تأملات وثورة فى المسألة الأخلاقية


سامى لبيب
الحوار المتمدن - العدد: 6034 - 2018 / 10 / 25 - 19:43
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

المسألة الأخلاقية والسلوكية من المسائل الحيوية فى حراك وتطور الإنسان , فهي الأطر التى تحدد مسيرته وتحضره ونظامه , وبدونها ينحدر إلى الفوضى والهمجية وضياع البوصلة لذا من الأهمية بمكان حضور منظومة أخلاقية وسلوكية تجلب الأمان والسلام على حياته .. ولا يعنى هذا أن أى منظومة أخلاقية جالبة للأمان والسلام فقد عَرف الإنسان أخلاق جالبة للعداء والكراهية والإنتهاك .

- فى البداية يجدر الإشارة لخطأ شائع غير مصحوب بأى دليل بأن الأخلاق منظومة موضوعة من السماء , فلا يخرج هذا عن الإدعاء والظن فى أفضل الإحتمالات , وفى التجهيل والخداع في معظم الإحتمالات , فالأخلاق منتج إنسانى خالص أقامه الإنسان أو للدقة النخب والأقوياء لإرساء نظام محدد للعلاقات الإنسانية ثم تلحفت تلك المنظومات الأخلاقية بإدعاء أنها جاءت من الإله لتتحصن وتكتسب المناعة والقوة .

- مايثبت أن الأخلاق منتج وإبداع بشرى أن الإنسان المعاصر إنصرف عن الكثير مما إنتهجه الإنسان القديم فى علاقاته وتصوراته الأخلاقية , فلم تعد العبودية وسبى النساء مثلاً فعل أخلاقي حميد بل فعل مُستهجن قبيح من الإنسان المعاصر متحدياً فى ذلك منظومته الدينية والإلهية التى أتاحت ومنهجت وشرعنت هذا السلوك القديم .

- لو راجعنا كل الإرث الأخلاقي القديم الذى يتلحف بالمقدس كونه توصيات إلهية سنجد فكر النخب والأقوياء وأصحاب الهيمنة حاضراً ولا علاقة للسماء به , فمثلا إعتبار السرقة عمل غير أخلاقي هى رغبة الملاك في الحفاظ على أملاكهم من اللصوص ليأتى التقبيح والتحريم والعقاب , كذا تحريم العلاقات الجنسية الحرة منبوذ لأنه يعنى إختلاط الأنساب مما يؤدى إلى تبدد الثروات وضياعها فى أنساب ليست أنسابنا .

- هناك مشهد آخر يثبت بشرية الأخلاق يأتى من إزدواجيتها , فلو كانت منظومة إلهية فرضاً ما كان وقعت فى التناقض والإزدواجية , فمثلا القتل فعل أخلاقى مستهجن قميئ فى وسط الجماعة البشرية الواحدة ولكنه مقبول ومُحتفى به إذا كان القتل موجه ضد الآخر المتمثل فى عدونا وعدو الإله , كذا السرقة مرفوضة أخلاقيا فى داخل الجماعة البشرية ولكن مُرحب به ومَقبول عند نهب الآخر , أضف لذلك إغتصاب النساء فهو مُستهجن ومعاقب عليه عند الإعتداء على نساء المجموعة وغير مُستهجن ومُبرر عند إغتصاب نساء الآخر .. هكذا هى الأخلاق كمنتج بشرى برجماتى تلحف بالدين والإله ليمرر إزدواجيته وقبحه .

- من هنا ندرك بشرية الأخلاق وأهمية تطويرها وتهذيبها لترتقي بإنسانية الإنسان وهذا يتطلب هدم الأخلاق المدعاة دينية التى لا تتوافق مع تطورنا الحضاري وإحلال منظومة أخلاقية بشرية بديلة .. وهذا حادث بالفعل من حلول منظومة أخلاقية عالمية علمانية تستند إلى مفهوم حقوق الإنسان وكرامته وحريته .

لا يعنى هذا أننا تخلصنا وتحررنا من إرث الأخلاق الدينية فمازال هناك الكثير من السلوكيات الشائعة التى تقوض التطور والتحضر والكرامة الإنسانية لأطرح هنا بعض المواقف الثورية ضد مفردات نظنها أخلاقية .
- قبح الطاعة .
مفهوم الطاعة من المفاهيم الشائعة التى ترتدى لباس الأخلاق الطيبة الحميدة بينما هى تقولب وتشوه الإنسانية وتحول دون تطورها , فالطاعة مقصود بها الإذعان والخضوع والإستسلام لأصحاب القوة والسلطان بدءاً من الأب مروراً بزعيم القبيلة حتى الحاكم , فبدون الطاعة سيتم تقويض المجتمع وعجز القادة عن السيطرة والهيمنة , لنرى هذا صريحاً فى التراث الإسلامى بحديث لمحمد بوجوب طاعة الأمير:" حتى إن ضرب ظهرك وأكل مالك".
المقصود من الطاعة هو قولبة المجتمع وخضوعه وإذعانه لأصحاب القوة والجبروت ليتم تجميل هذا القبح وشرعنته بالعزف على فكرة أهمية ومشروعية وحق الأباء في نيل طاعة أبناءهم , فطاعة الأبناء هى لخيرهم وخير المجتمع , وفى الحقيقة هذا زعم باطل أيضاً فهناك فرق بين تصدير الخبرات والمعارف وبين الإذعان والخضوع لها , كذا ليست كل معارف وخبرات الأباء جيدة للإمتثال بها , لذا فمفهوم الطاعة مفهوم غبي مراوغ يعتنى بالخضوع والتسليم والإذعان لإرادة الآخرين ورؤيتهم .

- لا لإحترام الأفكار .
الإحترام من الفضائل الأخلاقية كما يتم ترويجه ليصير تابو وحصون وقلاع تتوارى وراءها الأفكار والرؤى التى تطلب الخشوع أمامها .. الإحترام لا يكون إلا لإنسانية وكرامة وحرية الإنسان أما الأفكار فلا يجب أن تحظى على الإحترام لأنها تدخل هكذا فى طلب حصانة وقداسة لا يجب أن تنالها , فطالما هى فى إطار أفكار فعليها أن تتحمل النقد الموضوعى أو حتى الصارخ الغير ملتزم .

- تقبيح نقد المقدس .
من الأخلاقيات القبيحة الموروثة التى مازالت سارية هى تقبيح نقد المقدس والثوابت لتحد وتقيد حرية الفكر والإعتقاد والتعبير تحت شعار تعظيم المقدس وتحصينه من العبث ليفرض المقدس سطوته وإجحافة .
المقدس هنا ليس مقصوراً على إله ودين ورموزه فهو أى فكرة مستبدة تطلب إقصاء ناقديها ومعارضيها, وحتى لا يكون نقدنا دينيا خالصا , فالإله والدين ماهو إلا تعبير عن سلطة نخب طبقية قديمة أو حديثة تلحفت بفكرة الإله لتحمى مصالحها وهيمنتها .
نجد سطوة الأحزاب الشيوعية والقومية التى لا تقبل أى خلاف أو إجتهاد داخلها إمتداد أو قل إقتباس لفكرة تحريم نقد المقدس لتقصى أى فكر ناقد معارض وليصل الإقصاء لحد العنف فلا تختلف في شئ عن إقصاء الدينيين

- الشك واليقين .
الشك من الأشياء التى نراها قبيحة سلوكياً أما اليقين فنقدره ونمدحه , بإعتبار الشك يعنى عدم الثقة بينما اليقين يعنى إمتلاك كل الثقة .. هذه الرؤية التى تحقر من الشك وتعظم اليقين هى رؤية مغلوطة معكوسة, فالشك يعنى البحث والحراك الفكرى والقدرة على الجدل ومراجعة أصنام الثوابت والمعارف , فالإنسان لم يتقدم ويحصل على إنسانيته وتطوره إلا من الشك , فالشك فى المعطيات وتقليبها أرسى الأنسان على المعرفة والحقائق , أما اليقين فهو غرور الإنسان المعرفي وعجرفته وتصلده أمام مايراه حقيقة بالرغم أنه لا يمتلك مقومات إثبات صحتها مما يعنى قولبته وجموده ومواته الفكرى والبحثى .

- لا للثوابت .
تُروج فكرة أن الحفاظ على ثوابت الأمة هو عمل سلوكى جيد يحافظ على مقومات المجتمع وتاريخه وإرثه .. هذا الفكر والسلوك خاطئ وسبب أصيل من أسباب جمود وتخلف الشعوب ومسخ الإنسانية , فالثوابت هى فكر ورؤى وخبرات إنسان قديم بكل ما يحمله من معارف محدودة وأحوال ذهنية ونفسية ومزاجية خاصة لذا لا يمكن الإحتفاظ بها وإسقاطها على واقع ديناميكى مغاير فهذا يعنى الجمود والتخلف .

- لا لسطوة الأوصياء .
يسود فى المجتمعات الشرقية الدينية فكرة أخلاقية التطفل والتدخل فى حرية الآخرين ومراقبة سلوكهم وممارسة قمعه لمن يمتلك في هذا سبيلاً , لتصير المنظومة الأخلاقية منظومة قمعية إستبدادية تسحق حرية وكرامة الإنسان .
أرى هذا التدخل الذى يبيحه منهج وفكر دينى هو رغبة الناس أن يمارسوا قمعاً وإستبداداً كالذي ينالونه , كما هو إشفاء لمتعة الوصاية التى تجد قبولاً فى مجتمعات مسحوقة تتوسم فى التنفيس عن سحقها بسحق الآخرين , علاوة على لذة التمايز والتشفى فى الآخرين ., لن ينصلح حال الإنسانية من منهجية الوصاية والقمع .

- إقصاء الأخلاق الدينية .
قد يندهش البعض من قولى حتمية إقصاء الاخلاق الدينية ممن يعتبرون أن الاديان مبعث الأخلاق الحميدة ومكارم الأخلاق , فنحن بالفعل أمام منظومات أنتجت منظومات أخلاقية عنصرية , تعتنى بالعلاقات الإنسانية بين أفراد المجموعة الواحدة نابذة العلاقات الإنسانية مع جميع البشرية , فالأخوة هى للمنتمين للدين فقط , كذا المودة والتعاطف والتعاضد لأصحاب نفس الهوية الدينية الواحدة , بينما مكروه أن تمنح الأخوة والمودة والتعاطف والإنسانية لمن يخالفك في الدين ولعل هذا واضح لدى أصحاب العقيدة اليهودية كذا الإرث الإسلامى بفقه الولاء والبراء .
عالمنا المعاصر لم يعد يتحمل الأديان بما تمارسه من فكر عنصري قميئ نابذ للآخر فلا حضارة بدون إقصاء الدين وسيادة مشروع أخلاقي إنساني أممي يعتنى بإنسانية وحرية وكرامة الإنسان .

- إشكالية الأخلاق المزمنة .
الأخلاق تعبير عن رؤى الإنسان ونظرته لمصالحه وأمانه وسلامه فلم تخرج الأخلاق عن هذا الإطار منذ القدم وحتى الآن ولكنها حملت أيضا شئ من الرومانسية والأمانى فى ذهنية بعض المعاصرين ناشدة الحرية والسلام والكرامة والمساواة للجميع .
هناك إشكاليتان فى المسالة الأخلاقية إشكالية سطوة القوة والجنس , فبالنسبة لسطوة القوة فالمجتمع الإنسانى مازال يخضع لمفهوم وسيطرة الأقوى لم ينفك عنه فهكذا هو قانون الحياة والطبيعة , لينتج كل منظوماته ومنها الأخلاق للتعبير عن مصالح ورغبات الأقوى المتمثل فى الذكورة والمال والسلطة فلا مكان لأخلاقيات تعبر عن رغبات ورؤى ونظام الضعفاء .
الإشكالية الثانية هي في الجنس فعندما يختزل الرجل فى قضيب وعندما تدرك المراة أن كل ما تمتلكه من سلاح هو جسدها وقدرتها على الإغواء فلا مكان لأخلاق إنسانية راقية قادرة على التحرر من فلسفة الجسد .

دمتم بخير.
"من كل حسب طاقته لكل حسب حاجته " أمل الإنسانية القادم فى عالم متحرر من الأنانية والظلم والجشع .