كيف كسر الرئيسُ الحائطَ الرابع؟


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 6098 - 2018 / 12 / 29 - 03:36
المحور: المجتمع المدني     

فاطمة ناعوت
Facebook: @NaootOfficial
Twitter: @FatimaNaoot



تكلمتُ الخميسَ الماضي في مقال: (الرئيسُ يكسرُ الحائطَ الرابع)، عن "الفلسفة" التي علينا اقتناصُها وتأمّلها، حين فاجأ الرئيسُ السيسي أحد المسؤولين في الدولة بطرح بضعة أسئلة، أمام ملايين العيون المباشرة ومن وراء الفضائيات. وعدّدتُ في المقال أفكارًا عدة، حتى خَلُصتُ إلى أن الفلسفة الكبرى من ذلك المشهد الخاطف، هي أن الرئيس عبد الفتاح السيسي أراد أن "يهدم الحائطَ الرابع"، الذي يقفُ بين "صانع القرار" في الدولة المصرية، و"المواطن" المصري. وطلب القرّاءُ منّي توضيحَ أمر "الحائط الرابع". وها أنا أكملُ فكرتي وأُشرِّحُها بمباضع التفصيل.
"هدم الحائط الرابع" هو تعبير فنيّ مسرحيّ ابتكره برتولد فريدريش بريخت، الكاتبُ المسرحي الألماني المعروف، ولامسه من قبله فرسان المسرح الإغريقي القديم. أما "الحائط الرابع" فهو الفاصلُ الشفاف الوهميّ الذي يفصلُ بين الأبطال (صُنّاع الدراما) فوق الخشبة، وبين الجمهور في قاعة العرض. باعتبار أن للمسرح ثلاثة جدران تجري بينها أحداثُ الدراما، تكتمل بالحائط الرابع الوهمي. وأما "هدمُ الحائط الرابع"، فيكون باختراق ذلك الحاجز مجازًا، بهدف إشراك النظّارة مع الأبطال في صناعة الدراما الملحمية التي تجري في مسرح الأحداث. فيتحوّل الجمهورُ من متفرج صامت، إلى فاعل صانع لأحداث العمل الدرامي الدائر أمامهم. فبدلا من جلوسهم في كسل وتراخ، ينظرون وينتظرون النهاية؛ نجبرهم على الانخراط مع الأبطال في الدراما. وباعتبار أن خشبةُ المسرح هي نموذجٌ مصّغرٌ للحياة، بكل دراماها ومشاكلها وتسلسل أحداثها وعقدتها العليا، التي بعدها تتفكك الأحداثُ حتى تحين لحظة حل المشكلات، بوسعي أن أقول إن المشهد الذي طرح فيه الرئيس أسئلته الثلاثة على محافظ القاهرة، يُعدُّ هدمًا للحائط الرابع بين الشعب المصري، و"مسرح العملية السياسية"،التي يحكم الدولة ويحميها ويسعى إلى تطوّرها.
هكذا فعل الرئيسُ في واقعة "الأسئلة الثلاثة"، وهكذا يفعلُ في مجمل خُطبه وكلماته السريعة التي يوجهها لنا في كل المناسبات. كأنها رسالةٌ للشعب المصري تقول: “أنتم الشعبُ المصريُّ، وأنا الرئيسُ المصريُّ، وأولئك المسؤولون المصريون في هذه الدولة، نقود سفينةً واحدة اسمها: مصرُ. وعلينا (جميعًا) تقعُ مسؤوليةُ سلامِها وسلامتها ونهضتها ووصولها إلى برّ الأمان. لستُ وحدي المسؤولَ، بل كلُّ مواطن من ملايين المصريين يحملُ مسؤوليته ويؤدي دورَه في تلك السفينة، لو أردنا لها نجاةً. غيرُ مسموح بالفساد أو الإهمال، غيرُ مسموح بالهَدْر والتخريب، غيرُ مسموح بالإنجاب دون حساب، غيرُ مسموح بالطائفية والتنمّر والمراهقات الفكرية، غير مسموح ألا نراعي الَله والضمير وحقَّ الوطن في كل خطوة نخطوها.”
إنها الشفافية التي ينهجها الرئيسُ حتى يشعرَ كلُّ مواطن بخطورة اللحظة التي نمرُّ بها. الشفافيةُ وهدم الحائط بين المسؤول والمواطن هما السبيلُ إلى وأد الشائعات التي يطلقها أعداءُ مصرَ بهدف تحطيم الطاقة المعنوية لدى المصريين. الشفافية هي التي ستجعلُ المواطنَ المصري يشعر بأزمات اللحظة فيصبرُ ويتفانى في العمل حتى نمرّ منها بسلام. علينا جميعًا كمصريين أن نفخر بالمشروعات الجديدة التي تُفتتَح كلَّ نهار، وأن ندرك أن المردودَ منها آتٍ في أمد ليس بالبعيد، وكذلك ليس بالقريب. لأننا نُسدّدُ فاتورة باهظة قديمة صنعتها عقودٌ وسنوات طوال، ولا يليقُ أن نجعلها تتفاقم حتى نورِّثها لأبنائنا، مثلما ورثناها عن آبائنا. علينا جميعًا، دون استثناء، أن ندرك حجم التحديات التي تواجهها مصرُ الآن. وأن نوقن أن الغلاء المُرَّ الذي يُعكّر صفونَا اليوم، هو ميراثٌ عقود طوال من الاستهلاك والانفجار السكاني غير المنتج وانخفاض الكفاءة الانتاجية، ما تسبب في حال مخيفة من التضخم والبطالة والأزمات الاقتصادية التي نعمل على تجاوزها (معًا). الرئيسُ يودُّ أن يتحوَّلَ المواطنُ المصري من "متفرج" لا يدري ما يجري، إلى "راوٍ عليم" يعلم الاستراتيجيات الجارية، ثم "مُشارك ضالع" في صنع "دراما" النهوض بمصر وتنميتها في غدٍ طيب وقريب بإذن الله.
علينا ألا ننسى مرحلةَ الظلام الدامس التي عشناها في ظل الإخوان، والدمارَ الشامل الذي كان ينتظرنا لو أكملنا معهم، لا سمح اللهُ. علينا ألا ننسى نعمة "الأمان" التي نعيشُها اليوم، على عكس ما مضى وما كان سيكون. النسيانُ نعمةٌ أحيانًا، ولكنه يباعدُ بيننا وبين الحقائق ويفقدنا القدرةَ على النظر بشكل أوسع وأدق وموضوعي.
والدينُ لله، والوطنُ لمن يحبُّ الوطنَ.
***