شُذُورٌ مِنْ سِيرَةِ التَّكْفِيريِّين!


كمال الجزولي
الحوار المتمدن - العدد: 6076 - 2018 / 12 / 7 - 20:33
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

لم يحدث أن خمدت، نهائيَّاً، قط، نيران "التَّكفير" التي ظلَّت حركة الإسلام السِّياسي تشعلها في بلادنا طوال العقود الماضية. فبعد أن خبت جذوتها، شيئاً، بأثر انتفاضة أبريل 1985م، وكانت قد بلغت ذروتها باغتيال الشَّهيد محمود محمَّد طه في منتصف يناير من تلك السَّنة، عادت للاشتعال، مرَّة أخرى، في عقابيل انقلاب الثَّلاثين من يونيو 1989م، حين احتاجت الحركة، وقتها، لتوطيد أركان سلطتها. ثمَّ ما لبثت أن خبت بأثر اتِّفاقيَّة السَّلام الشَّامل لسنة 2005م، وبأثر عمليَّات الإطفاء التي باشرتها الحركة الثَّقافيَّة والفكريَّة آنذاك. لكنها عادت واستعرت مجدَّداً، قُبيل وبُعيد انفصال الجَّنوب، وفي ظروف محاولة المعارضة السِّياسيَّة والمسلحة للتَّوحُّد حول ما عُرفت، وقتها، بوثيقة "الفجر الجَّديد". على أنَّ تلك النيران ما كادت تخبو، مرَّة أخرى، خلال السَّنوات القليلة الماضية، حتَّى بدأت جذوتها تتَّقد، هذه الأيَّام، مع تفاقم متاعب النِّظام اقتصاديَّاً، وسياسيَّاً، واجتماعيَّاً، وربَّما بصورة أكثر ضراوة، على أيدي كوادر فكريَّة، وثقافيَّة، وأكاديميَّة في حركة الإسلام السِّياسي، يطلق إعلام التَّنظيم على أغلبهم لقب "عالم"، ويصطنعون لهم "هيئات" و"روابط" يشنُّون عبرها هجماتهم جماعيَّاً.
الجَّديد في الاشتعال الأخير عدم اقتصاره على المعارضين، فحسب، حيث راح يزحف نحو كلِّ من يبدي، حتَّى وسط كوادر الحركة أنفسهم، شيئاً من الاستنارة، أو الخوف، على الأقل، من التَّأثير السِّياسي السَّالب لظاهرة "التَّكفير" على مستقبل الحركة بأسره! هكذا نشط أولئك "العلماء"، خلال الفترة الماضية، في إصدار أحكام متوتِّرة، متشنِّجة، "تكفِّر" الموالين المشفقين، سواء بسواء مع المعارضين الرَّافضين، فتهدر، بالتَّبعيَّة، دمهم جميعاً، صراحة أو ضمناً، وفي الحالين لا تكفُّ عن التَّحريض ضدَّهم، علناً، ما من شأنه أن يجعل هؤلاء وأولئك، أجمعين، هدفاً لاعتداء أيِّ مهووس قد يتصـوَّر، بمركَّـب جهـالة وعصـبيَّة، أنه مأمـور بإقامـة حـدٍّ من حدود الله عليهم!
ولكي نؤكِّد أنَّنا، بهذا القول، إنَّما نقرِّر الحقيقة وحدها، ولا نعدو الواقع قيد أنملة، وأنه ليست ثمَّة ذرَّة من المبالغة في ما نقول، دعونا ننعش الأذهان، خصوصاً أذهان الأجيال الجَّديدة، بشذور مِن وقائع هذا "التَّكفير"، وسيرة هؤلاء "التَّكفيريِّين". فقد سبق لذلك النَّفر مِن "العلماء" أن أطلقوا حملتهم ليس، فقط، ضدَّ أفراد مِمَّن أسموهم "معتنقي الدِّيموقراطيَّة والاشتراكيَّة والموالين للنَّصاري" ـ كذا! ـ بل وضدَّ تنظيمات بأكملها لم يستثنوا منها حتَّى "الجَّبهة الدِّيموقراطيَّة للطلاب!"، لا لذنب جنوه سوى أنهم لا يرون ما ترى الحركة فكريَّاً وسياسيَّاً! بل ولقد ذهبوا، مطلع الألفيَّة، إلى أبعد من ذلك بأن خصَّصوا "جائزة" لمن يأتي برأس أىِّ من "المستهدفين" الذين أذاعوا في النَّاس قائمة بأسمائهم تضمَّنت مفكِّرين، وأكاديميِّين، وكتَّاب، وشُّعراء، وسياسيِّين، وصحفيِّين، ومحامين، وقضاة، بواقع مليون دينار للرأس (أقل من أربعة ألف دولار وقتها)!
كان لا بُدَّ من مجابهة تلك الحملة الهوجاء المتخلفة بحملة ثوريَّة متحضِّرة، فتأسَّست "الحركة من أجل حريَّة الضَّمير"، جاعلة همَّها فضح الخطورة التي تنطوي عليها أهداف حملة "العلماء" ومراميها. فوجَّهت، في 21 يوليو 2003م، مذكِّرة إلى رئيس الجُّمهوريَّة، أوضحت، من خلالها، أنه لو لم تكن "جردة" العلماء "التَّأديبيَّة" تلك من مترتِّبات مناخ العنف الذي كان قد أخذ يتصاعد منذ مطالع عقد التِّسعينات من القرن المنصرم، والذي نتج عنه اغتيال الفنان خوجلي عثمان، وكاد يُلحق به زميله الفنان عبد القادر سالم، بل ونتج عنه، في فبراير 1994م، حصْد أرواح 15 مصلياً بمسجد الحارة الأولى من مدينة الثورة، وفي ديسمبر 2000م قتل عشرين مصلياً بضاحية الجَّرَّافة، دَعْ ما أعقب ذلك من ذبح للصَّحفي محمد طه محمد أحمد في سبتمبر 2006م، فضلاً عن حوادث دامية أخرى في بعض مساجد العاصمة وغيرها من المدن، لأمكن اعتبار تلك الحملة، بكلِّ فتاواها، وإعلاناتها، و"جوائزها"، محض "فرقعة" إعلاميَّة لا قيمة لها! أما والشَّواهد المشار إليها حاضرة وطازجة، فإن من سوء التَّدبير الاستخفاف باحتمالاتها المفجعة، إذ أن ثمة، دائماً، مجرمين على استعداد للقتل "من أجل حفنة دولارات"! وثمَّـة، دائمـاً، مجـانـيـن يتصـوَّرون أن بإمكانهم التَّقــرُّب إلـى الله زلفى بإزهاق الأرواح! ولعلَّ ذلك، بالتَّحديد، هو ما حدا بقرابة الخمسمائة مفكر، وكاتب، وفنان، وصحفي، وغيرهم من المثقَّفين للتَّوقيع على تلك المذكرة مطالبين باتِّخاذ الاجراءات الكفيلة، ليس بتأهيل الخرطوم كي تصبح عاصمة للثَّقافة العربيَّة بعد أقلِّ من عامين حسب ما كان مقرَّراً، بل بضمان سلامتهم، في المقام الأوَّل، وحماية أرواحهم، لا أكثر ولا أقل!
وخلال حديثه، في اليوم التَّالي مباشرة، إلى وفد من "هيئة علماء السُّودان"، شدَّد رئيس الجُّمهوريَّة على ضرورة "التَّوسُّط في الطرح، والابتعاد عن التَّطرُّف"، لكن، لم يفته، بطبيعة الحال، أن يعاير مقدِّمي المذكرة أنفسهم بقوله: "إن من يعتقدون أن الدَّولة لا تحقِّق الأمن مخطئون" (الرأى العام؛ 23 يوليو 2003م). تلك البادرة، وبصرف النظر عن مدى صحَّة التَّقدير الذى قد يعتبرها غير كافية، بمجرَّدها، لمواجهة تهديد بذلك الحجم، أكَّدت، على الأقل، أن جمر القلق من عاقبة الأمر يومض، أيضاً، بقدر أو بآخر، على الضِّفَّة الأخرى! ولكن، هل تكفى لإخماده كلُّ التَّعبيرات المغرقة في الغموض، والمغالطات التَّاريخيَّة، مِمَّا صدر، وقتها، عن أولئك المستظلين بمظلة السُّلطة، والذين لم يكن بمستطاعهم سوى إحناء الرُّؤوس ادعاءً للسمع والطاعة إزاء توجيه رأس الدَّولة؟! لقد عبَّر "البروفيسير" محمد عثمان صالح، الأمين العام لهيئة العلماء، فى نفس اللقاء مع رئيس الجُّمهوريَّة، عن أن هيئته "تتوسَّط في طرحها الدِّيني، وتعارض كلَّ تطرُّف!" (المصدر). وأكَّد وزير الإرشاد والأوقاف، في خطبة إحدى الجُّمع، آنذاك، أن "هيئة العلماء .. تعلم عدم جـواز (تكفـير) المسـلم مهمـا كانت الأسـباب، و .. أن تكفير المسلم (جريمة) دينيَّة لا ينبغي قبولها"! أما الهيئة، نفسها، فقد ذهبت إلى أبعد من ذلك في المضمضة الشَّفهيَّة بالإذعان لتوجيه السُّلطة، حيث أكَّدت، في البيان الختامي لمؤتمرها الثَّانى، أن علماء السُّودان "مشهود!" لهم بأنَّهم "أبعد النَّاس عن مجازفة (التَّكفـير) واتِّهام النِّيَّات" (الحياة؛ 27 يوليو 2007م).
ومع ذلك قلنا، يومها، إن المرء لا يمكنه أن يمنع ذاكرته من استعادة مواقف لا تسند، للأسف، تلك الدُّفوع الموغلة في الإطلاق، والمغالطة، ومن أمثلة تلك المواقف:
(1) أنه، وبمناسبة تصريح على عثمان طه، نائب التُّرابي، سابقاً، في الأمانة العامَّة للجَّبهة الإسلاميَّة القوميَّة، ونائب رئيس الجُّمهوريَّة لاحقاً، خلال مخاطبته لطلاب جامعة الخرطوم، مساء 15 فبراير 2000م، بأن "الحكومة لا تمانع فى الحوار حول مسألة فصل الدِّين عن الدَّولة إذا كانت هذه القضيَّة تهدِّد وحدة السُّودان"، سارع التُّرابي، رغم نفي رئاسة الجُّمهوريَّة لذلك التَّصريح، ببيانها في 19 فبراير 2000م، إلى تأكيد الواقعة، بصفته الأمين العام للحزب الحاكم، معتبراً الحديث "كفراً ببعض الكتاب وإيماناً ببعضه"، بل "ليس فيه عقـل أصـلاً"! (الصَّحافة، 21 فبراير 2000م).
(2) ثمَّ عندما أبرم حزب التُّرابي، بعد إخراجه من السُّلطة، مذكرة التفاهم الشَّهيرة مع حركة قرنق بجنيف في 19 فبراير 2001م، والتي أدانت النَّهج الانقلابي الشُّمولي، وانتهاكات حقوق الإنسان، وعدم الاعتراف بواقع التَّعدُّد السُّوداني، ونادت بإلغاء القوانين المقيِّدة للحريَّات، وإطلاق سراح المعتقلين، والتَّوصُّل لاتفاق سلام عادل، ووحدة طوعيَّة، وديموقراطيَّة تضمن التَّداول السِّلمى للسُّلطة، وتمنع التَّمييز بين المواطنين على أساس الدِّين، أو الثَّقافة، أو العِرق، أو النَّوع، أو الإقليم .. الخ ، سارعت الأمانة العامة لـ "هيئة علماء السُّودان" إلى إصدار بيان إدانة للمذكرة ممهوراً بتوقيع أمينها العام "البروفيسور" محمَّد عثمان صالح، معتبرة إيَّاها "فتنة وبغياً ومهدِّداً للشَّريعة"! وخلصت، على لسان "البروفيسير" نفسه، إلى وجـوب "استتابة التُّرابى حتَّى يثوب إلى أمر الله وأمر السُّلطان عما اكتسبه من إثم"! ودعت "لأخذ الباغين مأخذ الجِّد، ومعاملتهم بالحزم والحسم، حيث لا عدوان إلا على الظالمين" (الصَّحافة، 23 فبراير 2001م).
(3) وفي السِّياق رمى الشَّيخ محمَّد إبراهيم محمَّد، رئيس المجلس الأعلى للحجِّ والدَّعوة والأوقاف، التُّرابي "بالخروج عن الملة و .. موالاة الكفَّار"، داعياً الدَّولة "لاتِّخاذ إجراءات قويَّة لردع الخارجين" (المصدر).
(4) وعندما اتَّخذ حزب التُّرابي، بعد ذلك بشهور، موقفاً مؤيداً لطالبان، خلال حرب أمريكا على أفغانستان، أصدرت "جماعة من العلماء" بياناً، وقَّعه عنهم محمَّد عبد الكريم وسليمان أبو نارو وعبد الحي يوسف وآخرون، برَّأوا فيه "دعاة الإسلام" من موقـف التُّرابي وحـزبـه الذيـن "لا يتَّخـذون ديـن الله وشرعه دليلاً، أو يبغونه عوجاً ويريدون أن يتَّخذوا بين الكفر والإسلام سبيلاً"، ودعوا للتَّبرؤ من "هرطقة" التُّرابي و"إلحاده"، ناصحين بـ "الحذر الحذر من اتباع كلِّ ناعق، والميل نحو كلِّ مارق، فإنما يهدم الاسلام جدال المنافق بالكتاب .. والحقُّ أبلج لا يتبعه إلا مهتد مفلح، كما الباطل لجلج لا ينصره إلا ضالٌّ مخسر، واعتزال المسلم للباطل خيرٌ من تكثير سواده، والبراءة من أهله في الدُّنيا أحرى من الملاعنة فى يوم معاده .. فالنَّجاء النَّجاء لمن أراد الله والدار الآخرة"!
(5) أما إذا عدنا مع التَّاريخ إلى الوراء فإن الشَّواهد لا حصر لها على عدم دقَّة الحكم الذى أطلقته الهيئة بأن "علماء السُّودان مشهود لهم بأنهم أبعد النَّاس عن مجازفة التَّكفير واتِّهام النِّيَّات". فلقد كفَّر "علماء السُّودان" المهدي أواخر القرن التَّاسع عشر لثورته على الاستعمار التُّركى حتَّى وصفهم بأنهم "علماء السوء". وكفَّروا بعض أمراء المهديَّة الذين بدرت منهم معارضات لحكم الخليفة فأراد التَّخلص منهم. وكفروا الشَّيخ علي ود عبد الكريم وغيره من "فقرا" الخلاوي بطلب من الإدارة البريطانيَّة. وكفَّروا، كذلك، محمود محمد طه في محكمة الرِّدَّة الأولى عام 1967م، ثمَّ عندما ناوأ النِّميرى عام 1985م. بل وهناك بيان "علماء السودان" الذى أصدروه إبان مقتلة الجَّزيرة أبا عام 1970م، يصفون فيه ما فعله الأنصار بـ "الفتنة المتدثِّرة بثوب الاسلام ، و.. إن مبادئ مايو لا تخرج عن مبادئ الاسلام التي تقوم على العدل والاحسان، ومحاربة الظلم والفساد، لذلـك فـإن الوقـوف بجـانبهـا واجــب دينـي .. والخـروج عليهـا خــروج عـلى أمــر الله، ومخـالفـة صـريحـة لأهـداف ومبـادئ الاسـلام!" (الأيَّام، 3 أبريل 1970م).
……………………………...
……………………………...
أمَّا بعد، فإنَّنا، بعد كلِّ تلك الشَّواهد القديمة والجَّديدة من ممارسات "التَّكفير"، والتي ظلت شاخصة في أفق حياتنا، سواء من النَّاحية الفقهوفكريَّة أو القانونيَّة، نعود لنكرِّر التَّشديد على جملة الأسئلة التي طرحناها بإلحاح مقلق:
(1) هل كانت حقيقيَّة وكافية توجيهات رأس الدَّولة للعلماء "التَّكفيريِّين"؟!
(2) وهل كانت حقيقيَّة وصادقة، بالمقابل، تطمينات "هيئة" أولئك "العلماء" بأنها "تتوسَّط" فى طرحها الدِّيني، و"تعارض" كلَّ "تطرُّف"، و"تعلم" بعدم جواز "تكفير" المسلم "مهما كانت الأسباب"، لأن "التَّكفير جريمة" دينيَّة؟!
(3) ثمَّ هل كان "علماء السُّودان" محقِّين، أصلاً، في قولهم إنهم "مشهود لهم"، تاريخيَّاً، بأنهم "أبعد النَّاس عن مجازفة (التَّكفير) واتِّهام النيَّات"؟!

***