الاحتجاج بالموت حرقا.
فريد العليبي
الحوار المتمدن
-
العدد: 6094 - 2018 / 12 / 25 - 15:37
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
يُواصل التونسيون حرق أنفسهم بشكل مُروع ، فالنيران لا تزال تلتهم الأجساد ، و اللحم الآدمي المشوي ما زالت رائحته تتنقل من مدينة إلى مدينة ، و من قرية إلى قرية ، و آخر ما سُجل إقدام كهل خمسيني في مدينة قرمبالية على ذلك ، و قبل هذا بفترة وجيزة قامت فتاة قيروانية في العشرينات من العمر بالفعل نفسه ، فالانتحار حرقا أصبح ممارسة طقوسية يتمتع فيها الرجال و النساء ، و على غير العادة ، بالمساواة التامة .
و في غالب حالات الانتحار تلك ، هناك اختيار دقيق للمكان ، فمن البوعزيزى المحترق أمام الولاية في سيدي بوزيد ، إلى كهل قرمبالية المحترق أمام المحكمة ، هناك بحث عن رمزية المكان لإبلاغ رسالة ، مضمونها في الحالة الأولى أن الحكام لا يسمعون ، و في الثانية أنهم لا يعدلون ، و بين الحالتين هناك رسائل دامية أخرى .
و ما ينطبق على المكان ينطبق على الزمان أيضا ، فالانتحار حرقا يتم نهارا غالبا ، أي في أوقات تكون فيها الرؤية ممكنة و العيون مفتوحة ، حتى ترى المشهد الفظيع ، فالنار المشتعلة في الجسد المحتج سرعان ما تجلب إليها جموعا من البشر، التي تتحلق حولها و قد اعتصر قلوبها الألم .
الانتحار المشهدي مطلبه الاحتجاج ، و لا نجاح له إذا لم يؤثر في المحيطين بالضحية ، التي بقدر ما تنجح في إبلاغ رسالتها ، بقدر ما تحول معها من هم من جنس اضطهادها و قمعها ، من لحظة الإحساس الغريزي بالظلم ، إلى لحظة الوعي الأولى بوطأته ، و هذا الدرس المجلل بالدم قد لا تنجح خطب الساسة و لا كتب الفلاسفة في إيصاله للمعنيين به باليُسر المنشود.
ربما كان الانتحار حرقا أقسي درجات الانتحار إيلاما ، و قد احتاج البوعزيزى أياما بلياليها قبل أن ينجح في مفارقة العالم الذي احتج ضده ، أما الكهل في قرمبالية فقد كان يتقلب في ألمه و الناس من حوله ، و هو عار إلا من تبان ، شاكيا فقره و ظلم مشغله الذي اتهمه بالسرقة ، فالمقهور يجد نفسه على حافة الهاوية فيلجها في لحظة غضب عارمة ، فهو يحتج على الظلم بالموت ، أي بأعلى أشكال الاحتجاج الذي يمكن لفرد الإقدام عليه .
لم يصدر التونسيون إلى العالم خلال انتفاضتهم فقط شعارهم : الشعب يريد إسقاط النظام و إنما أيضا الانتحار حرقا ، فقد غزت هذه الظاهرة بلدان كثيرة أخرى ، أصبح لتونس فيها باع و أتباع ، و في أسطرة الانتفاضــة التونسية يسود الاعتقاد أن كل شئ قد بدأ بعود ثقاب .
و اليوم كما بالأمس القريب يزداد إيقاع طقس الانتحار ، حتى أن قرية العمران البوزيدية هددت بتنفيذ انتحار جماعي يوم عيد الأضحى ، إذا لم يُطلق سراح المساجين من أبنائها ، و لا شئ يفيد أن هذا الإيقاع الحزين سيتوقف قريبا ، فبرميل البارود بما يحتويه من فقر و قهر و ظلم لا يزال يتجول في أرجاء الوطن باحثا عن صاعق ، و غير بعيد عنه يشتعل عود ثقاب هنا و عود ثقاب هناك ، فيولد حرائق جزئية قد تتحول إلى حريق عام و انفجار عظيم .
خلال الانتفاضة التونسية تحدث " علماء نفس " عن عدوى الانتحار و " رجال دين " عن النفس التي يملكها الله وحده ، والتي لا يجوز لصاحبها التفريط فيها بقرار، حتى أن البوعزيزى بعد الاحتفاء به كأيقونة للحرية ، و تمجيد بطولته ، أصبح لدى البعض من هؤلاء كافرا يستحق اللعنات فمثواه جهنم ، و لكن طالما ظل جرح الاستغلال و الفقر و الظلم مفتوحا فإن الاحتجاج بالموت حرقا سيتواصل ، قبل أن يصبح ممكنا معرفة ما إذا كان ذلك كاف لمقارعة قبضة الجلاد ؟
ملاحظة : كتبت هذا النص في 10 نوفمبر 2012 وهو وارد في كتابي : الربيع العربي والمخاتلة في الدين والسياسة ...بعد 6 سنوات تغير وضع تونس الى ما هو أسوء