الإنسان المأزوم بين الله والمعبد


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 6048 - 2018 / 11 / 8 - 19:50
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

الإنسان المأزوم بين الله والمعبد


من الإشكاليات المصيرية التي مازالت تطيح بأحلام الإنسان وتضعه على درب الخيارات الصعبة والمشتتة هي موقفه من الأنحياز الحر بين ما يريده الله وما يفرضه المعبد، فالله بوصفه العام مدبر الكون ومديره ومالك أسراره بالقوة والقدرة لا يمنه أن يفرض على الإنسان أن يخضع بدون إرادة عقلية لكل ما يريد، لأن ذلك يعني أستلاب حق التعقل الذي منحه له كطريق أساسي لفهم ما يريد منه، ومصادرة حرية القرار معها وسيكون بالنتيجة أن الإنسان كائن خاضع بالمطلق لا قيمة للعقل في أحداث ما يريد أو يختار، ويتحول الله إلى ظالم مطلق يجبر هذا الكائن على فعل ثم يحاسبه عليه سلبا وإيجابا، هذه هي فحوى الإشكالية الي يريد المعبد من خلالها النفاذ للمتعبد وأن يتخذ موقفا مشوشا وتشويشيا ليس لأجبار الإنسان على مسايرته والخضوع له، بل يريد أن يجير الخضوع له ويرمي بالذنب على الله بأعتباره ظالما والكائن الإنساني عليه أن يكون مذنبا على الدوام ومخطئ وظالم، النتيجة أن المعبد يريد أن يقول وبكل جرأة (أنا ربكم الأعلى).
المعبد كمفهوم جاء مصطلحا مشتق من العبادة، والعبادة أيضا جذرها اللساني من ع ب د بمعنى هيأ أو مهد أو أزال الأعتراض الممكن، وبذلك يكون مثر معنى العبد هو المتخلي عن مقاومة رغبة المستعبد أن يخضع له فهو أي العبد قد هيأ نفسه للقبول بذلك سواء تهيئة قسرية أو مهيأة طبيعية، فتكون العبادة هنا قبول وتمهيد لأمر خارجي دون أن يكون هناك مانع طبيعي وهو العقل برفض هذا الأمر، إذن العبادة قناعة خاصة يقبلها ويستسيغها العقل دون أن ذلك بالإكره أو الأضطرار الذي لا محيص منه أو عته، نعود لمفهوم المعبد بناء على هذه النتيجة فيكون هنا التعبد مشروطا بالحرية العقلية أولا وبوضوح فيما نعبد أو نتعبد له، وبالتالي فالقاعدة الأساس هنا ليست في ما يفترضه الأخرون أنه عبادة أو سشكلا منها بقدر ما يتحصله العقل على أنه حقيقي وطبيعي ولا يمكن معارضته لأنه متسق مع قوانين العقل.
فالمعبد بدون الرب أو الله أو صاحب الأمر لا يمكن أن يفرض ما هو خاص ذاتي على الإنسان خارج تلك الإرادة وإن فعلها أو تعمد ذلك أو نتج طبيعيا عن وجوده تحول هذا المعبد إلى نقيض لتلك الإرادة ومخرب لها، ولو نظرنا ومن جانب شمولي كلي لكل قيم الأديان الجوهرية سواء من النصوص الأصلية أو من جوهر المعنى تنحصر هذه الإرادة في إصلاح واقع الإنسان من خلال تحفيز العقل وتنظيم واجباته وكيفية إدارة الوجود الكوني على أفضل السبل، السؤال هنا هل أستطاع المعبد مثلا وعلى مر تاريخ الأديان أن يمتثل لهذه الحقيقة الكلية، وإذا كان الجواب نعم السؤال هنا إذا لماذا تعددت المعابد وتنوعت وتناقضت وتضاربت فيما بينها، وإن كان الجواب النفي فهذا يؤشر إلى زيف تلك المعابد وعدم قدرتها هي بأعتبارها راعية للأمر الفوقي أن تمتثل له وتتماهى مع رسالة الأديان، وبالتالي وجودها سلبيا وعكسيا وغير هام ولا يؤسس إلى أي نوع من أنواع الإنسجام البشري الذي أراده الله أو الرب أو المعبود أن يكون أمرا وجوديا بديا.
إذا هنا دور المعبد ليس تنفيذ إرادة خارجية تعمل على جعل حياة الإنسان أكثر أستقرار وديمومة في حفظ الطبيعة الخلوقة والمجعولة لعلتها، بقدر ما هي رغبات بشرية جزئية للحلول محل تلك الإرادة وتفضيل الخيار الذاتي على الخيار العام، فقد أنقسمت الواقع وتقسمت البشرية أضطرادا مع تعدد تلك المعابد وتعدد الأفكار التي تسيرها أعتباطيا، وتحول الواقيع إلى جحيم أرضي قضى على أي أمل كوني في توحيد الكيان البشري وفقا لرؤية المعبود، حتى المساجد التي أراد الله منها أن تكون خالصة له وأن لا يدعى فيها إلا له، تحولت إلى محافل وحلبات تتصارع فيما بينها وتدعوا للفردانية الذاتية لصاحبها أو متبني أفكارها خارج تلك المنظومة التوحدية المطلوب العمل على تجسيدها واقعا، ومن حقنا كبشر نعي هذه الحقيقة أن نعري هذا الواقع وندينه ونعمل على وضع أفكار السماء في موضعها الحقيقي حتى لو كنا على أقتراب أو أبتعاد نسبي من الدين، السبب أننا نعي أيضا أن حماية الوجود البشري بعلاته لا يمن أن يكون محل خلاف ولا نؤمن أن الحقيقة يمكن أن تصنعها تلك المعابد.
من شروط صحية وضع المعبد وقدرته على أن يتحول إلى أداة بناء وتوحيد وفعل إيجابي أن يتخلى عن الحرص والإنسياق وراء الذاتية المفرطة للقائمين عليه، وأن يتحول فعلا إلى أداة تواصل مع الرب أو الأله الذي نعبده بخيار حقيقي، وأن لا يكون ملكا لأحد أو فئة أو نظرية فكرية، فطالما أنه مخصص للرب والرب واحد والدين بالأصل واحد فلا يمكن تجزئة العبادة وصورها وتصوراتنا عنها خلاف ذلك، المعبد للإنسان كماهو لله علاقة مشتركة ومترابطة بعيدة عن الأنانية والأنحياز والتقوقع داخل مفاهيم تفرق ولا توحد، الغالبية العظمى بل أقول كل المعابد اليوم هي عبارة عن ممتلكات تجارية يستثمرها الكهنوت الديني لأجل أهداف مادية لا علاقة لها لا بالدين ولا بالإنسان من حيث هو كائن مقصود بالعبادة ومتقصد فيها تحقيق الصلة مع الله أو الرب.
الخلاصة التي نريدها من هذا الموضوع أن يتخلص الإنسان من أسر القداسة التي وضعها للمعبد بأعتباره بيت الرب، فالرب لا يمكن أن يكون بيته بهذه الحالية ولا يقبل أن تتحول تلك الحجور التي تسكنها أفاعي فكرية أداة لقتل مشروعه ومن ثم قتل الإنسان، الرب تلك القيم المثالية المتعالية في عقول الراشدين والمرشدين للحقيقة لا يمكن أن يهب بيته للفاسدين ومن ثم يحرص على تبليغنا أن هذا البيت محل تقديره وأحترامه، بل أجزم يقينا أن بيت فقير يسعى للحياة الجادة المنتجة هو أطهر وأجل عند الله من بيوت نسبها البعض لله زورا وبهتانا، بيت الرب بالأول وأخر هو بيت الإنسان العاقل الواعي المدرك المستجيب لوظيفته الوجودية، وليس مأوى للكسله والعطلة والمدعين الفضائل بالقول دون الفعل، بيت الرب هو أن تجد نفسك فيه حرا مخترا قادرا أن تصل مع الله وإلى الله دون أن يكون بينك وبينه حجاب وما أندر ما حصل أو نجد ذلك.