الفكر الحر وتناقض الواقع في المجتمعات المغلقة


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 5979 - 2018 / 8 / 30 - 14:35
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

في المجتمعات البشرية عموما نجد الكثير من صور القوانين والضوابط والحدود التي تؤطر أفتراضا حياة الإنسان في شكل رؤية للنظام والأجتماع المدني، لكن مع كل هذا الكم الهائل من المتوارث والمبتدع والمتجدد نجد أننا كمجموعة عاقة ما زلنا نعيش الفوضى والأضطراب بشكل أو بأخر، تتجلى هذه الفوضى بمشاعر وتصرفات سلوكية منفلته من هذه المنظومة القانونية والتشريعية والأخلاقية التي هدفها الأساسي أن نكون وحدة بشرية تتفاعل وتتشارك الحياة وفقا لمتطلبات أساسية أمن بها الإنسان أنها ضرورة، فهل هذا يعني أن الإنسان بصورة عامة يضع ويصنع القواعد والقيود والقوانين وهو يعلم تماما أنه سينتكها في لحظة ما؟ أو أنه أصلا لا يؤمن بها كسبيل وحيد وأساسي ليعيش النظام والأجتماع لأجل ديمومة حياته ومساعدة نفسه على تجاوز حالة الحيوانية المنفلته؟ ربما هناك أفكار أو رؤى تصب في هذا الأتجاه تدفع الإنسان للتمرد على ما صنع وما وضع تحت ضغط الميل الفطري له في أن يكون مزاجيا وخاضعا في كل مرة لنزواته أو عقله في صراع الحياة والبقاء.
لم يكتب على مر التأريخ الإنساني أن تكاملت المجموعة البشرية مع ما بنت من ضوابط وقيود وقوانين تشريعية ولا حتى الدين الذي يعتبر عند الكثيرين واحدا من أهم الروابط التي يجب تقديمها وأحترامها والتقيد بها روحا ومضمونا، السبب والعلة ليست في عدم صلاحية هذه المحددات في أن تؤدي وظيفتها الأجتماعية كما هو مخطط لها، ولكن لأن الإنسان يظن أو يعمل أو هو متيقن أن ما رسمته من حدود أطارية هو المطلوب على الأقل التقيد بها ظاهرا، الحقيقة المرة التي لا يريدها الإنسان أن تلقى أمامه، أنه حتى محاولات المصلحين والمشرعين والأنبياء والرسل لم ينتهوا لذات النتيجة هذه ولا كان يدور في خلدهم أن نهاية العالم هي الصورة التي شكلوها لأتباعهم أو للبشر عموما، بل كل ما كان من أمر أنهم أوصلونا فقط لبداية الطريق الممهد ليقولوا سيروا وأنتم الفائزون، أما نحن فمهمتنا تكمن في تكملة المسيرة من حيث كانت قدمهم الأخيرة قد توقفت لتعلن عن مشروع مستمر لا بد أن نتحرك منه ويتحرك معنا.
من هنا وللنتيجة تلك لا بد لنا من فعل تحريضي على المستوى الفردي والجمعي أن نتحرك بأفكارنا وأن نجعل النهايات تلك مجرد بدايات للمسيرة، وأن نكون كمن يضع علامة مميزة في الطريق تؤشر لمن يأت خلفه، أن هذه النقطة وحدها هي التي يجب أن تكون المنطلق لرحلة فكرية أخرى قادمة، أما النقد والتمحيص ومراجعة المسيرة السابقة لا يمكن أن تكون وحدها البديل عن تجدد الأفكار والمضي في رحلة اللا عودة للقديم، المسألة ليست نكران للفكر ولا لجهود الذين قدموا لنا ما قدموا، ولكن لأن كل زمن يؤطر نتاجه ويلون أفكاره وفق معطياته هو، وبما أن الزمن في رحلة غير منقطعة وهو كل يوم في شأن ولون جديد، فلا يمكن أن يكون ملائما أن نرهن واقعنا لمعطيات تتغير وتتبدل بحجة أن الفكر يمكن أن يكون صالحا طالما أننا نقبل به أن يكون حكما، ويذلك يكون فيصلا مناسبا لكل إشكالياتنا التي ما فتئت تتزايد يوميا مع كل أنتقالة زمنية، فمنها المتراكم ومنها المستجد ومنها ما هو بحاجة للتأسيس مرة أخرى.
من الإشكاليات التي تعرقل مرحلة النهوض والتطور الأجتماعي مع وجود الأفكار البانية والصالحة لذلك منها ما يعد عوامل ذاتية تتعلق بشخصية الفرد وشخصية المجتمع، ومنها العوامل الموضوعية والمادية المحيطة بالمجتمع وحركته، وفي أعتقادي أن تحرير العوامل الذاتية المحركة هو الأساس الفعلي لتحريك العوامل الموضوعية وجرها لمصلحة التغيير والتطور، فالإنسان ككائن معرفي بالطبع ينساق وراء أفكاره الأولى ولا يتفاعل مع الأفكار والعوامل الخارجية ما لم تترسخ في داخله وتضطره للتحرك والمضي معها، هنا لا بد أن نعتمد في منهاجنا الأصلاحي والتنويري النهضوي على قاعدة تحرير الفرد كمقدمة حتمية لتحرير الفكر الصانع الخلاق ليتحرر المجتمع تلقائيا من خلال حتمية الحركة الذاتية، فوجود الحس الفردي المقموع بسلطة المجتمع أو بسلطة مراكز القوى المحافظة لا يساهم ولا يمكن أن نرى إبداعا وتحرارا حقيقيا للمجتمع، فأفكار مثل البدوية الأجتماعية وسلطة الدين والخضوع لقوة التاريخ الماضوي كلها عوامل بالظاهر أنها خارجية موضوعية، ولكن الحقيقية الأجتماعية تقول أن تأثيرها على الذات الفردية وبقوة هو أحد إشكاليات الفرد وأحد أهم إشكاليات التراجع والنكوص الملازم لتلك المجتمعات.
كثيرا ما نسمع أن المجتمعين العربي وإسلامي مجتمعات بدوية بالطبيعة وأن هذا الخلل الأجتماعي من أهم أسباب التخلف والتراجع في وجودهما العام والخاص، لكن لا أحد بين معنى البدوية هذه وكيف أثرت عليهما، من طبيعة المجتمع البدوي أن السلطة تتركز بيد الزعيم والقائد وأن الفرد فيها مجبول على عدم المبادرة والأنطلاق أنتظارا لما يقوله الزعيم أو الرمز، وبالتالي فقتل المبادرة الفردية وروح الإبداع والتحكم الفوقي هو الذي يعرقل نهضة المجتمع بأعتبار أن الفرد الحر هو الذي يحرك عوامل الأرتقاء والأبداع فيه، المجتمع بعمومه لا يمكن أن يكون مبدعا وخلاقا ما لم يمكن أفراده طبيعيا من التفكير الحر والبحث عن فرص الأنطلاق، هذه الخاصية أنتقلت من مجتمع العشيرة والقبيلة إلى نظام المجتمع الأكبر حينما حولنا الرموز والقادة إلى مصدر للإلهام ومصدر لقرار التجدد دون أن يكون بالضرورة القائد أو الرمز يمتلك روح الأبداع والحرية والتجديد، فقتلنا من حيث لا ندري كل ما يمكن أن يكون محركا للنهوض لأن الرمز والقائد والمرجع في القرار لا يحاول أو لا يقبل أن يطلق حرية الفرد من سلطته وتحكمه هو.
صحيح أن من أسس وقواعد العمل في المجتمع الناجح هو وجود القوة المنظمة فيه والقائدة للحركة البنيوية بين مفاصله بأعتبار أن الأفراد كأعضاء مختلفين ومتخالفين في الرؤى والأفكار لا يمكن أن يكونوا على مستوى واحد من الشعور بالتفاعل والمشاركة في أعماله ووجوده، ولكن بأشتراط أن تكون هذه القيادة وهذا النظام مرتبط أيضا من جهته بأهداف التطور والتحديث والتغير، فلا يكفي أن يكون النظام موجودا ما لم يكن هناك تنظيم عملي وعلمي له يستهدف ديمومة الحركة وإلا تحولت السلطة والنظام إى سجن جماعي لأفراد المجتمع كما هو حاصل فعليا في بنية المجتمع البدوي والقبلي وصولا إلى المجتمع الديني المغلق ببوابة الطاعة والأتباع للكهنوتية المعيمنه على القرار العملي وحتى على الفكر الذي يفترض أن يكون مفتاحا للحرية والتغير بما هو في مصلحة الإنسان أولا.
بالعودة للمقدمة نقول أن الأفكار الثورية وحتى الأفكار المثالية التي أبتدعها العقل البشري في محاولة منه لتجاوز الواقع والعبور بالإنسان لمرحلة العمل من اجل الديمومة التطورية، لا يمكن أن تعيش وتنتشع في مجتمعات الزعامة ومجتمعات الطاعة المفرطة لأشخاص أو لأفكار، فهي وضعت أصلا لتحرير حركة الإنسان من الأرتباط بالثابت والتقليدي والذي يحاول بكل الوسائل أن لا يغادر موقعه، هذا التناقض الجدلي بين الفكر الحر وبين واقع الإنسان كمجتمع لا بد أن يحسم لصالح الأفكار المتحررة والتطويرية والتجديدية إذا ما أراد الإنسان الخلاص من دائرة التخلف والتراجع، وعليه فإن أي محاولة بشرية تقود لتحرير الفكر من سجن الواقع وسجن الثوابت هي إنتصار للإنسان وأنتصار للزمن وتماهي حقيقي مع كونية النظام الكوني الشمولي الذي يسير بتعجيل متزايد لربما لا يمكن أن يدركه مجتمع الزعامة ولا يلحق به.