبير مثل حقول نفط الجنوب او في مشروع صغير مثل صالون حلاقة او مطعم ويجب ان يعملوا حسب نفس شروط موقع العمل الرأسمالي.
عدم وجود صناعات ثقيلة ومصانع ضخمة ليس ذنب العامل او الماركسي والشيوعي وبناء هكذا اقتصاد ليست وظيفتهم. البرجوازية نفسها هي التي تجعل الظروف غير مواتية لتطور الاقتصاد الرأسمالي وللاستثمار سواءا كان من خلال تحول منطقة الشرق الأوسط الى ساحة حروب بالوكالة وتصفية الحسابات بين البرجوازية العالمية او صراعات اجنحة البرجوازية المحلية او الفساد الخ. النضال من اجل إقامة هكذا اقتصاد هو خيال وعمل غير مثمر في المقام الاول. ليست وظيفة الماركسيين تطوير الرأسمالية بل الإجابة على سؤال وهو هل بإمكاننا ان نأتي بما هو افضل من الرأسمالية وكيف يمكننا القيام بذلك.

ان تحليل ماركس للنظام الرأسمالي الذي عرضه في كتاب الرأسمال يركز على العلاقة الأساسية للرأسمالية المعاصرة، العلاقة بين صاحب العمل والعامل في عملية انتاج السلع للبيع في الأسواق. تحليل ماركس لا يقتصر على البضائع بل الخدمات ايضا عندما تأخذ صيغة السلعة والناتجة عن علاقة صاحب عمل / عامل في عملية الإنتاج. ولهذا إذا كانت اقتصاديات معينة تتخصص في انتاج الخدمات أكثر من البضائع لا تقلل من الطبيعة الرأسمالية لتلك المجتمعات وراهنيه نقد ماركس للرأسمالية فيها مادام كانت علاقة صاحب عمل/ عامل هي التي تحكم عملية انتاج تلك الخدمات. ونفس المنطق ينطبق على الطبيعة المحددة للسلع، سواءا كانت السلعة المنتجة النفط او أي مادة خامة أخرى. إذا كانت تلك السلع تستخرج من باطن الأرض، تنقل، وجزء منها يكرر بواسطة مشاريع اقتصادية تحكمها علاقة صاحب عمل/عامل فأنها سلع رأسمالية والعمال المنخرطين في انتاجها هم طبقة عاملة حسب ماركس بنفس قدر العمال المنخرطين في انتاج سلع رأسمالية بصيغة بضائع مصنعة او خدمات الخ. للعراق ميزانية بمليارات الدولارات وبغض النظر عما اذا كانت كافية او لا ، تنفق بشكل صحيح او لا، هذه المبالغ تأتي من الإنتاج. اذا كان 95% من اقتصاد العراق مصدره النفط هذا يدل على أهمية هذه الشريحة من الطبقة العاملة.
كما نعلم في النظام الرأسمالي، الفائض الذي ينتجه العمال يأخذه الرأسمالي حالا ويستخدمه في خلق المزيد من تراكم الرأسمال وأيضا من اجل تعزيز النظام الذي فيه يكون مسيطر اقتصاديا وسياسيا وثقافيا. أذ ليس كل فائض القيمة المنتجة تدخل في جيب الرأسمالي على شكل ارباح. في المشروع الانتاجي الرأسمالي هناك العمال الذين يقومون بالإنتاج وهناك المجموعة الأخرى التي تعمل على تنفيذ المهام الكتابية والإشرافية والأمنية والإدارية الضرورية التي تدعم المجموعة الأولى لإنتاج تلك المنتجات النهائية. وقسم من فائض القيمة تدفع لهذه الشريحة التي تهيا الأرضية للإنتاج وقسم تدفع للضرائب والدعاية وحتى التبرع للممثل السياسي ولوسائل التحميق مثل الاعلام ودور نشر الدين الخ. في العراق كدولة خاضعة للسيطرة الامبريالية مر بما مر به ويحكمه سلطة طائفية وقومية غير مستقرة يعتبر تشكيل المليشيات واجهزة قمعية مليونيه بما فيها الجيش والشرطة وشراء الذمم هي من مستلزمات الإنتاج الرأسمالي. هذا لا يقلل من حقيقة كون العمال مصدر الإنتاج والربح وليس دليل ان علاقات الإنتاج هي علاقات غير رأسمالية او من الواجب النضال من اجل بناء دولة رأسمالية كلاسيكية.
هل تجعل مسالة ضعف القطاع الصناعي ووجود العمال ذوي الياقات الزرقاء عملية الحشد والتغير الاجتماعي أصعب؟ في الحقيقية لا اعرف. على الأقل ان وقائع السنوات الأخيرة بدا من حركة اوكيوباي وللستريت الى ثورات العالم العربي الى الحركة الحالية في فرنسا تبرهن بان الحشد ضد النظام هي ليست أصعب ولكن الذي يغيب هو الشيوعية العمالية التي ترى ان الحل هو في قلب النظام وليس في إصلاحه، وهذا يجعل الجماهير المستائة فريسة لليمين الذي يقدم تحليل بسيط وهو القاء اللوم على المهاجرين وكل ماهو اجنبي لتبرير المشاكل التي تواجه النظام. في الوقت الذي لا يتطور القطاع الصناعي في بلد مثل العراق او يختفي القطاع الصناعي والمعامل الكبيرة في العالم الغربي في نفس الوقت أصبح التواصل بين البشر أسهل وأصبحت مسالة تحميق الجماهير أصعب وأصبح النظام الرأسمالي هشا للغاية. كما يقول البروفسور ديفد هارفي وانا هنا اعيد صياغة ما اقتبسه منه، "إذا ارت شل الاقتصاد الأمريكي فنظم اضرابا لعمال المطارات، فعمال القطاع الصناعي معدومي القوة. فقوة الطبقة العاملة ودورها المركزي للإنتاج الرأسمالي هي في ميادين اقتصادية أخرى".
في الصين قد يكون القطاع الأساسي هو القطاع الصناعي وفي أمريكا قد يكون عمال المطارات وفي العراق هم عمال النفط.
وإذا كانت وظيفة الماركسيين والشيوعيين أصعب وكانت مسالة القيام بتغير اجتماعي أصعب هذا لا يعني اننا يجب ان نقبل بالرأسمالية ونتخلى عن النضال ضد هذا النظام الذي يرسم مستقبلا هالكا للبشرية. كما هذا لا يعني بان للبشرية بديل اخر غير البديل الاشتراكي وغير ماركس وتحليله حول دور الطبقة العاملة المركزي في قلب هذا النظام المتهالك.

أسس تحليل ماركس للنظام الرأسمالي.

لقد طرح ماركس الاف الأفكار ولكن ما يميز تحليل ماركس لحركة المجتمع الرأسمالي ونقده للاقتصاد الرأسمالي هي مجموعة مفاهيم وتحليلات اساسية لابد الرجوع اليها من اجل اثبات ان النظام الاقتصادي في العراق وفي كل انحاء العالم هو اقتصاد رأسمالي. ربما يأتي احد " الماركسيون" باقتباس من رسالة يدعي بان ماركس وجهها الى الطبقة العاملة العراقية في " العراق الجديد" يحذرهم من الثورة لكون العراق ليس بلدا متطورا، ولكن تبقى هكذا اقتباسات والاف من أفكار ماركس هي ليست الأفكار الأساسية لفهم طبيعة النظام الرأسمالي.

ان احد اسس تحليل ماركس ونقده للرأسمالية ونقولها للمرة الالف هي العلاقة الاساسية في النظام الرأسمالي وهي العلاقة التي تنظم عملية الإنتاج، اي العلاقة بين صاحب العمل والعامل في انتاج السلع للبيع في الاسواق. عندما قال ماركس بان الرأسمالية ليس أداة تحقيق شعار الثورة الفرنسية- الحرية العدالة والاخوة وخصص عمره من اجل اثبات ادعائه هذا، كان على اساس كون تنظيم عملية الانتاج على اساس صاحب عمل/عامل وليس اي صفة اخرى من صفات النظام الرأسمالي مثل التطور التكنلوجي وتطور القطاع الصناعي، تنوع السلع المنتجة او مقدار التصدير الخ.
بمعنى اخر لم تكن مسالة حجم الطبقة العاملة، حجم القطاع الصناعي وتطوره، تطور القوة الإنتاجية، نوع السلعة المنتجة- بضاعة او خدمات، تنوع السلع المنتجة، التطور التكنلوجي، او مقدار التصدير الخ مسائل اساسية في نقد ماركس للرأسمالية. كما قلنا ان حقيقية كون بعض الاقتصاديات الحديثة تنتج خدمات أكثر من بضائع، او تعتمد على الصناعات الخامة والصناعات التجميعية او السياحة او الخدمات الصحية، الجنس الخ لا يقلل من الطبيعة الرأسمالية للمجتمع ومن نقد ماركس للنظام الرأسمالي في تلك البلدان ما دمت العلاقة صاحب العمل/ العامل هي التي تحكم عملية انتاج البضائع والخدمات.
ولذلك من اجل حل مسالة عدم المساواة، الازمات الدورية والاغتراب وغياب العدالة والحروب والفساد وكل المشاكل الجوهرية للنظام الرأسمالي وحتى عدم الوصول الى الطريق المسدود الذي وصل اليه الاتحاد السوفيتي يجب تغير نمط الإنتاج الرأسمالي المستند على صاحب عمل/عامل.

ومن أفكار ماركس الأساسية هو كيف نعرف الطبقة والدور الحيوي للطبقة العاملة في التغير الاجتماعي.
تعريف ماركس للطبقة يختلف بشكل جذري عن المفهومين السائدين عن الطبقة حيث يستند المفهوم الأول على مقدار الثروة المملوكة او الدخل او كلاهما أي بشكل تبسيطي يقسم المجتمع الى اغنياء وفقراء ويستند المفهوم الاخر للطبقة على السلطة التي تمارس على الاخرين حيث يقسم المجتمع الى هؤلاء الذين يعطون الاوامر وهؤلاء الذي يأخذون الأوامر من الاخرين، اي الطبقة الحاكمة والمحكومة. تعريف ماركس للطبقة يستند على عملية انتاج وتوزيع الفائض. فالطبقة حسب ماركس لا تحددها مقدار الثروة والسلطة بل التحكم بالفائض في حين ان الثروة والسلطة هي عواقب التحكم بالفائض. الانسان يقوم بنشاط يعرف باسم الإنتاج. في الإنتاج، يستخدم العمال - الرجال والنساء عقولهم وعضلاتهم - لتحويل الأشياء التي تحدث بشكل طبيعي إلى منتجات مفيدة للإنسان. في كل المجتمعات هناك دائما شرائح من السكان التي تقوم بانتاج السلع والخدمات من خلال العمل وهناك عادة جزء من السكان ينتجون اكثر مما يستهلكونه أي "فائض الانتاج". وجميع المجتمعات البشرية تنتج مثل هذه الفوائض. ولكن تختلف المجتمعات في كيفية تنظيم إنتاج وتوزيع هذا الفائض. أي من يقوم بالإنتاج ومن يستولي على الإنتاج ومن يستلم حصة من الفائض.
يقوم كل مجتمع بتحديد أشخاص آخرين للقيام بأعمال لا تنتج بحد ذاتها فائضاً، بل توفر ظروفاً لعمل العمال الذين ينتجون الفائض. هؤلاء الذين يوفرون الارضية لإنتاج الفائض من قبل الآخرين يحتاجون إلى جزء من الفائض الذي ينتجوه الاخرون من اجل استهلاكهم الخاص ومن اجل الادوات التي يحتاجون اليها لإدامة عملهم، أي توفير الأرضية للإنتاج. مثلا الشخص الذي يحتفظ بالسجلات اللازمة لما يقوم به العمال الذين ينتجون الفائض،و الذي يتأكد من أن منتجي الفائض يواصلون مهمتهم، والذي يحمي موقع العمل والملكية ومن يقوم بالتخطيط لعملية الإنتاج هم ممن يوفرون الأرضية للإنتاج أي هم عوامل التمكين. كانت هناك حاجة إلى كل من العمال المنتجين وغير المنتجين لأي هيكل طبقي قائم ومستمر، لكن علاقتهم بفائض الإنتاج تختلف بشكل حاسم من نظام الى نظام اخر. وهناك شرائح أخرى في المجتمع التي تعيش على الفائض مثل الكاهن والفنان والسياسي ألخ. كما قلنا يحدد كل مجتمع أي من الأفراد يحصلون على حصص من الفائض، ويستهلكونها، وبالتالي يعيشون دون أن يقوموا بأي عمل لإنتاج الفائض. التركيب الطبقي لمجتمع تحدد من خلال الطريقة المميزة التي يتم من خلالها تنظيم وتوزيع الفائض.
في المجتمعات البدائية يقوم كل من له الامكانية بالمشاركة في الإنتاج " الصيد وجمع الثمار الموجودة في الطبيعة" ومن ثم يقوم نفس الافراد او رئيس العائلة او كبار السن في القبيلة او الكاهن بتوزيعها على الجميع بما فيهم من لا يمكنه المشاركة في الإنتاج مثل الأطفال والشيوخ والمرضى والنساء الحوامل الى اخرة. في المجتمعات الطبقية تقوم شريحة هي غير الشريحة التي تقوم بالإنتاج بالاستيلاء على الإنتاج ويقومون بتوزيع جزء منها للمنتجين لكي يبقوا على قيد الحياة ويكونوا قادرين على القيام بالمزيد من الإنتاج في اليوم التالي وجزء على من لا يمكنه الإنتاج مثل الأطفال والشيوخ الى اخره وجزء على شريحة تهيئ الأرضية لإدامة عملية الانتاج ولكن جزء كبير من الفائض يحتفظون به لأنفسهم.
لذا فلدى ماركس الطبقة و التركيب الطبقي للمجتمع هو تنظيمها المتميز لإنتاج وتوزيع الفائض. مفهوم ماركس للطبقة باعتبارها الفائض هو مفهوم جديد ومختلف تماما عن مفهوم الملكية والسلطة للطبقة وهو أساس كل التحليل الماركسي للنظام الطبقي بما فيها النظام الرأسمالي. في الواقع مسالة تعريف الطبقة هي أحد مساهمات ماركس في تحليل المجتمعات الطبقية. التحليل الذي لا يستند على هذا المفهوم الجديد ليس بتحليل ماركسي. لماذا هذا مهم؟
لأنه كما يقول البروفسور ريجارد ووللف عبر تاريخ البشرية الثورات الاجتماعية التي سعت الى احداث تحول في المجتمع عن طريق تغير البنية الطبقية للمجتمع استنادا الى المفهومين السائدين للطبقة اما سعت الى تنظيم كيف يتم توزيع الثروة والدخل او إعادة توزيعها أي كان هدفها تحقيق توزيع أكثر عدالة للثروة والدخل او سعت الى تنظيم كيف وزعت السلطة او إعادة توزيعها أي كان هدفها توزيع اكثر ديمقراطي للسلطة. وفي الكثير من الأحيان اعتقد بان التوزيع الاجتماعي للثروة والدخل من شأنه بالضرورة أن يغيّر التوزيع الاجتماعي للسلطة وبالمقابل تغير في توزيع السلطة سيغير بالضرورة التوزيع الاجتماعي للملكية. وهذا أدى الى اعتقاد اخر وهو ان تجريد جزء من المجتمع من الثروة سوف يؤدي الى تجريدهم من السلطة وبالعكس. ولكن كل الثورات لحد الان حتى تلك التي تمكنت من هزيمة القوى التي قاومت التغير الثوري عانت من القصور والفشل. فحتى عندما حققت تلك الثورات تغييرات كبيرة وتقدمية اجتماعيًا في توزيع الملكية والسلطة، الا انها لم تصل إلى مستويات المساواة والديمقراطية التي كانت تامل وتعمل من أجلها وفي الكثير من الأحيان لم تستمر التغييرات التقدمية التي حققتها الا لفترة قصيرة. بالنسبة لماركس، كانت الثورة الفرنسية احدى تلك الثورات، لقد أطاحت بالإقطاعية لكن أهدافها في الحرية والمساواة والاخوة لم تتحقق. لقد تمكن ماركس من كشف سبب هذه الإخفاقات والقصور وهو ان الثوار لم يفهموا عملية أساسية في كل المجتمعات ولم يقوموا بالمساس بها فادت بالتالي الى تقويض وفشل مشاريعهم الثورية. هذه العملية الأساسية تمثلت في مفهوم الطبقة نفسه هي عملية انتاج وتوزيع الفائض. أي العملية الأساسية هي الطبقة بوصفها الفائض التي هي أساس الثروة والسلطة. لذا فالطبقة السائدة احتفظت بمصادر القوة من خلال السيطرة على الفائض المنتج في المجتمع لتقويض هذا التقدم وحتى الغائه . الثورات أحيانا غيرت من هي الشريحة التي تحصل على الفائض من اسياد في النظام العبودي الى الاقطاعيين في النظام الاقطاعي والى الرأسماليين في النظام الرأسمالي ولكن هذه الثورات لم تغير حقيقة ان شريحة معينة هي غير تلك التي تنتج الفائض تسيطر على الفائض وتقوم بالتحكم به. الثورات التي تحدث في عصرنا بما فيها ثورات ما يسمى بالربيع العربي قد فشلت لانها لم تهدف الى تغير التركيب الطبقي للمجتمع أي تغير عملية انتاج وتوزيع الفائض. لذا فان نضال الماركسيين يجب ان يهدف الى تغير التركيب الطبقي للمجتمع على هذا الأساس وليس التخلص من " طبقة الفاسدين" او" طبقة الدكتاتوريين" ألخ. في العراق أي نضال لايقوم بتغير التركيب الطبقي للمجتمع او على الأقل لايهدف الى القيام بهذا التغير لن يتمكن من تحقيق مكاسب ذات قيمة.

حسب ماركس ما يجعل الطبقة العاملة مهمة في النظام الرأسمالي ويعطيها دور محوري في تغير المجتمع القائم وبناء مجتمع جديد هو انها صنف اجتماعي اساسي في الرأسمالية نتيجة علاقتها الأساسية مع كل الفعالية الاقتصادية. للطبقة العاملة قوة كامنة ليس موجودة عند اي شريحة اجتماعية أخرى. هي الطبقة التي بإمكانها المساس بالتركيب الطبقي للمجتمع عن طريق تغير من يمكنه الاستيلاء على الفائض.

السياسة هي ليست فقط مسالة اتخاذ موقف أخلاقي من القضايا، والافصاح عما هو سيئ في المجتمع بما فيه الفساد والتخلف والظلم بل هي أيضا حول تغير هذا الواقع. مفتاح التغير في المجتمع الرأسمالي هو تنظيم الطبقة العاملة لإنها هي لاعب أساسي في المجتمع الذي بإمكانه القيام بالتغير الذي ننشده. العمال هم القوة الوحيدة القادرة على تغير الوضع الكالح بطريقة جذرية لسبب استراتيجي وهو انهم يشكلون قوة أساسية في اقتصاد المجتمع ولهم موقع في تركيبة المجتمع الذي يمكنهم اركاع مراكز القوة فيه ولهم المصلحة للقيام بذلك. الواقع هو ان الطبقة العاملة هي الغالبية في المجتمع الرأسمالي وهي جزء المجتمع الذي يعاني اكثر من أي جزء اخر والذي يتضرر اكثر من عدم المساواة الموجودة في المجتمع، والحرمان، وفقدان الاستقلالية والاغتراب وانعدام الأمن الخ. ان النضال الذي لاتشكل الطبقة العاملة مهما كان حجمها وايا كان تركيبها عمودها الفقري والتي لا تهدف الى المساس بالتركيب الطبقي للمجتمع سوف لن تحقق النتائج المرجوة.

الانتقال الى النظام الاشتراكي.

بخصوص مسالة هل الانتقال الى الاشتراكية سوف يكون من خلال بناء التعاونيات العمالية الى ان تكون من القوة بحيت تصبح مسالة قلب النظام تحصيل حاصل او من خلال الثورة، هذا الموضوع يحتاج الى بحث تفصيلي ولكن باختصار التاريخ يقول بان قبل الثورات الطبقية عادة مايكون هناك نوايا لنمط الإنتاج الجديد في قلب النظام القديم منتشرة على نطاق واسع ولكن قلب النظام عادة ماياتي من خلال الثورة. لقد كانت هناك نماذج للإنتاج الاقطاعي في قلب النظام العبودي قبل الإطاحة بهذا النظام. كما كانت هناك نماذج لنمط الإنتاج الراسمالي في قلب النظام الاقطاعي ولكن كانت الثورات البرجوازية هي التي أطاحت بالنظام الاقطاعي. الان هناك حركة عالمية لبناء التعاونيات العمالية من موندراكون Mondragon في اسبانيا الى التعاونيات العمالية في أمريكا مثل جاكسون Jackson في ميسيسبي او بليوود plywood في شمال غرب أمريكا او منطقة ايمليا -روماكنة Emilia-Romagna في ايطاليا والمئات من المحاولات الأخرى في أمريكا واوربا وكوبا والصين. لقد برهنت هذه التجارب بان التعاونيات العمالية قد تكون بكفائة ان لن تكن اكثر كفائة من المشاريع الإنتاجية الخاصة. كما ان جيرمي كوربن قائد حزب العمال البريطاني قد وعد بان حال فوزه بالسلطة وهو احتمال قوي جدا سوف يولي اهتمام خاص ببناء قطاع التعاونيات العمالية حيث سيمرر قانون يجبر الشركات التي تود ان توقف الانتاج نتيجة الفشل او أي سبب اخر مثل الانتقال الى دولة اخرى او التي تقرر بيع نفسها الى شركات أخرى او التطويف في سوق الأسهم ان تعطي العمال الحق والاولوية لشراء تلك الشركات . وقد تعهد بان تضمن الدولة القروض اللازمة التي تساعد العمال لشراء تلك المشاريع. رغم هذا فان بناء التعاونيات هو ليس كافية لقلب النظام. الان حيث لا تشكل التعاونيات خطر جدي على النظام لم نجد مقاومة تذكر ولكن ما ان تصبح خطرا، فلن تجد الطبقة الحاكمة أي مشكلة في استخدام كل السبل من اجل قمعها وافشالها. من جهة أخرى فقد برهن لينين عمليا ان استلام السلطة حتى من قبل قوة صغيرة في الوقت المناسب ممكن من خلال الثورة. لذا فان بناء التعاونيات ضروري لكي نكشف للجماهير البديل الاشتراكي ولكن قلب النظام لن يأتي الا من خلال ثورة يقودها حزب ثوري يمثل الشيوعية العمالية.