حسين آيت أحمد في الذكرى الثالثة لرحيله-أي مستقبل لإرثه؟-


رابح لونيسي
الحوار المتمدن - العدد: 6092 - 2018 / 12 / 23 - 17:38
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

حسين آيت أحمد في الذكرى الثالثة لرحيله
- أي مستقبل لإرثه؟-

البروفسور رابح لونيسي
- جامعة وهران-



تحل علينا اليوم الذكرى الثالثة لرحيل المجاهد الكبير حسين آيت أحمد في 23ديمسبر2015،فللمفارقة أن شهر ديسمبر هو شهر رحيل الكثير من رموز الجزائر، فمن المفروض أن تحيي الدولة الجزائرية اليوم سلطة وشعبا ذكرى وفاة آيت أحمد، ويجب ان تقوم بنفس الشيء مع كل رموز الجزائر عبر تاريخنا الطويل سواء أتفقنا أو أختلفنا معهم، فهذه الرموز هي الشعلة التي تلهم الأجيال، وتغرس فيهم جذوة الوطنية والتضحية في سبيل الأمة الجزائرية وسؤددها، والتي دفعنا من أجلها ملايين الشهداء عبر آلاف السنين، لكن للأسف الشديد قزمت السياسة السياسوية رموز الجزائر، مما يهدد بضرب الأسس التاريخية للدولة الوطنية التي يجب علينا الحفاظ عليها مهما كان الثمن، فقد كان غقامة هذه الدولة هو حلم أباءنا وأجدادنا، ومنهم آيت أحمد رحمه الله، فليحتفي وليتذكر الشعب الجزائري اليوم هذا الرجل العظيم الذي هو ملكه، فآيت أحمد ليس ملكا لأي كان، فهو ملك للأمة الجزائرية قاطبة.
فليستذكر الشعب الجزائري اليوم بأن رحيل آيت أحمد منذ ثلاث سنوات معناه رحيل أحد الرموز الكبرى في تاريخه، وهو يعد رحيلا لآخر الأباء المؤسسين للدولة الوطنية الجزائرية، فهو أحد التاريخيين التسع الذين أشعلوا فتيل الثورة في 1954، كما علينا أن نشير أيضا لما لم ينتبه إليه الكثير، بأنه يعد أيضا الأب الروحي للجيش الوطني الشعبي الجزائري بحكم أنه المؤسس الفعلي للمنظمة الخاصة إلى جانب محمد بلوزداد، فقد كان قائدا لأركانها، وتعد هذه المنظمة العسكرية هي النواة الأولى لجيشنا الوطني اليوم، ولم تندلع الثورة التحريرية إلا على يد أعضاء هذه المنظمة الخاصة العسكرية التي انبثق منها كل من جبهة وجيش التحرير الوطنيين، فآيت أحمد كان عسكريا منذ 1947 قبل أن يصبح سياسيا فيما بعد بحكم توليه وإدارته السياسة الخارجية للجزائر ضمن الوفد الخارجي، فكان له شرف إدخال الجزائر مصاف الدول الآفرو-آسيوية في مؤتمر باندونغ في 1955 أين تمكن من إقناع نهرو وسوكارنو بعدالة القضية الجزائرية آنذاك، دون أن ننسى دوره في هيئة الأمم المتحدة، فكل هذه التجربة الثرية التي كتبا عليها الكثير نحتاجها اليوم للإستلهام منها، كما نحتاج كلنا اليوم إلى تاريخ هذا الرجل وسيرته للإستلهام منها، والتي كانت كلها تضحيات منه في سبيل وطنه وأمته اجزائرية لمدة تفوق70سنة.
قد أبرزت وفاة آيت أحمد منذ ثلاث سنوات مدى التقدير والإحترام الذي يحظى به ضمن الشعب الجزائري رغم ما لحقه بعد إسترجاع الإستقلال من طمس لدوره وتاريخه، إضافة إلى حملات تشويهه من الذين أخذوا السلطة في 1962، لكنه أنتصر على كل هؤلاء في الأخير، وهو ما يظهر بجلاء أثناء جنازته الشعبية التي يمكن إعتبارها إجماعا جزائريا على هذا الرمز، وكأنه أراد شعبنا إرسال رسالة إلى السلطة من خلال تلك الجنازة التي يمكن إعتبارها إستفتاء شعبيا على ضرورة تحقيق أهداف نضاله، وهو إقامة الدولة الوطنية الديمقراطية والإجتماعية في الجزائر التي تعد الشق الثاني لثورتنا التحريرية الذي لم يتحقق بعد، لكن لم تفهم عناصر في السلطة هذه الرسالة الشعبية القوية للأسف الشديد.
لاداعي للعودة إلى تاريخ آيت أحمد النضالي سواء ضد الإستعمار او من أجل إستكمال مشروع ثورتنا التحريرية التي كان أحد مفجريها، فقد أشبع ذلك بالدرس والتمحيص، لكن نفضل التركيز على جوانب آخرى تمس حاضرنا، ومنها كيف تعامل مع أزمات الدولة الجزائرية؟، فقد كان آيت احمد دائما واقعيا، وينطلق من الواقع الجزائري، فلم تكن أفكاره في الحقيقة إلا إستمرارية لأفكار الحركة الوطنية الإستقلالية التي انخرط فيها، وهو شاب لايتعدى16سنة، ثم ثورتنا التحريرية، فعندما ناضل من أجل إقامة مجلس تأسيسي، فهو ليس معناه كما يروج البعض العودة إلى 1962 ومحو كل ما تحقق، فهو في الحقيقة تصحيح خطأ إستراتيجي أضر بمستقبل الجزائر وشعبها، فمعناه العودة لما لم ينجز على يد المجلس التأسيسي الأول المنتخب في 1962، والذي كان من المفروض صياغة دستور الجزائر المستقلة كدستور معبر عن كل الأمة الجزائرية، أي بتعبير اليوم دستور توافقي، لكن تم وضع هذا الدستور خارج هذا المجلس المنتخب وبالضبط في سينما الماجستيك (الاطلس اليوم) على يد مجموعة لم ينتخبها الشعب، وصاغت دستورا في خدمة مجموعة بدل خدمة كل الأمة الجزائرية بكل مناطقها وطبقاتها وأطيافها السياسية والأيديولوجية والثقافية وغيرها، فهو كان يعلم جيدا، وهو مفجر الثورة التحريرية وأحد قادتها الكبار بأن هذه الثورة كانت ثورة أمة بأكملها، فلهذا يجب أن تكون الدولة المنبثقة عنها هي دولة-الأمة الجزائرية كلها دون أي إقصاء أو تهميش، فقد رفض آيت أحمد هذا الإنحراف أو الإنقلاب الدستوري في الجزائر، كما كان يدعو دائما إلى المصالحة والحوار الوطني في كل أزمات الجزائر، ومنها أزمة التسعينيات، ثم طرح في المؤتمر الأخير لحزب الأفافاس فكرة "إعادة بناء الإجماع الوطني"، والذي يعني جمع كل الجزائريين من أجل إنتقال ديمقراطي حقيقي وتجسيد أهداف ثورتنا في دولة ديمقراطية وإجتماعية التي لم تتحقق في 1962 حيث تكسر الإجماع الوطني بسبب الإنقلاب على المؤسسات الشرعية للثورة، وهو ما يجب إعادة بنائه اليوم، وقد طرح آيت أحمد هذه الفكرة في وقت كانت الجزائر مهددة بما سمي "الربيع العربي" الذي تحول إلى خريف ودمار، وقد كان آيت أحمد عارفا بأنها مؤامرة ومخطط دولي ضد مصلحة دولنا وشعوبنا، وهو ما ظهر بجلاء فيما بعد، وهو ما يثبت مدى بعد نظر هذا الرجل ذو الرؤية الثاقبة والبعيدة.
من حق الجزائريين اليوم أن يقلقوا على الإرث الذي تركه آيت أحمد ومدى القدرة على إيصاله لكل طبقات شعبنا للتعرف عليه وتبنيه كحلول لأزماتنا ومشاكلنا دون أي إنغلاق أو عبادة للشخصية، فما إرث آيت أحمد في حقيقته وعمقه إلا مباديء ثورتنا التحريرية التي نصت عليه مواثيقها المتمثلة في نداء أول نوفمبر وأرضية الصومام، ونعتقد أن النضال اليوم من أجل الديمقراطية والعدالة الإجتماعية يحتاج إلى طليعة فكرية وسياسية قادرة على الإقناع وترويج هذه الأفكار في المجتمع بكتاباتها وخطابها، فمن الصعب اليوم إنتاج رجال أمثال آيت أحمد في القدرة الفكرية والأخلاقية والسياسية، فقد كان صاحب أفكار ومباديء، ويرى أن النضال هو ترويجها ونشرها وتكريسها ونشرها في المجتمع، فالصراع في حقيقته هو صراع أفكار، ولا ينتصر في الأخير إلا القادر على الإقناع .
كان آيت أحمد قوة إقتراح للحلول والأفكار بحكم قدراته الفكرية والسياسية وتجربته، فعادة ماكانت هذه الأفكار تخيف بعض الأطراف في السلطة التي لاتهمها إلا مصالحها الضيقة على حساب الجزائر وشعبها، وكانت تلجأ هذه الأطراف دائما إلى إختطاف هذه الأفكار ثم تحرفها وتطبقها حسب مصالحها الضيقة كما وقع مع المصالحة الوطنية في الماضي، وهو ما تبحث عنه اليوم من خلال بعض الدعوات المشبوهة للإجماع الوطني دون أن ننسى فكرة المجلس التأسيسي التي لو طبقت حسب طرحه لخطت الجزائر خطوات جبارة ولتجنبت هذه المآزق التي وصلنا إليها اليوم، فمجلس تأسيسي أو إعادة بناء إجماع وطني معناه إعادة بناء آليات وميكانيزمات جديدة على حساب الآليات القديمة التي وضعتها المجموعة التي أخذت السلطة في 1962 ووضعتها لخدمة مصالحها فقط، أما الآليات الجديدة التي ستنبثق إما عن مجلس تأسيسي أو إجماع وطني، فهي آليات ستكون في خدمة الأمة كلها دون أي إقصاء، وهنا يكمن لب الصراع، فعندما تصبح الدولة هي دولة الأمة كلها، أي دولة لكل الجزائريين، وليس لمجموعة، ستحل نهائيا مشكلة الشرعية، وسيسود الإستقرار، وستفرز النخب على أساس الكفاءة والآخلاق، وليس على أساس الجهوية والولاءات وغيرها كما كانت في الميكانيزمات والآليات التي وضعت في 1962.

البروفسور رابح لونيسي
- جامعة وهران-