فرنسا تنهض ضد برنامج - الصدمة -.


تاج السر عثمان
الحوار المتمدن - العدد: 6083 - 2018 / 12 / 14 - 08:47
المحور: الثورات والانتفاضات الجماهيرية     


بعد فشل سياسة " الصدمة " أو الليبرالية الجديدة الاقتصادية التي عانت منها الجماهير الكادحة بتجريدها من الحق في التعليم والصحة والضمان الاجتماعي والمعيشة الكريمة، وفشل سياسات وبرامج الأحزاب الليبرالية والاشتراكية والإصلاحية ، لم يكن غريبا نزول الجماهير في فرنسا
إلي الشارع في مظاهرات عارمة احتجاجا علي الزيادات في أسعار الوقود ، فقد سبقتها ثورات مثل : الثورة الفرنسية 1789 التي غيرت مجري التاريخ الإنساني بطرحها شعارات : الحرية- المساواة – الاخاء، وهدت قلاع تحالف الملكية مع الكنيسة والإقطاع الذي قام نظام جمهوري علماني علي أنقاضه رغم أنه تعرض لعثرات في مساره من حكم مطلق وعودة الملكية. الخ ، و ثورة 1830 و1848 التي كانت جزءا من ثورات الطبقة العاملة ضد النظام الرأسمالي في أوربا ، وكومونة باريس التي استخلص ماركس دروسها في مؤلفه " الحرب الأهلية في فرنسا"، وثورة مايو 1968 التي اسقطت حكم ديجول بعد أن تفاقمت أزمة النظام الرأسمالي وتزايد أعداد العطالة وانخفاض الأجور. فضلا عن أن ذلك كان امتدادا لحركات احتلوا وول استريت في أمريكا والحركات الجماهيرية المناهضة لسياسة التحرير الاقتصادي في اليونان والبرتغال والمانيا واسبانيا وبريطانيا. الخ.
كانت الاحتجاجات ضد الزيادات في الوقود القشة التي قصمت ظهر البعير ، فقد عانت الجماهير الكادحة في فرنسا مثل بقية بلدان العالم الرأسمالي والثالث من سياسة الليبرالية الجديدة التي أفقرت الملايين من الكادحين، وجردتهم من أبسط خدمات التعليم والرعاية الصحية وخدمات الكهرباء ومياه الشرب النقية، والضمان الاجتماعي، إضافة إلى النهب المكثف لثروات بلدان العالم النامي، وتركيز الثروة في أيدي قلة، وإغراق البلدان النامية بالديون الثقيلة ، والحروب الأهلية التي شكلت مصدرا مهما لتجارة السلاح، وتهجير وإبادة تلك الشعوب ولاسيما في الشرق الأوسط وأفريقيا . وهي تجربة مريرة مرَّت بها شعوب العالم الكادحة وما زالت تقاومها من خلال نهوض الطبقة العاملة وجماهير الكادحين في مختلف بلدان العالم، من أجل تحسين أوضاعها المعيشية والثقافية، كما تجلَّت في انتفاضات وثورات شعوب البلدان الرأسمالية المتطورة وثورات شعوب أمريكا اللاتينية وشعوب المنطقة العربية مثل مصر وتونس . الخ ضد الأنظمة التي سارت في طريق الفساد والخصخصة وإفقار الشعوب.
في السودان مثلا منذ انقلاب الجبهة الإسلامية في يونيو 1989 ، سار النظام في سياسة التحرير الاقتصادي والخصخصة وتشريد العاملين وتدمير الإنتاج الزراعي والصناعي ، والتفريط في السيادة الوطنية والحروب ، حتي وصلت نسبة الفقر إلي 95% ، وتدهورت الأوضاع المعيشية جراء الارتفاع المستمر في الأسعار والتضخم ، والبطالة التي تجاوزت 20% حسب الأرقام الرسمية، وتدهور الجنية السوداني حتي تجاوز سعر الدولار 60 جنيها، أما الحد الأدني للأجور فقد ظل ثابتا في 425 جنيها ، وهو لا يغطي2,8% ، من تكلفة المعيشة، بينما قدر تجمع المهنيين الحد الأدني للأجور 8,664 جنيها حتي أصبح السودان هو الأسوأ في مؤشر العدالة الاجتماعية بعد سيراليون " الجريدة : 10 ديسمبر 2018 " . ذلك هو حصاد سياسة التحرير الاقتصادي والليبرالية الجديدة أو برنامج الصدمة الذي سار فيه نظام الاسلامويين لأكثر من 29 عاما.
أدت تلك السياسة إلي ازدياد حدة الاستقطاب الطبقي وتركزالثروة في أيدي القلة، وتنامي مستويات الفقر وعدم المساواة ، والهوة بين الأغنياء والفقراء. كما انتعشت تجارة الحرب والمخدرات وتجارة البشر، ودعم الإرهاب وتصديره لنسف استقرار الشعوب كما حدث في الشرق الأوسط من خلال " داعش " ، والفساد غير المسبوق ، وتجارة الجنس والجريمة المنظمة
بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط تجارب الاتحاد السوفيتي وبلدان شرق اوربا ، ازدادت شراسة أمريكا وحلفائها من أجل السيطرة الاقتصادية والعسكرية علي العالم ونهب أراضي وموارد العالم الثالث ، حتي أصبحت تنفق 40% من مجموع ما ينفق العالم علي التسليح، وهي أهم بائع سلاح في العالم...
وهذا التفاوت القائم بين الدول يوازيه تفاوت داخل كل دولة حيث تستأثر قلة من السكان بالشطر الأعظم من الدخل الوطني والثروة القومية، في حين تعيش أغلبية السكان في فقر مدقع.
هذ ويقف العالم الآن علي شفا جرف هار من جراء: التهديد النووي، والجوع والأمراض والحروب الأهلية والهجرة والنزوح في بلدان العالم الثالث، التهديد البيئي (دفن النفايات النووية واتساع ثقب الاوزون..الخ )، مصادرة الحقوق والحريات الديمقراطية، إضافة لأزمة البطالة (بلغت في الدول الرأسمالية المتطورة أكثر من أربعين مليون عاطل عن العمل، وفي الدول الاشتراكية السابقة دفعت عودة الرأسمالية اكثر من 37 مليون الي البطالة اضافة الي انهيار ذريع في اجور العاملين الفعلية ومستوي معيشتهم اضافة لمصادرة الحريات.
عبرت حركة "السترات الصفراء" في فرنسا عن نبض الجماهير حينما رفضت : -
*الغلاء والزيادات في الأسعار وتدهور الأجور وزيادة الضرائب علي الكادحين ، وتخفيفها علي الطبقة الرأسمالية الحاكمة .
* تخلي الدولة عن دعم خدمات التعليم والصحة والضمان الاجتماعي ، والسير في سياسة الخصخصة وتشريد العاملين ، ومن أجل توفير السكن .
شاركت في المظاهرات الفئات الوسطي العاملة في القطاعين العام والخاص والطبقة العاملة والطلاب والمزارعون، وفقراء المدن والريف والمهمشين. الخ. ووجدت الدعم والتأييد من الحزب الشيوعي الفرنسي الذي طالب بتحقيق مطالب العمال في الرعاية الصحية والضمان الاجتماعي ، و طالب مع الحزب الاشتراكي وحزب فرنسا الأبية بسحب الثقة من الحكومة، كما تضامنت الشرطة معها في اضراب السبت 8 /12 ، وأشار نقيب الشرطة إلي أن "الدولة تتعامل معنا كالحيوانات، بفرض ساعات عمل طويلة دون انقطاع" ، كما شاركت فيها النقابات مثل نقابة عمال السكة الحديد واتحاد النقابات الذي طالب برفع الحد الأدني للأجور.
كانت الاحتجاجات والمظاهرات سلمية، وحاولت بعض العناصر اليمينية المتطرفة حرفها عن مسارها باحداث عنف وتدمير للممتلكات العامة.
بدأت الحركة يوم 17 نوفمبر 2018 حيث نزل للشارع حوالي 280 ألف احتجاجا علي الغلاء والضرائب وضد برنامج الرئيس الفرنسي ماكرون الذي يعبر عن مصالح الطبقة الحاكمة وبنوكها وشركاتها ، وبدأ برنامجا ليبراليا بالهجوم علي مكتسبات المتقاعدين، وخصخصة شركة القطارات التي وجدت مقاومة من العمال ، والطاقة النووية التي أصبحت تابعة لشركة " جنرال موتورز الأمريكية "، ورفع الرسوم الدراسية للطلاب الفرنسيين لدرجة الماجستير ، وضاعفها للطلاب الأجانب ، وضد البطالة وتدهور المعيشة والأجور، وتشريد العاملين، وتأثيرات الامبريالية الثقافية والاجتماعية .
تواصلت الحركة أيام السبت 24 نوفمبر و1 ديسمبر و8 دبسمبر 2018 ، رغم القمع الوحشي والاعتقال والجرحي من المتظاهرين ، وكان لذلك أثره في تراجع الرئيس ماكرون عن الزيادات في الوقود والضرائب .
بعد ذلك استمرت المظاهرات وارتفع سقف المطالب يوم 8 ديسمبر إلي اسقاط ماكرون وحكومته ، وطرح مطالب جديدة مثل :
*إنهاء سياسة التحرير الاقتصادي أو الليبرالية الجديدة .
* زيادة الحد الأدني للأجور .
*تحسين الخدمات الاجتماعية.
*تحسين خدمات التعليم والنقل والخدمات في الريف.
* وقف تدهور المعيشة وتعزيز القدرة الشرائية.
*ضمان السكن وخدمات التعليم والصحة .
إلغاء الضرائب الباهظة التي يتحمل الكادحون أعبائها ، وتوظيف الضرائب لخدمة المواطنين.
تحسين الوضع الاقتصادي في البلاد.
وغير ذلك من المطالب التي تعبر عن قضايا الجماهير التي ساندها حوالي 73 % منها حركة " السترات الصفراء".
كما طرحت مطالب سياسية وقومية أخري مثل : خروج فرنسا من الاتحاد الاوربي والعودة للعملة الفرنسية بدلا من العملة الموحدة " اليورو".
شملت المظاهرات 400 مدينة ضمت عشرات الالوف في مواجهة قوات من الشرطة بلغت حوالي 90 ألف في كل المدن ، وتم اعتقال أكثر من2720 ، وجرح 55 مواطن.
امتدت عدوى الحركة إلي بلدان مجاورة تعاني من نفس المشاكل وقامت بها حركات مماثلة مثل : هولندا والمجر وبلجيكا . الخ.
ما حدث حلقة في سلسلة المقاومة الجماهيرية لسياسات العولمة الرأسمالية بعد فشل التجارب الاشتراكية ، وفقدان الجماهير لمكاسب مثل : مجانية التعليم والعلاج والضمان الاجتماعي وحماية الشيخوخة والطفولة وحق العمل والسكن . الخ ، تلك المكاسب التي جاءت بنضال الطبقة العاملة والعاملين بأجر وباثر التجربة الاشتراكية. وجاءت سياسة العولمة الرأسمالية واقتصاد السوق أو التحرير الاقتصادي والخصخصة وتشريد العاملين لتفاقم أوضاع الكادحين الاقتصادية والمعيشية وتزيد من معدلات البطالة والتصخم والتدهور المستمر في المعيشة وتضخم قطاع الخدمات .
لقد أكدت تلك التجارب هزيمة دعاوى نهاية التاريخ التي تراجع عنها فوكوياما نفسه وهزيمة برنامج " الصدمة" للاقتصادي الأمريكي ملتون فريد مان أو تجريد الجماهير الكادحة من أبسط حقوقها الاجتماعية والسياسية والثقافية ، وزيادة حدة الفوارق الاجتماعية والطبقة ، كما أكدت زيف الشعارات التي تطرحها الطبقات الرأسمالية حول احترام الديمقراطية وحقوق الإنسان ، كما وضح من القمع الوحشي للمظاهرات في فرنسا وبقية البلدان التي اندلعت فيها تلك المظاهرات ضد العولمة الرأسمالية.
كل ذلك يشير الي استمرار تراكم المقاومة ضد النظام الرأسمالي في نسخته الليبرالية الجديدة التي سحقت الكادحين وزادت من نسب البطالة والفقر، وحدة الصراع الطبقي والاجتماعي ضد الطبقات المستغلة التي كدست الثروات من عرق العمال وكادحي البلدان النامية ونهب مواردها ، وما حدث من ثورات وصراع طبقي منذ هزيمة التجربة الاشتراكية قبل أكثر من 25 عاما يؤكد أن جذوة الثورة ما زالت متقدة ، وأن أزمة الرأسمالية أصبحت عميقة ولا تفيد فيها الإصلاحات بل التغيير الجذري باسقاط النظام الرأسمالي، وقيام البديل الاشتراكي
.