إنتهت اللعبة Game Over


كمال الجزولي
الحوار المتمدن - العدد: 5990 - 2018 / 9 / 10 - 11:09
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

ورقةٌ مستعادةٌ من رزنامةٍ قديمة
إنتَهَت اللَّعْبَة!
GAME OVER
(مِن يَومِيَّاتُ البَسَالَةِ والمَجْدِ فِي مَارِس ـ أَبريل 1985م)

ضُحى الثَّاني من أبريل 1985م
سيَّارة تنهب جسر النِّيل الأبيض باتِّجاه أم درمان، ومنصَّة تنهض قبالة الواجهة الجَّنوبيَّة للقصر الجَّمهوري بالخرطوم! خلف مقود السيَّارة رجل يتمنَّى لو يطول اليوم أكثر من أربع وعشرين ساعة، وفوق المنصَّة ثلة من جنرالات النِّميري، ودكاترة اتِّحاده الاشتراكي، يهدرون بكلام يخلو تماماً من أيِّ معنى! فثمَّة مَن يُهَسْتِر محرِّضاً: "أضربوهم ضرب العقارب"، دون أن يدري مَن سيضرب مَن غداً! وثمَّة مَن يرغي ويزبد بحرف التَّوكيد والنصب "إنَّ"، دون أن يخطر بباله "خبر" تلك الـ "إنَّ"، أو حتَّى "اسمها"!
يلفهم كان يتمٌ ساحق جرَّاء غياب "رئيسهم القائد"، يومها، بعيداً، في أمريكا، وتركه إيَّاهم يواجهون، بدونه، جماهير المستضعفين، وقد هيَّجها عليهم، في آخر خطبه، قائلاً ما لم تقله ماري أنطوانيت، في زمانها، عن .. "البقلاوة"! وإلى ذلك كان الغبن يعتمل بين جوانحهم، يطيلون، تحت وطأته، التَّحديق، بأعين واجفة، وشفاه طبشوريَّة، في جمع هزيل وقف أمامهم، مغلوباً على أمره، يصطلي بشواظ شمس آخذة في التلهُّب، وغالبيَّته ما تنفك تتضجَّر من الأسلوب الذي جرجروها به إلى هنا، حتف أنفها، حيث لم يفلح سماسِرة المواكب في اصطياد عدد أكبر، برغم المال السَّائب الذي جرى تبديده، كالعادة، ولكن للمرَّة الأخيرة، في تحشيد ما أسموه، يومها، "موكب الرَّدع"، ويا طالما كانوا شطاراً في اصطناع التَّسميات!
كان المُستهدَف بذلك "الرَّدع" هو الحِراك النِّقابي والسِّياسي الذي علت هِمَّته، أيامها، أكثر من أيِّ وقت مضى، وزَرَعَ، ربَّما لأوَّل مرَّة، خوفاً حقيقيَّاً في نفوس أولئك الكهنة الذين ما كانوا يتقنون غير التبضُّع بالشِّعارات الخاوية، والتلهِّي بالكلام السَّاكت، فإذا بالتبضُّع والتلهِّي لا يورثانهم، في ذينك الزَّمان والمكان، سوى الإحساس المرعب ببداية النِّهاية تسري في دواخلهم مسرى الدَّم، كجرذان السَّفينة المشرفة على الغرق!
أمَّا العجب العجاب فهو أن الجَّالس، ساعتها، خلف مقود السيَّارة المنطلقة، كما الرَّمية، باتجاه بيت الصَّادق المهدي، كان هو نفسه د. أمين مكي مدني المحامي، والأستاذ الجَّامعي، والمُنسِّق الأساسي لذلك الحراك الجَّاري، والذي لم تكن شخصيَّته المتواضعة لتشي بما يختزن من جُّرأة!

مساء الثَّامن عشر من يناير 1985م
غداة إعدام الشَّهيد محمود محمد طه، في الثَّامن عشر من يناير، لعب أمين الدَّور الرَّئيس في إنجاح اجتماع سِرِّي لممثِّلي ثلاثة عشر نقابة، على رأسها المحامون، والأطباء، والمهندسون، والتَّأمينات، وأساتذة الجَّامعات، ليؤسِّسوا "التَّجمُّع النِّقابي"، وليتداولوا خيارَي الإضراب أو تسيير موكب يسلم رئيس الجَّمهوريَّة مذكرة تطالب بإطلاق الحريَّات والحقوق، وبالأخصِّ حريَّة العمل النِّقابي، وإلغاء قانون النِّقابات المايوي، وضمان استقلال القضاء، والجَّامعات، وحريَّة البحث العلمي، واعتماد الحلِّ السِّلمي لـ "مشكلة الجَّنوب"، فضلاً عن رفع المعاناة المعيشيَّة عن كاهل الجَّماهير. وبدا الرأي الغالب أميَلَ للمزاوجة بين الخيارين.
من جهتها ، كانت أحزاب الأمَّة، والاتِّحادي، والشِّيوعي، قد عكفت، أصلاً، ومنذ العام 1984م، على بلورة "ميثاق" يوحِّد العمل الوطني الدِّيموقراطي للاطاحة بالنِّظام بين أطراف جبهة المعارضة، بما فيها الكتلة المؤتلفة، قبل ذلك، مع حزب البعث، في ما عُرف بـ "تجمُّع الشَّعب السُّوداني".

صباح السَّادس والعشرين من مارس 1985م
بادر طلاب جامعة أم درمان الاسلاميَّة بالضربة الأولى على رأس المسمار، حيث سيَّر اتحادهم موكباً جسوراً جاب وسط المدينة، لتلتحم معه جموع غفيرة في منطقة السُّوق. وإن هيَ إلا ساعات حتى كانت أصداء الحدث تنداح، رويداً رويداً، إلى كلِّ مواقع العمل والسَّكن في العاصمة المثلثة. وبدأت الجَّماهير تتدفق إلى الشَّوارع، وتدخل في صدام مكشوف مع ما عُرف، آنذاك، بـ "نظام الجُّوع والإرهاب". فإذا بعطر أكتوبر يضوع في الأجواء، وإذا بالشَّعب يغدو على أتمِّ الاستعداد للفداء، وإذا بإطاحة النظام تنطرح مهامها كافَّة في أفق القوى النِّقابيَّة والسِّياسيَّة، وتستوجب الإسراع بالتصدِّي لها.

صباح الثَّامن والعشرين من مارس 1985م
حدث مفاجئ كاد يربك حسابات "التَّجمُّع النِّقابي"! إجتمعت الجَّمعيَّة العموميَّة للهيئة النِّقابيَّة الفرعيَّة لأطباء مستشفى الخرطوم بقيادة نقيبها د. أحمد التيجاني الطاهر، وقرَّرت، منفردة، خيار الإضراب حتى الثَّلاثين من مارس، احتجاجاً على القمع الوحشيِّ الذي واجه به النِّظام المتظاهرين طوال اليومين الماضيين، ما أفضى لاكتظاظ المشرحة، والعنابر، وأقسام الطوارئ، بالشُّهداء والجَّرحى. ودعا بيان الفرعيَّة مركزيَّتها، بقيادة النَّقيب د. الجزولي دفع الله، وسائر النِّقابات الأخرى، للإضراب السِّياسي حتَّى إسقاط النِّظام!
صار لا بُدَّ من عقد اجتماع عاجل لـ "التَّجمُّع النِّقابي" كي يقرِّر إما الاستمرار في التَّحضير للموكب والمذكرة، أو الدخول، فوراً، في إضراب يؤازر تلك الفرعيَّة. واتُّفق، عبر اتِّصالات مضنية، على عقد ذلك الاجتماع مساء نفس اليوم، بدار نقابة المحامين القديمة بشارع كلوزيوم بالخرطوم.

مساء الثَّامن والعشرين من مارس 1985م
في الموعد المحدَّد تواترت الأحداث المربكة! تقاطرت، فجأة، إلى تلك الدَّار جموع غفيرة من المحامين الذين اتضح أن تسريباً مغلوطاً دعاهم للاحتشاد هناك، فأمسى المناخ غير ملائم لعقد الاجتماع! بل تعذر حتَّى التَّشاور الذي بدأ، تلقائيَّاً، بين الذين وصلوا من مجلس النِّقابة وبين بعض المعاونين للمجلس من خارجه، وكنت واحداً منهم، حول ما يمكن عمله لإنقاذ الوضع، فاقترح النقيب مرغني النَّصري الدُّخول إلى مكتبه لتكملة التَّشاور بهدوء وسرعة!
داخل مكتب النَّقيب كنَّا ما بين 12 ـ 15 محامياً، وكان عمر عبد العاطي، وكيل النِّقابة حينها، واقفاً عند الباب يحاول سدَّ مصراعيه بجسمه النَّحيل. لكن ما أن بدأ النِّقاش، حتَّى ارتفعت الجَّلبة من الخارج، وفرقع طرق عنيف على الباب، وتعرَّض لحركة دفع غير عاديَّة. إنقطع الحديث، واضطر عمر لفتح الباب، فرأينا، بوضوح، أن وريقة قد سُلمت له، وأنه بدأ يطالعها، وأن أربعة غرباء يقفون بالباب من الخارج، وأن مشهد المكتب مكشوف لهم بالكامل!
لحظات ، ثمَّ التفت إلينا عمر قائلاً بصوته الجَّهوري:
ـ "يا أساتذة .. الجماعة ديل من الأمن، ومعاهم أمر قبض على بعض الأسماء، فرجاءً البسمع إسمو يطلع ليهم: عمر عبد العاطي، سليم عيسى، أمين مكي مدني، مصطفى عبد القادر، كمال الجزولي ، و .."!
أسماء أخرى أنستنيها الذاكرة الضَّعيفة. لكنني أذكر جيِّداً أن أمين كان غائباً، يومها، بلندن في بعض شأن التَّنسيق بين الدَّاخل والخارج، ولم يعُد إلا في الثَّلاثين من مارس، وأن أفراد الأمن لم يتعرَّفوا، في ما بدا، على أغلب المطلوبين، بما فيهم عمر عبد العاطي نفسه، علاوة على أن إيماءات ندَّت عنهم أوحت بأنهم قد تعرَّفوا على مصطفى وشخصي، فلم يكن ثمَّة مناص من إنهاء المسألة بخروجنا إليهم .. وفوراً!

صباح التاسع والعشرين من مارس 1985م
بتنا ليلتنا في زنازين الجِّهاز. وعند الفجر أخرجونا إلى حيث كان ينتظرنا ميني بص كالح وجـدنا بداخـله بكـري عديـل، والجـزولي دفـع الله، ومحمَّد الأمين التوم، وحسين أبو صالح، ومروان حامد الرَّشيد، ومامون محمد حسين،ونجيب نجم الدِّين، فضلاً عن البطلين: محمد احمد سلامة رئيس اتِّحـاد أم درمـان الإسـلاميَّة، ومحي الدِّين محمَّد عبد الله سكرتير الاتِّحاد. فعلمنا أنهم اعتقلوا، جميعاً، مساء البارحة، وباتوا، مثلنا، في زنازين الجهاز.
إتخذ الميني بص طريقه شمالاً، حيث غشي "سجن كوبر"، فأُُنزل مروان، ثم واصل سيره، طاوياً بحري، وريفها الشَّمالي، حتَّى بلغ بنا إلى "سجن دبك" على الضفة الشَّرقيَّة للنِّيل!
أودعونا عنبراً تفوح منه رائحة الخفافيش النافقة، في قِسم به عنبر آخر مشابه فتحوه، في اليوم التَّالي، لاستقبال منسوبي حركة التُّرابي المُرحَّلين من "سجن سواكن". وكانوا، إلى ما قبل أسابيع، حلفاء للنِّميري الذي شنَّ عليهم جردة اعتقالات وملاحقة في إطار "نكبة البرامكة" التي حلت بهم آنذاك!
بدا واضحاً أن القِسم ظلَّ مغلقاً لسنوات، وأنه جُهِّز لنا على عجل، حيث اعتُقلنا إلى مساء 6 أبريل. لكن بيئته كانت ما تزال رديئة، حتَّى أن عديل فضَّل سحب سريره إلى ظلِّ شجرة أمام العنبر. فصار ذلك السَّرير ملتقى سحابات نهاراتنا، نناقش، ونحلل، ونحاول، في عزلتنا تلك، حيث لا جرائد تصل، ولا راديو يُسعِف، استقراء ما قد تكون سارت عليه الأحداث منذ اعتقالنا!

مساء الأوَّل وضحى الثَّاني من أبريل 1985م
علمنا، لاحقاً، أن "التَّجمُّع النِّقابيَّ" تمكن من تجاوز ارتباك أمسية الثَّامن والعشرين من مارس، فتواصلت مشاوراته، باتِّجاه تسيير موكب في الثَّالث من أبريل لتسليم مذكرة إلى السُّلطة، وأنه، بتنسيق د. أمين، عقد، مساء الأوَّل من أبريل، عشيَّة "موكب الرَّدع"، أحد أهمِّ اجتماعاته، على نجيل نادي الخرِّيجين ببحري، وخلص إلى وضع التَّصوُّر النهائيِّ للمذكِّرة، والموكب، وتصعيد المواجهة، وتكليف د. أمين بحمل تلك المقترحات إلى القوى السِّياسيَّة.
هكذا، عندما وصل د. أمين إلى بيت الصَّادق، ضحى الثاني من أبريل، في سباق مع "موكب الرَّدع"، كان الأخير يتأهَّب للاختفاء، فسلمه د. أمين، على عجل، تصوُّر النِّقابات، واستلم منه مقترح القوى السِّياسيَّة، بخط يده، واتَّفقا على استمرار اتِّصالاتهما عن طريق عمر نور الدَّائم وصلاح عبد السَّلام.
غادر د. أمين بيت الصَّادق ليلحق باجتماع سكرتاريَّة "التَّجمُّع النِّقابي" عند الظهر، بمكتب عثمان عبد العاطي بوسط الخرطوم، حيث استنسخت صور من بيان جماهيريٍّ أعِدَّ لأغراض الموكب، يزاوج بين أعمِّ مشتركات النِّقابات والأحزاب. وفي المساء انعقد اجتماع آخر لـ "التَّجمُّع النِّقابي" في منزل مامون مكي بكوبر، وُضِعت فيه اللمسات الأخيرة على جهود التَّحضير للموكب والمذكرة.

نهار الثالث من أبريل 1985م
غير مسبوق، بكلِّ المعايير، ذلك الانفجار الجَّماهيريُّ الذي ظلَّ يشهده وسط الخرطوم، منذ الصَّباح الباكر. فقد أخذت الجُّموع تتقاطر، وتتجمَّع، نساءً ورجالاً، شيباً وشباباً، الكسيح على ظهر الضَّرير، وتتدفَّق أنهاراً، من كلِّ فجٍّ عميق، صوب شارع القصر، فيفيض بها، من السِّكَّة حديد إلى ساحة الشُّهداء، حيث تمركزت في ما يشبه التَّحدِّي لموكب "ردع" البارحة! لكن .. شتَّان بين ذلك الطوفان البشري الهادر، وبين ذلك الجَّمع الهزيل الذي تمَّت جرجرته بالأمس إلى هناك، ليتلقى، ساخراً، تحريضات "ضرب العقارب" في الجحور، وليستمع، متضجِّراً، إلى مبتدءات "إنَّ" التي لا "خبر" لها! لقد كان أكتوبر آخر يتخلق في تلك اللحظة، وساعة النِّظام تأزف لا ريب فيها!

الرَّابع والخامس من أبريل 1985م
لم يتوقَّف، قط، تصاعد المدِّ النِّقابي والحزبي، بينما راح يستعر نشاط جهاز الأمن، ويزداد تساقط الشُّهداء، وعلى رأسهم عبد الجَّليل طه، وأزهري مصطفى، والطفلة ذات العام الواحد مشاعر محمد عبد الله، جرَّاء إطلاق الرَّصاص عليهم من بُعد لا يتجاوز المترين! وضاقت الزنازين بالمعتقلين، وعاثت الهرَّاوات الغليظة، والعصيُّ الكهربائيَّة، تنكيلاً في الثوار العُزَّل إلا من تصميمهم على إسقاط النظام البغيض. وانتشر الغاز المسيِّل للدموع في الشَّوارع والسَّاحات يلوِّث هواء المدينة، ويتسلل من فرجات الأبواب والنَّوافذ إلى غرف المستشفيات والبيوت، وصحف النِّظام ما تفتأ تختزل الطوفان في محض "عناصر مخرِّبة تحدث بعض الشَّغب!"، و"غوغاء يخربون الممتلكات!"، و"فلول أحزاب عقائديَّة تطلُّ برأسها"! كلُّ ذلك لإيقاف المدِّ الشعبيِّ الزاحف بإصرار .. ولكن هيهات!
وفي الخامس من أبريل ظهر الصَّادق المهدي، فجأة، بين أنصاره، يؤمهم لصلاة الجُّمعة بجامع السَّيِّد عبد الرحمن، مفتتحاً الخطبة بقوله تعالى: "حتى إذا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وظنُّوا أنَّهُم قد كُذِّبُوا جاءَهُم نصرُنا فَنُجِّيَ مَن نشاءُ ولا يُرَدُّ بَأْسُنا عن القوم المُجرمين" (110 ؛ يوسف)؛ وحيَّا حيويَّة الشَّعب، واتِّحاد الكلمة، وشعاعات الصُّبح التي أسفرت، ثم ما لبث أن نزل من المنبر، ليعود للاختفاء ، متسللاً من باب خلفيٍّ!

مساء الخامس وفجر السَّادس من أبريل 1985م
توالى حضور مندوبي التجمُّعين النقابي والحزبي إلى المنزل الذي جرى تأمينه، بالعمارات بالخرطوم، لعقد أوَّل اجتماع مشترك بين الطرفين، بعد أن كان التَّنسيق بينهما يتمُّ، حتى ذلك الوقت، عن طريق د. أمين الذي اختفى عقب موكب الثَّالث من أبريل، ثمَّ حضر مساء اليوم إلى مكان الاجتماع بصحبة عمر عبد العاطي، مندوب المحامين. وحضر عبد الرحمن إدريس عن الأطباء، وعوض الكريم محمد احمد عن المهندسين، وعبد العزيز دفع الله عن التَّأمينات، وعلي عبد الله عباس عن أساتذة جامعة الخرطوم. كما حضر عمر نور الدَّائم وصلاح عبد السَّلام عن حزب الأمَّة، وسيد احمد الحسين وإبراهيم حمد عن الاتِّحاديين، ومحجوب عثمان عن الشِّيوعيين.
اتَّسم الاجتماع بالملاسنات، والعنف اللفظي، خاصة بين عبد الرحمن إدريس وعمر نور الدائم، مِمَّا كاد يعصف به لولا تدخُّلات محجوب عثمان! وقد تركزت نقاط الخلاف، أساساً، على رئاسة الوزارة الانتقاليَّة التي كان التجمُّع النقابي يطالب بها، وبأن تخصَّص له 60% من مقاعدها، وبأن تكون الفترة الانتقاليَّة ثلاث سنوات، مقابل مطالبة الأحزاب بسنة واحدة.
أخيراً، وعند الثالثة من صباح السَّادس من أبريل، توصَّل الاجتماع إلى صيغة توافقيَّة حول "ميثاق التَّجمُّع الوطني الدِّيموقراطي"، صاغها د. أمين بخط يده، وأرفق معها النقاط الخلافيَّة التي لم يُعلن عنها مطلقاً في أيِّ وقت بعد ذلك! واستطراداً، فقد تمَّ تجاوزها عمليَّاً، بالأخص الخلاف حول مدى الفترة الانتقاليَّة، حيث تنازل "التَّجمُّع النقابي" عن مطلبه، حين استراب في تشكيل المجلس العسكري الانتقالي، ومناوراته التي أوحت بتطلعه للعب دور سياسيٍّ أكبر من مجرَّد الانحياز للانتفاضة!
......................
......................
على حين كان اجتماع "التجمُّعين" منعقداً، كان ثمَّة حدثان آخران لا يقلان جسامة يجريان على جبهة النِّظام وما تبقى له من "فتافيت" السُّلطة!
فمن ناحية كان كبار قادة الجَّيش يجتمعون، بالقيادة العامَّة، مع المشير سوار الدَّهب، القائد العام ووزير الدِّفاع، ويضغطون عليه ليوافق على الاطاحة بالنِّظام، حيث نجحوا مع الساعات الأولى لفجر السَّادس من أبريل!
لكن، في ذات تلك اللحظات العصيبة، كان اللواء عمر محمد الطيِّب، النَّائب الأوَّل لرئيس الجُّمهوريَّة ورئيس جهاز الأمن، يحاول اللعب بآخر كرت توهَّم أنه ما زال في جيبه! فلمَّا أحسَّ بتحرُّكات القادة، بعث، مع اللواء عثمان السَّيِّد والعقيد الفاتح عروة، برسالة شفهيَّة إلى ممثِّل الـ CIA بالسِّفارة الأمريكيَّة بالخرطوم، طالباً تدخُّل قوَّات الانتشار السَّريع من القواعد المتوسِّطيَّة لـ "حماية!" البلاد، من غزوة ليبيَّة على السُّودان خلال السَّاعات القادمة! غير أن الردَّ الصاعق سرعان ما جاء مؤكِّداً أنه لم يعُد ثمة وقت لمساعدة النظام، فقد انتهت اللعبة game over، وليس بمستطاع أيِّ قوَّة أن توقف الانقلاب الذي سيقع بعد قليل انحيازاً للانتفاضة!
......................
......................
مع البيَّاح ، فجر السَّادس من أبريل، إنفضَّ ذلك اجتماع العمارات، حيث قرَّر د. أمين وعمر نور الدائم قضاء الوقت حتَّى شروق الشَّمس في نفس المنزل، بينما راح الآخرون يتسللون، تحت جنح الظلام، ليتفرَّقوا في شوارع الحيِّ الهادئ.
خرج عمر عبد العاطي بصحبة عبد العزيز دفع الله قاصِدَين سيَّارة عمر التي كان قد جاء بها مع د. أمين، أوَّل المساء، وأوقفها أمام منزل أحد أصدقائه، على بُعد شارعين من مكان الاجتماع! وهو نفس المنزل الذي غشيه معظم ممثلي النِّقابات والأحزاب، وتحرَّكوا منه إلى مكان الاجتماع! لكن ما كاد عمر وعبد العزيز يقتربان من السيَّارة حتى اكتشفا أنها مفتوحة، وأن "مجهولين" ينتظرون بداخلها مستغرقين في غفوة، فأطلق الاثنان سيقانهم للرِّيح! وعندما أحسَّ "أهل الكهف" بحركتهما، أفاقوا، لتشهد شوارع الحيِّ الهادئ مطاردة عنيفة ما كان عمر ليتصوَّر أنه يقدر عليها بما يشكو من آلام الظهر والمفاصل! في ما بعد اتضح أن شقيق زوجة صاحب المنزل، والذي شارك في استقبال كل ضيوف صهره قبل أن يتوجَّهوا إلى اجتماعهم، عضو بالجِّهاز! ولولا أنه انشغل بالابلاغ عنهم، قبل أن يعرف المكان الذي توجَّهوا إليه، لما قامت لذلك الاجتماع التاريخيِّ قائمة!
واستطراداً ، فإن الوحيد الذى عثروا عليه واعتقلوه، ذلك المساء، هو التِّجاني الكارب الذي كان قد أوصل عمر نور الدائم وصلاح عبد السَّلام بسيارته إلى ذلك المنزل، ثمَّ عاد إلى بيته، فاعتقل! وهكذا قدِّر للكارب أن يكون آخر مَن تعتقله سلطة نميري، وهي في برزخ المنزلة بين المنزلتين!
لاحقاً حدَّثني د. أمين بأنه حرص، بعد إذاعة بيان سوار الدَّهب، على استساخ صورة من "الميثاق"، بما يحوي من نقاط خلافيَّة بتوقيعات المندوبين، وسلمها لعوض الكريم. ثمَّ قام، في ما بعد، بوضع أصل تلك الوثيقة في إطار زجاجيٍّ وسلمها للصَّادق المهدي. وإنِّي لأرجو أن تكون، الآن، محفوظة بدار الوثائق المركزيَّة، فما أضرَّ بتاريخنا الوطني الحديث غير ضياع الكثير من مصادره ووقائعه التي دُفنت مع شهودها الموتى، وترك ما تبقى منها لمشافهات الأحياء وذواكرهم الخربة!