الحزب الشيوعي العراقي (2/2)


فؤاد النمري
الحوار المتمدن - العدد: 6058 - 2018 / 11 / 19 - 21:10
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

قادة الأحزاب الشيوعية القائمة اليوم ومنها الحزب الشيوعي العراقي يرفضون حقيقة أنهم تحولوا إلى مجرد إصلاحيين وحجتهم الوحيدة هي أنه طالما الثورة الإشتراكية لم تعد في الأفق وأن المشروع اللينيني البولشفي أنهار على أساسه فماذا عسانا فاعلون، يتساءلون !؟ هل نقعد في البيت ساكتين والشعب يعاني ما يعاني من العوز وضيق العيش !؟
لو كان افتراض هؤلاء الشيوعيين المفلسين صحيحاً وأن المشروع اللينيني في الثورة الإشتراكية انهار على أساسه - وهذا غير صحيح بالطبع - لكان قعودهم في البيت ساكتين أفضل لهم وأرقى من أن ينقلبوا إلى إصلاحيين بدعوى أصلاح المجتمع بدون الشيوعية، وهو ما يعني أن الشيوعية لم تكن أكثر من مجرد فكرة عابرة ابتدعها ماركس وأقحمها على مسار التاريخ، وهم بذلك يتبرؤون من تاريخهم بل ويستنكرونه . ذلك ما حذر منه آباء الشيوعية جميعم بحرص شديد، ماركس وإنجلز ولينين وستالين . الشيوعيون سابقا يكذبون بادعائهم أنهم انقلبوا إلى إصلاحيين لأنهم يشعرون بالتعاطف مع الفقراء والمساكين حيث كانوا قبل أن ينقلبوا إلى إصلاحيين يؤكدون على أنه ليس من مهمة أخرى للإصلاحيين غير خدمة البورجوازية في استغلال العمال كما رأى آباء الشيوعية . بل حتى الاستغلال ليس متوافراً في العراق فالصناعات لا تشكل أكثر من أعشار بالمئة من مجمل الدخل القومي علماً بأن عمال الخدمات لا ينتجون أدنى قيمة، خليك عن فائض القيمة، وعمال استخراج النفط لا يضيفون كثيراً إلى قيمة النفط الخام . ووفقاً لماركس فإن من لا ينتج فائض القيمة ليس منتجاً، وهو ما يعني أن أكثر من 95% بتقديري من العمال في العراق ليسوا منتجين وليسوا عمالاً بالمفهوم البروليتاري للكلمة، وهو ما لا يدعوهم إلى الإنضمام للحزب الشيوعي . نعود هنا لنكرر أن شرعية الأحزاب الشيوعية في الأطراف مستمدة من شرعية الثورة الشيوعية في المركز وهي هنا موسكو . ولذلك فإن خيانة شيوعيي بغداد وسائر الأطراف المماثلة إنما هي جزؤ لا يتجزأ من خيانة شيوعيي موسكو .
البورجوازية العراقية جميعها تقريباً من البورحوازية الوضيعة التي تستهلك ولا تنتج نقيرا والحزب الشيوعي سابقا في العراق يطالب اليوم بالديموقراطية البورجوازية، البورجوازية الرأسمالية التي تنتج حاجة المجتمع وأكثر والتي لا تتواجد في العراق . فكيف يصار إلى خلق الديموقراطية البورجوازية والبورجوازية غير موجودة . ما كان الله ليخلق الإنسان بغير حفنة من الصلصال . فأيُّهذا الحزب !! وأيُّهذه الشيوعية !!
كيف لأي مؤرخ أو مراقب سياسي أن يصدق دعاوى هذا الحزب الشيوعي سابقا الذي كان قد ملأ عالم العراق ثورة ونضالات وشهداءً إستكمالا لمشروع لينين في الثورة الإشتراكية العالمية واليوم ينهار المشروع الأساس دون أن يبحث هذا الحزب عن أسباب الإنهيار !!
الثورة الشيوعية كما في بنيتها الماركسية هي ثورة واحدة في كل العالم تنفجر بداية في المركز الرأسمالي وتنتشر في ثورة دائمة (Permanent Revolution) كما اشترطها ماركس إلى سائر أطراف العالم . كيف تنطفئ الثورة في المركز كما يفترضها الحزب الشيوعي وبناء علية ينقلب إلى حزب إصلاحي يتنكر للثورة الشيوعية بداعي التعاطف مع الفقراء والمساكين، ويستبدل الثورة الشيوعية بالدعوى اليساروية الفارغة من كل مضمون حقيقي . بعد عشر سنوات من استلام اليسارويين السلطة في العديد من دول أميركا اللاتينية وأكبرها البرازيل وفنزويلا عاد اليمين يهزم اليسارويين ولم ينفعهم زيادة حصة الفقراء من الخبز والسكر . سياسة الإحسان على الفقراء والمساكين لا تعني غير استدامة الفقر وتأبيده وحرمان المجتمع من التنمية الحقيقية والتطور وهذا وحده ما يقضي على الفقر . الدعوى اليساروية ليست إلا تعبيراً عن إفلاس الشيوعيين سابقا وهي الدعوى الغارق فيها اليوم الحزب الشيوعي سابقاً في العراق .

الحزب الشيوع في العراق - ومثله أحزاب شيوعية كثيرة - إنقلب إلى حزب يسارويّ تنكر نهائياً لثورة أكتوبر الاشتراكية باعتبار أنها قامت وانتهت بظروف خاصة لا فائدة من البحث فيها . من يقول مثل هذا القول هو ذو مصلحة في انتهائها أو أنه ساهم في انتهائها ولا يريد أن ينكشف دوره الرجعي والخياني، ولعل الحزب الشيوعي العراقي هو من هؤلاء القوم، فثمة احتمال كبير فيما لو أن الحزب الشيوعي أزاح قاسم وأعلن الثورة الشيوعية على شاطئ محيط النفط العربي لتبدل مسار الثورة الإشتراكية البلشفية ولم تنهر كما يفترض اليوم الشيوعيون سابقاً .
كيف لمسافر يعود إلى بيته بعد أيام فيجده محروقا بالكامل فيستأجر بيتاً آخر يسكنه دون أن يبحث عن أسباب الحريق !! الأمن في مثل هذه الحالة المفترضة بعيدة الإحتمال سيمسك بهذ الرجل مفترضا أنه هو نفسه من أحرق البيت لغرض في نفس يعقوب . ذلك ما فعله الحزب الشيوعي سابقاً في العراق . لم يبحث الحزب الشيوعي سابقاً في العراق عن أسباب إنهيار الاتحاد السوفياتي الذي وُصف بأنه أعظم زلزال في تاريخ الدول حيث لم يكن أقوى دولة في العالم فقط بل كان أيضا مركز الثورة الإشتراكية العالمية ؛ لو بحث الحزب في أسباب الإنهيار بحثا علميا وفق مسلمات العلوم الماركسية لوجد أن الإنقلاب على الثورة الإشتراكية كان قد حدث في الخمسينيات وتحديداً في سبتمبر ايلول 53 حين أرغم الجيش الحزب لأن يقرر إلغاء الخطة الخمسية التي كان الحزب قد قررها في مؤتمره العام في أكتوبر 52 وهو قرار مخالف للقانون وينتهك ولاية الحزب . ولوجد أن من قام بالإنقلاب وهو البورجوازية الوضيعة السوفياتية بقيادة الجيش ليس مؤهلاً لينقلب إنقلاباً حاسما بعد أن تسببت البورجوازية نفسها بإلغاء مرحلتها من التاريخ في العام 1918 عندما رفعت السلاح بوجه البلاشفة ؛ والبورجوازية الوضيعة هي وضيعة بحكم دورها في الإنتاج الذي لا تستطيع تجاوزه وهي لذلك لا دور لها في التاريخ . لن تستطيع إلغاء الثورة الإشتراكية مهما تعسفت بقواها العسكرية والسياسية السائدة منذ العام 53 وحتى اليوم في موسكو ؛ حكم التاريخ المبرم غير قابل للإستئناف .
إلغاء الخطة الخمسية انحرف بكل الإقتصاد السوفياتي إلى الإقتصار على صناعة الأسلحة التي تعارض التنمية الإشتراكية كما كان ستالين يؤكد طيلة قيادته للدولة وهو ما كان قد تسبب بمحاولة انقلاب عسكري ضد الحزب والدولة في العام 37، كما لعب دورا في تراجع القوات السوفياتية في الحرب حتى أسوار موسكو في مواجهة النازيين .
الإنقلاب تمثل باستبدال الإقتصاد المدني الإشتراكي الذي كان مقرراً وفق أرقام الخطة الخمسية أن ينقل الإتحاد السوفياتي إلى عتبة الشيوعية ويجعل منه جنة الله على الأرض، استبداله باقتصاد الحرب واقتصاد الحرب لا يطعم خبزا بل يأكل من خبز الشعب . كانت وزارة الخارجية الأميركية تصدر بياناً سنويا تشجب فيه حمى التسلح في الاتحاد السوفياتي وكنا آنذاك نكذب البيانات الأميركية ظناً منا أن تلك البيانات إنما كانت لتغطية حمى التسلح للإدارات الأميركية المتعاقبة رهينة الرأسمالية الإمبريالية، كما كانت السلطات السوفيتية تدعي لتغطية حمى التسلح لديها ؛ ولم نكن نفطن إلى أن حمى التسلح تعمل ضد النظام الرأسمالي أكثر مما هي ضد النظام الإشتراكي حيث العمل المأجور هو ما يكمل دائرة الإنتاج الرأسمالي بينما العمل غير مأجور في النظام الإشتراكي ؛ والأسلحة ليست بضاعة تستبدل في السوق لتوفر أجور العمل . وعليه فالولايات المتحدة الرأسمالية لا يمكنها مسابقة الإتحاد السوفياتي في التسلح . كان ذلك في الحرب حيث كان الاتحاد السوفياتي ينتج من الأسلحة أكثر مما تنتجه ألمانيا وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة مجتمعة . كان الاتحاد السوفياتي بعد انقلاب 53 ينتج الأسلحة ليس لحماية الاتحاد السوفياتي بل لتفكيك الاتحاد السوفياتي وانهيار الثورة الإشتراكية .

في سبتمبر 53 سمعت من راديو موسكو قرار اللجنة المركزية إلغاء الخطة الخمسية لأنها توهن (!) وسائل الدفاح عن الإتحاد السوفياتي كما نص القرار بالحرف، وفرحت لذلك القرار لاعتباري أن الشعوب السوفياتية ليست بحاجة للزبدة والبسكويت لكنها بحاجة للأسلحة كما قال البيان . أحداً مثلي من شيوعيي الأطراف مثل الحزب الشيوعي العراقي، بل وشيوعيي المركز كما يبدو، لم يكن يعلم أن لجنة الحزب المركزية أو أي هيئة أخرى في الاتحاد السوفياتي من صلاحيتها أن تلغي أي قرار من قرارات المؤتمر العام للحزب، المؤتمر الذي انتخب اللجنة المركزية لتنفيذ قراراته وليس لأي هدف آخر . أعضاء اللجنة المركزية ومنهم أعضاء المكتب السياسي كانوا يعلمون تماما أنه ليس من حقهم إلغاء الخطة الخمسية لكنهم لم يكونوا على قدر من المسؤولية للوقوف بوجه العسكر - وهنا يُستذكر رأي ستالين فيهم بأنهم لم يعودوا أكفاء لشغل عضوية المكتب السياسي للحزب فكان أكثر ما قام به مالنكوف هو الاستقالة من مركز الأمين العام للحزب لصالح خروشتشوف الذي قاد مؤامرة اصدار قرار إلغاء الخطة .
لقد نجح المجرمون بحق الإنسانية جمعاء بالإنقلاب على الإشتراكية وجروا معهم شيوعيي الأطراف ومنهم الحزب الشيوعي العراقي عن طريق إخفاء آثار جريمتهم بأن قرروا الإحتفاظ بمداولات المؤتمر العام التاسع عشر للحزب ومنها الخطة الخمسية العملاقة بسرية مطلقة لا يجوز الإطلاع عليها سوى رئيس الدولة . عملت لثلاثين عاماً للحصول على أي جزء من تلك المداولات وعبثا عملت حتى من خلال شخصيات وازنة في موسكو إلى أن قيض لي الحصول عليها كاملة قبل بضع سنوات بطرق خاصة .
الإنقلاب على الإشتراكية وعلى الحزب في العام 53 كان قد دفع بالقائد الشكلي للإنقلاب نيكيتا خروشتشوف إعلان الفصل بين الثورة الإشتركية من جهة وثورة التحرر الوطني من جهة أخرى في مؤتمر الحزب الإستثنائي الحادي والعشرين عام 59 خلافاً لمبدأ لينين القائل بالوحدة العضوية بين الثورتين بحجة تواجد مغامرين في ثورة التحرر الوطني يجلبون المتاعب وأخطاراً حقيقية للثورة الإشتركية . وتبعا لذلك قام العديد من الانقلابات العسكرية الدموية الرجعية وأخصها في أندونيسيا والعراق وإنقلابات معادية للإشتراكية من تدبير المخابرات السوفياتية برئاسة يوري أندروبوف أخصها انقلاب بومدين في الجزائر 65 وانقلاب حافظ الأسد في سوريا 70 . كما دبرت الولايات المتحدة باطلاع السوفييت الحرب على عبد الناصر في حزيران 67 بينما في أكتوبر 73 كانت على وشك الدخول في حرب نووية عالمية حفاظا على حافظ الأسد الموكول بضرب القوى التقدمية والإشتراكية في سور يا وخارج سوريا .

يمكن للمُراجِع أن يعذر الحزب الشيوعي العراقي في حرصه على وحدة الثورة الشيوعية والتنسيق مع موسكو بما يخص الثورة الشيوعية في العراق خاصة وأن الثورة في المركز موسكو كانت قد سُرقت خفية في العام 53، أما بعد حزيران 57 حيث قام المارشال جوكوف بانقلاب عسكري ضد الحزب انتهى إلى طرد سبعة أعضاء من المكتب السياسي والإبقاء على اثنين فقط هما رجل الجيش خروشتشوف وهو من كان قد سحب المكتب السياسي منه الثقة وصديقه ميكويان، وبعد مؤتمر الحزب الثاني والعشرين في أكتوبر 61 حيث ألغى خروشتشوف دولة دكتاتورية البروليتاريا وهي الدمغة المميزة للإشتركية، وشرع مبدأ المرابحة في الإنتاج ولم يبق من الإشتراكية أي ملمح، لم يعد للحزب الشيوعي في العراق أي عذر في استمرار تعاونه مع خروشتشوف وعصابته فكان أن علق ماوتسي تونغ على مذبحة الشيوعيين في شباط 63 بالقول الغليظ والفج .. " يستحق الشيوعيون في العراق ما حلَّ بهم " وكان يعني أن الشيوعيين في العراق خانوا الثورة طبقاً لتعليمات عدوه عدو الشيوعية خروشتشوف .
لم يتعلم الشيوعيون الدرس ففي صباح اليوم التالي لدخول الدبابات الأميركية بغداد وتحرير العراق من طغمة صدام الفاشية خرج الشيوعيون في مظاهرة في قلب بغداد يرفعون صورة جدارية لعبد الكريم قاسم يطالبون بخروج القوات الأميركية من العراق . لم يزل قاسم الذي لا يحب الشيوعية والشيوعيين وليّاً عليهم، لهؤلاء القوم الذين لم يعودوا شيوعيين قبل نصف قرن . لقد غدوا ديموقراطيين اجتماعيين مثل نظرائهم في ألمانيا وفرنسا رغم أنف القائد الشيوعي المؤسس "فهد"، وليغضب فهد ما شاء له أن يغضب في قبره .