قصص من ذاكرة امرأة ( الوأد يقبع في أعماقنا )


عدوية السوالمة
الحوار المتمدن - العدد: 6059 - 2018 / 11 / 20 - 19:54
المحور: حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات     

مع اعلان سائق الحافلة عن اقترابه من المحطة قبل الأخيرة للوصول الى المدينة كتذكير لقاصدي تلك الوجهة من ركاب حافلته القادمين من قراهم النائية ليستعدوا للهبوط فيها , أحس مفيد بغليان دمه في عروقه التي أوشكت على الانفجار. إنها لحظة الحسم الأخيرة , وعليه أن يسكن قلقه الذي بدى سافرا على تفاصيل وجهه الذي في لحظات قليلة اشتعل احمرارا , وانطفأ برودة مرة واحدة , مخلفا وراءه تصببا غزيرا للعرق البارد الذي ملأ وجهه الشاحب فبدى كالموتى , وصوتا لأنفاسه اللاهثة تستجير من هول القادم على يديه المرتعشتين .

دلال القابعة بجانبه كانت محتوية أمعاءها بكلتا يديها من شدة الألم . ترنو ببصرها بعيدا نحو الحقول المنتظرة بفارغ الصبر عودة الشمس للظهور مجددا , واعدة السماء بربيعها بعد شتاء عاصف كسر وأغرق وانتحب حتى الثمالة , ولكنها ظلت تحلم بالأيام المشرقة التي لا شك قادمة .
لم يكن يدور في خلدها شيء سوى الخلاص من آلامها التي مزقت أمعائها دون رحمة حين طغت أنفاس أخيها اللاهثة على صمت انغلاقها على ذاتها , تراقب المكان خارج النافذة , فاستدارت نحوه بصعوبة بالغة تسأله بصوت أعياه الوجع وانتصر عليه :
مابالك تلهث يا أخي ؟ وما بال وجهك قد غرق في عرقه مع أن الطقس شديد البرودة هنا؟
فاجأه صوتها الذي شتت لحظات تخبطه في أفكاره فأجاب :
لا شيء , لا تشغلي بالك فأنا بخير .
للحظات عادت رغبته بالحماية والصفح , ولكنه أبعدها عن خاطره متمسكا بعنفوان رجولته الثائرة لكرامته , وعادت الدماء تغلي في عروقه ,وكلمات والدته المزمجرة بالثأر وغسل الشرف أخذت تتصاعد من رأسه لتطغى على مقومات وجوده الزمانية والمكانية :
اقتلها اقتلها تلك الفاجرة التي لم تأبه لرجولتك بين أقرانك فغمست رأسك بالوحل .
كلماتها كانت تنتفض في جسده وتبرق بشراستها في رأسه فتمسح أي ذكرى دافئة تربطه بدلال. تلك المراهقة الوديعة عذبة العينين دافئة القلب , وبيت سره الدائم , ورسول الهوى إلى يمامة ابنة جيرانهم . انها الآن تجلس الى جانبه تتلوى من الألم تنظر من النافذة إلى السهول والحقول نظرة عتب ولوم وكأنها خبرت نواياهم العدائية .
توقفت الحافلة بهم على مفرق طرق يفصل المدينة عن باقي القرى المجاورة لها , فانتصب مفيد واقفا يهم بالتحرك للهبوط من الحافلة , مادا يده بقوة نحو دلال يسحبها من ذراعها خارج المقعد بحركة سريعة , ويجرها وراءه دون أن يلتفت إليها . وبدون أدنى مقاومة منها سارت كرجل آلي وراءه . تبعته بصمت من لجمته الدهشة وقيدت حركته .
لقد كان من المفترض بهما أن يهبطا في مجمع بالمدينة تعرفه جيدا خاص بالحافلات القادمة من القرى, ومن بعد يتجها نحو المختبر لتجري بعض التحاليل التي طلبتها الطبيبة منها بالأمس حين راجعاها لتشخيص سبب اوجاعها بعد ان تحدثت مع أخيها على انفراد دون أن تدري فحوى ما دار بينهما, ولكنها الآن تجد نفسها تسير وراءه وسط الحقول البعيدة عن الاماكن الآهلة بالسكان بزعم أنه سيلتقي صديقا له يعطيه شيئا يخصه .
ألمها غطى على كل الافكار التي كان يجب ان تدور في رأسها . فالألم يمحو كل شيء من رأسنا ولا يعود لشيء اهمية في حياتنا بقدر التخلص منه بأي شكل كان حتى لو كان عن طريق الموت الذي يصبح في لحظات معينة امنية لو تحققت تكون الرحمة الربانية قد نزلت بنا .
سارت وراءه بصمت دون أن ترخي قبضتها , ممسكة بطنها بقوة حتى لا يسقط منها ورأسها متهدل إلى الأمام دون ان تحفل بخطواتها . سارا حتى وصلا الى طلل بين الاشجار فسارعت للجلوس على احد احجاره القديمة متهالكة القوى , ووقف مفيد الى جانبها ينظر إليها بتمعن تام وسرعان ما انطلقت الصرخات في رأسه مدوية :
الآن , اقتلها تلك الفاجرة بمظهر ملاك , هيا هيا هيا . حتى لم يعد يحس بنفسه إلا ويداه مزروعتان في عنقها تطالبان روحها بالخروج بسرعة من جسدها الهالك اصلا , وعيونها المذهولة من هول فعل تلك اليدين اللتين امتلأتا ذات يوم بأطواق الياسمين يضعها بين يديها محملة بدفء قلبه المتيم لتضعهم بين يدي يمامة ابنة جيرانهم فتأخذهم بحياء مملوء بالخجل وتبادلهم برسالات عشقها لأخيها مفيد, يلتقطهم منها بلهفة بالغة تحت وطأة ضحكاتها .
هي ذاتها تلك اليدان تنزع روحها الآن منها بلا أي رحمة , بلا أي انصات لشفاعات الاخوة والصداقة والحب بينهما . خرجت من جسدها مملوءة بالدهشة والصدمة وترنح جسدها ذاويا بين صخور ذلك المنزل المهدم وانتهى كل شيء .
ابتعد عنها قليلا متأملا جثتها محاولا تغليب انتصاره لشرفه على رابط ما بينهما . اجل تلك هي الرجولة والآن عليه ان يتم ما بدأه , عليه ان يتقدم باعترافاته لمخفر الشرطة الذي بدوره سيعلن للملأ قدسية فعلته .
ومع أن الرجولة ليست إلا حالة انسانية تتسم بالرحمة والايثار والتضحية والصفح لا نعلم لما يتم اختزالها في القدرة على تعنيف النساء والاحتفاء مجتمعيا بقتلهن . لما مازالت الجاهلية قابعة داخلنا نساء قبل الرجال , تطالب بوأدنا مع أول فرصة متاحة , علما بأن القصص المنقولة عن الرسل كانت تطالبنا بالرحمة أولا وطلب المغفرة والتوبة حتى لوكانت خطايانا كزبد البحر.
إلا أن العنف تجاه الاضعف تبدو سمة انسانية ايضا , ويبدو انها تحقيق لمتطلبات غريزة الموت فينا التي تدفعنا نحو الحروب والانتقام وبذات الوقت وبطريقة متناقضة تدفعنا للموت لاغاثة الاخرين .
سلم نفسه للشرطة معلنا بكل فخر وكبرياء يقتضيهما الموقف بأنه غسل عاره , وهو مستعد للعقوبة القضائية التي لن تتجاوز اشهر قليلة لمثل هذه الحالات التي لو استطاع القضاء ان يوزع نياشين على مرتكبيها لوزعها جهارا نهارا . فبالنهاية دافع عن رجولة مجتمعه الغارق في القهر والذل والفقر , والجهل , والمرض , وسخرية واستغلال واذلال باقي المجتمعات لنا . ولكنه نصر الرجولة والرجال وخلص مجتمعه من جميع آفاته التي يبدو أنها فقط محصورة ومتجمعة في موضوع واحد (الترصد لمعاقبة النساء على أفعالهن) .
وسط فرحة عودة الشرف سالما الى مرابع الاسرة جاء تقرير الطبيب الشرعي ليخلصهم من حالة (الانتشاء بالرجولة) ويعيدهم أناسا عاديين بلا مآثر تحكي عن بطولاتهم في ترويع النساء وتقديمهن كقرابين للتأكيد على ذكورية مجتمع يخشى أن تندثر بقايا سطوته وكبريائه المزعوم.
فقد ورد في تقرير الطبيب بأن المغدورة كانت مصابة بسرطان الرحم ولم تكن حاملا كما جاء في إفادة أخيها .
هو السرطان كان يفتت جسدها الفتي رويدا رويدا دون أن يدري بأنه كان عليه أن يكون أكثر حذرا في تجليات أعراضه لتتناسب مع معتقدات المجتمعات التي يزورها حتى يترك لهم على الأقل الموت بكرامة أو يترك لهم فرصة الدفاع عن أجسادهم أمامه بمحاولة العلاج .
الام التي نصبت نفسها حامي حمى وشرف العائلة صدمتها حقيقة آلام ابنتها التي لم تكلف نفسها مجرد سؤالها ولو من باب الفضول عن الفاعل حين اعلمها مفيد بأنها حامل كما ادعت الطبيبة .
جلست على كرسيها تندب حظها تاركة للندم ان يفعل فعله بها :
لقد كانت تتألم من المرض فسبقناه إلى هدمها كان بالامكان الوقوف الى جانبها لانقاظها واعطاءها فرصة للعيش لتكمل مشوارها الحياتي الذي جاءت الى الدنيا من اجله . ولكني خفت وجبنت وجعلتها تدفع ثمن خوفي .
كان ثوب ابنتها الجديد الذي قامت بحياكته لها خصيصا لحضور خطبة اخيها فيه مازال معلقا ينتظر لمسات دلال الأخيرة عليه فقد أرادت أن تزينه ببعض الأزرار اللامعة التي كانت ستحضرهم معها من المدينة حين تعود من هناك .
لم تعد تستطيع الحراك من محلها رغم محاولة الاهل والجيران والابناء دفعها للصمود إلا أنها ظلت تجلس امام ثوب ابنتها غير المكتمل طوال شهر كامل الى ان فارقت الحياة ماضية تطلب صفح ابنتها بعد أن تسببت بمقتلها السريع
في مثل هذه القضايا كثيرا ما نرى تخلي الأمهات عن حماية بناتهن وتركهن وحيدات لمصيرهن حتى وإن كنا ضحايا ممزقات , وكأنهن يخفن من أن يتم لومهن على التفريط في تربيتهن أو يخفن من مواجهة موضوعات تعتبر غاية في الخطورة لا يجب حتى التفكير فيها ولا يجب أن يسمح بوجودها أصلا بين أفراد أسرهن . موضوعات جسدت الخوف من الأنثى والرغبة في الخلاص منها بأسرع طريقة ممكنة كالوأد الذي بطل العمل به ولكنه ظل فعلا متحسرا عليه. فقد كان سيريح العائلة التي ظلت تنظر للإناث على أن همهن حتى الممات بدل تعليمهن الدفاع عن أنفسهن واحترام واعلاء قيمة ذاتهن .ولعلها متلازمة ستوكهولم حيث تبدي فيها النساء تعاطفا غير منطقي مع مختطفيها . في المحصلة تبدو النساء أكثر حماسة من الرجال لاستعادة شرف العائلة والدفاع عن ذكورها من خطر الاناث .
لم تشأ خطيبة مفيد يمامة الاكمال معه فأنهت علاقته بها بعد هذه الحادثة ولم يعد لمفيد شيئا في تلك القرية البائسة فهرب بعد قضاء حكم بالسجن مخفف بحسب ظروف قضيته الى بلاد المهجر محاولا نسيان كل ما يربطه بمجتمع مشبع بالكراهية والانتقام تجاه الضعفاء والمسالمين متعاليا على القيم الانسانية , دفعه لقتل من يحب على الشبهة فقط دون أن يترك فرصة ولو بسيطة لوجود لبس ما في قضية لا يجوز النقاش بها بل يجب التصرف فورا .