لِمَ لَمْ تَبْلُغ انْتِفَاضَةُ أََبْرِيلَ مَرَمَاهَا؟!


كمال الجزولي
الحوار المتمدن - العدد: 6098 - 2018 / 12 / 29 - 03:38
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

(1)
شرُفتُ، خلال زمن قياسي، بتحرير صفحات من أوراق عمر صديقي الرَّاحل د. أمين مكي مدني، عهدت بها إليَّ، مطلع أكتوبر 2018م، لجنة قوميَّة تكوَّنت لتخليد ذكراه. كان المطلوب تحرير هذه الأوراق كمذكِّرات، وإصدار طبعة تذكاريَّة منها ليوم تأبينه الحادي والعشرين من نوفمبر. قضينا، في البدء، إبنته سارة وشخصي، نهاراً بأكمله ننبش عنها في مكتبه المنزليِّ الصَّغير، دون أن نعثر عليها مكتملة. لكن الصَّفحات التي وقعت بين أيدينا منها اسفرت عن أثمن الدُّروس لهذه الأيَّام، وأعمق المعاني لكلِّ الأزمنة، فقلنا ننشرها، ولو غير مكتملة، حيث لن تقلَّ قيمتها عن البورتريهات غير المكتملة unfinished portraits التي قد يتضمَّنها، أحياناً، إرث كبار الفنَّانين التَّشكيليِّين، يخاطبون بها المتلقِّين الأذكياء، وسط الأجيال الحديثة بالذَّات، ليُعملوا أخيلتهم الخصيبة في استكمال الخطوط النَّاقصة، واستحضار الألوان الغائبة، لا سيَّما وهو القائل في فاتحة تلك الصَّفحات أن "الأجيال الحديثة تكاد لا تعرف شيئاً عن أحداث تاريخنا المعاصر، وما ذلك إلا لإحجام شهودها عن التَّوثيق لها، رغم عظم التَّأثيرات التي قد ترتِّبها على مجمل التَّطوُّر السِّياسي لبلادنا"!
استذكر أمينٌّ ملامح الأيَّام الأواخر لنظام النِّميري، راسماً صورة بلد فاض به كيل الصَّبر السِّياسي، وما عاد يشغله سوى التَّخلص من ذلك النِّظام، فما اجتمع نفر من النَّاس في سرادق عزاء، أو حفل زواج، أو مجلس سمر، إلا وكان التَّخثُّر الذي بلغته الأوضاع العامَّة، والتَّضَعضُع الذي حاق بسلطة الفرد المطلقة، فضلاً عن سبل الخلاص، والبدائل المحتملة، بمثابة القاسم المشترك بين أحاديثهم. لكن السًَّامر دائماً ما كان ينفضُّ، لتعود الأحاديث تتَّصل في حلقة مفرغة تفاقم من الحيرة، والإحباط، والقلق، دون أن تبلور تصوُّراً محدَّداً لما يجدر عمله. وبالحقِّ ما كان ذلك منتظراً منها، كونه شغل الأحزاب التي لا وجه للمقارنة بين إمكاناتها وبين ثرثرات الهواتف، وسرادقات المآتم، وحلقات الأنس!

(2)
لم يواجه أمين، ومن معه من الميسِّرين، خلافاً يذكر بين الأحزاب، والنِّقابات، والاتِّحادات، والمنظمات الجَّماهيريَّة، حول إسقاط النِّظام واستعادة الدِّيموقراطيَّة، كهدف، ولا حتَّى حول العصيان المدني والإضراب السِّياسي، كأداة. أمَّا في ما عدا ذلك فلم يكن ثمَّة اتِّفاق على الموقف من التَّحالفات، أو العمل المسلح، أو صيغة المقاومة المدنيَّة، أو هيكلة الحكم القادم، دَعْ سياساته التَّفصيليَّة. كان الجَّميع يلهجون بتعبيرات مطلقة، في فضاءات الحراك السِّياسي، عن التَّحشيد، والتَّجهـيز، والتَّنسـيق، دون التَّوافـق على أداة محدَّدة، أو صيغة ملموسة، أو شكل بعينه!
وعندما بدأت الأعمال التَّحضيريَّة لانتفاضة مارس ـ أبريل 1985م، كان من الضَّروري أن تتفاكر النِّقابات مع الأحزاب حول تلك المسائل، خاصَّة أن الأخيرة، بالذَّات، كانت معنيَّة بذلك، في المقام الأوَّل، لموقعها من قضايا الاسترتيجيَّة والتَّكتيك. غير أن قناعات سالبة سادت، للأسف، وسط القادة النِّقابيِّين، بعدم التَّعويل على الأحزاب الكبيرة، لضعفها، كما قالوا، وانشـغالها بمصـالحها الذَّاتيَّة، مِمَّا أثَّر على علاقات الطرفين، حتَّى بعد اندحار النِّظام، وعقَّد عمل الميسِّرين، خاصَّة وأن بعض النِّقابيِّين بدأوا يدعون، صراحة، للَّتركيز، فقط، على النِّقابات والمنظمات الجَّماهيريَّة، بل ويقترحون "الانقلاب العسكري" وسيلة للتَّغـيير في إطار "ليبرالي"! ويورد أمين نصح الرَّاحل نقد لهم، عندما استشاروه، بالتزام الصَّبر والمثابرة، كون العمل الجَّبهوى وسط أحزابنا يحتاج إلى وقت، وطول بال، حيث أن النِّقابات والمنظمات، مهما كان حماسها، لن تستطيع إنجاز شئ بالتَّجاوز للأحزاب. أمَّا الانقلاب العسكري فغير مضمون العواقب، بالغاً ما بلغت مواثيقه، ومهما وصف بالتَّقدميَّة أو "الليبراليَّة"!

(3)
لم يترتَّب العسر، فقط، على مواقف النِّقابات من الحزبين الكبيرين، بل وعلى عدم المواتاة التَّنظيميَّة داخل هذين الحزبين ذاتهما. فالاتِّحادي، رغم أن الميرغني عَمَدَ، كمركز قيادة، إلى تعيين ممثليه في الاجتماعات، ظلَّ يعاني من التَّشاقق، حيث اصطدم الميسِّرون بوجود كتلة داخله تناوئ مجموعة الميرغني التي كانت قد انضمَّت إلى مشروع "التَّجمُّع الوطني الدِّيموقراطي". لكن الميسِّرين لم ينتبهوا لتلك الكتلة إلا بعد أن قطعت اللقاءات شوطاً بعيداً. ومع ذلك كان لا بُدَّ من استقطابها، فاجتمعوا بقادتها الذين أكَّدوا استعدادهم لمحاربة النِّظام بكلِّ ما أوتوا من قوَّة. غير أنهم عبَّروا، بنفس الوضوح، عن عدم ثقتهم في القدرات النِّضاليَّة لمجموعة الميرغني، متَّهمين أقطابها بتأييد النِّظام، وانخراطهم في مؤسَّساته، وانتفاعهم منه! وفي السِّياق أضافوا أنهم يعملون ضمن تحالف آخر لم يفصحوا عنه! لكن لا بُدَّ من الإشارة إلى أن مجموعة الميرغني نفسها كانت على علم بتلك الكتلة، ولديها، بالمقابل، تحفظاتها عليها!
أمَّا حزب الأمَّة، فلم يكن حاله بأكثر مواتاة، تنظيميَّاً، حيث افتقر مندوبوه للتَّناسق، فكانوا يضطرُّون، المرَّة تلو المرَّة، لطلب تأجيل الاجتماعات، ريثما يُجرون بعض الاتِّصالات، إمَّا لاختلاف آرائهم، أو لنقص تفويضهم، أو لعدم تحقُّقهم، أحياناً، من المواقف النِّهائيَّة لقياداتهم العليا، مِمَّا تسبَّب في تبديد الزَّمن، وتثبيط المعنويَّات، وإضعاف التَّفاؤل بالوصول لاتِّفاق حول ما عرف لاحقاً بـ "ميثاق الانتفاضة"!
جرى، أيضاً، وباقتراح من حزب الأمَّة، ضمُّ صمويل أرو وتوبي مادوت كممثِّلَين لحزب سانو، إشراكاً جزافيَّاً لـ "الجَّنوبيِّين" في مشروع تكوين "التَّجمُّع الوطني الدِّيموقراطي". لكن سرعان ما اتَّضح أن سانو كان مرتبطاً بالعمل ضمن تحالف آخر، هو "تجمُّع الشَّعب السُّوداني"، مع حزب البعث العربي الاشتراكي، وحزب الأمَّة/ جناح الهادي، وكتلة الاتِّحادي المناوئة لمجموعة الميرغني. على أن سانو لم يذكر تلك الواقعة لدى انضمامه إلى مشروع "التَّجمُّع الوطني"، لولا أن كشف عنها القيادي البعثي شوقي ملاسي، خلال مناقشة بينه وبين أمين، بشاطئ سوسة التُّونسيَّة، على هامش مؤتمر المحامين العرب عام 1984م، حيث عبَّر عن عدم جدوى مشروع "التَّجمُّع الوطني الدِّيموقراطي" في وجود "تجمُّع الشَّعب السُّوداني"، بالإضافة لاعتراضهم، كما قال، على علاقة منصور خالد بذلك المشروع! ومع أن محاوري ملاسي نفوا له تلك العلاقة، رغم كون منصوراً أضحى معارضاً ضمن "الحركة الشَّعبيَّة"، إلا أن ملاسي لم يقتنع!
عموماً كان في مثل تلك العوائق، وفي الشِّقاق بين جناحي الهادي والصَّادق داخل حزب الأمة، وفي المجموعتين المار ذكرهما في الاتحادي، وفي صعوبة معرفة مركز القرار داخل كلِّ حزب، وبدرجة أكثر صعوبة معرفة من يمثل الأحزاب الجَّنوبيَّة، بما فيها سانو الذي انخرط في عضوية التَّحالفين معاً، ما أغنى عن بذل أي جهد لجمع تلك الأشتات في تنظيم واحد! لذا، عندما كان الميسِّرون يعدُّون للتَّوقيع على ميثاق الانتفاضة، ليلة الخامس على السَّادس من أبريل، لم يُشرَك البعث، ولا الأمَّة جناح الهادي، ولا كتلة الاتِّحادي المناوئة للميرغني، ولا حتَّى سانو، بدعوى عدم معرفة أيِّ عنوان لصمويل أو توبي!
واستطراداً، نصح أبيل ألير لأمين، عندما استشاره حول القوى السِّياسيَّة الجَّنوبيَّة، بأن الجِّيل الجَّديد ما عادت تلهمه القيادات الحزبيَّة التي فضَّلت النُّزوح إلى الخرطوم، كما قال، جرياً وراء المنافع الشَّخصيَّة الضَّيِّقة، وأن ذلك الجِّيل وجد ما يجذبه في أطروحات "الحركة الشَّعبيَّة" التي تكوَّنت صيف 1983م، لخلق "السُّودان الجَّديد". لكن، برغم نصيحة أبيل، لم يتصدَّ، لا الميسِّرون ولا التَّجمُّعان الحزبي والنِّقابي، لمهمَّة ضمِّ "الحركة الشَّعبيَّة" إلى جهود تأهيل المعارضة للجَّولة الأخيرة من الصِّراع مع مايو، فالقوى السِّياسيَّة الشَّماليَّة اعتادت أن تعتبر استلحاق القوى السِّياسيَّة الجَّنوبيَّة بها أمراً مفروغاً منه!

(4)
كان من الضَّروري، كما سلفت الإشارة، أن يتضمَّن أيُّ ميثاق بين الأحزاب والنِّقابات، فضلاً عن المسائل العامَّة التي تتمحور حول استرداد الدِّيموقراطيَّة، مسائل تفصيليَّة حول القوانين البديلة لقوانين سبتمير، ومعالجة الأزمة الإقتصاديَّة، والحرب الأهليَّة، والحكم المحلي، والسِّياسة الخارجيَّة، والخدمة المدنيَّة، والمؤسَّسات، والإعلام، وما إلى ذلك من قضايا تمثِّل تركة مايو المثقلة بالمشكلات. على أن التَّوافق لم يتحقَّق بشأن هذه المسائل، مِمَّا أدَّى إلى الكثير من تضارب الأطروحات، وتباطؤ الاجتماعات. كذلك كان لغياب الهياكل التَّنظيميَّة، كالمكاتب السِّياسيَّة، واللجان التَّنفيذيَّة، أثره في تشعُّب وجهات النَّظر، وتواتر تغيير المواقف. كما كانت محل خلاف، أيضاً، الهياكل الُّدستوريَّة اللاحقة، وطرق تكوينها، وأعداد عضويَّتها، ونسب التَّمثيل فيها، فضلاً عن طول الفترة الانتقاليَّة، وقانون الانتخابات، وتمثيل القوى الحديثة .. الخ. وقد ظلَّ ذلك الخلاف قائماً حتَّى نهاية إعداد "ميثاق الانتفاضة"، مِمَّا فرض إسقاطها منه، فاقتصر توقيعه، قبل ساعات، فقط، من إذاعة بيان سوار الدَّهب، صباح السَّادس من أبريل، على العموميَّات التي لم تكن كافية، بأيِّ حال، لبلورة رؤى وثيقة حول التَّغيير المنشود!

(5)
شهد اجتماع ليل الخامس على السَّادس من أبريل، والذي كان مكرَّساً لتوقيع وإصدار "ميثاق الانتفاضة"، والإعلان عن تكوين "التَّجمُّع الوطني الدِّيموقراطي"، صداماً كارثيَّاً بين بعض ممثلي النِّقابات والأحزاب، مِمَّا كاد يتسبَّب في نسف الاجتماع برمَّته، تتويجاً لسلسلة طويلة من تناقضات الطرفين! ثمَّ جاء، لاحقاً، الأسلوب الحربي للإعلان عن تكوين "المجلس العسكري الانتقالي" كمجلس سيادة، والنهج المرتبك الذي اتُّبع في اختيار الوزراء الانتقاليِّين، والتَّخوين الفظ الذي طال، أثناء ذلك، أبرز رموز الانتفاضة، وأهمِّ ميسِّري التَّفاوض بين الأحزاب والنِّقابات، وعلى رأسهم أمين نفسه! فإذا أضفنا عدم التَّنسيق، حتَّى ذلك الوقت، مع "الحركة الشَّعبيَّة"، وخطأ "الحركة الشَّعبيَّة"، بالمقابل، في تقييم الانتفاضة باعتبارها "مايو الثَّانية ـ May 2"، مِمَّا أعطى قادة الجَّيش مبرِّراً قويَّاً للتَّعجيل بتكوين "المجلس العسكري الانتقالي" دون مشاورة "التَّجمُّع الوطني الدِّيموقراطي"، وأخلَّ بتوازن القوى، وأضعف موقف "التَّجمُّع" إزاء قرارات ذلك المجلس، كما وإزاء بعض الأحداث التي جرت خلال اجتماعات الطرفين، لاحقاً، خصوصاً تمكين ممثلي "الجَّبهة الإسلاميَّة القوميَّة" من اختراق بعض هذه الاجتماعات، بعلم مسبق من المجلس، رغم أنهم ليسوا طرفاً فيها، وما إلى ذلك من وقائع وأحداث، لأدركنا، حينئذٍ، كيف جاء ميلاد "التَّجمُّع الوطني الدِّيموقراطي"، خديجاً، في مناخ من الاتِّهامات، وعدم الثِّقة المتبادلة، رغم أنه، كما كان يُفترض، تحالفٌ استراتيجيٌّ حاسم التَّأثيرعلى مستقبل الانتفاضة!
بالنَّتيجة تركت تلك العوامل السَّالبة، والعلاقات المتوتِّرة، بصماتها، ليس فقط على مجريات الفترة الإنتقاليَّة، بل وشملت فترة الدِّيموقراطيَّة الثَّالثة بأسرها، فعرقلت بلوغ الانتفاضة مراميها، ومهَّدت أرضاً صالحة عبرت فوقها مجنزرات الانقلاب الإسلاموي في الثَّلاثين من يونيو 1989م!

***