-كولاج- المطربة والرقيب: مشاهد وروايات


أحمد جرادات
الحوار المتمدن - العدد: 5975 - 2018 / 8 / 26 - 15:21
المحور: الادب والفن     

وفيه: الراوي الأول، الراوي الثاني، الراوي الثالث، الرقيب عواد، المطربة أشجان، الرائد معاذ، الجندي عدنان، المعلق، وآخرون

المشهد الأول: محمية الموجب
قال الراوي الأول إن الرقيب عواد من ذيبان خطرَ بباله ذات صباح من صباحات صيف عام 2014 أن يذهب سيراً على الأقدام برفقة شقيقه إلى محمية الموجب. وعلى الرغم من وعورة تضاريسها، فقد أغرتْه المحمية بالمشي لاستكشاف أسرارها حتى تاه في مجاهلها ونسي أسباب رحلته تلك ودوافعها وهدفها الأصلي. في بيت العزاء قصَّ شقيقه للمعزِّين من الأقارب وأهل القرية ما حدث لشقيقه، فقال إن عواد انتحى جانباً لقضاء حاجته وراء أكمة، ولكنه أطال المكوث، فلعب الفار في عُبِّه، وراح يناديه بأعلى صوته ويبحث عنه في كل الاتجاهات إلى أن سمع أنَّاته واستغاثاته، فاقتفى مصدر الصوت إلى أن وصل إليه، فوجد أن أفعى سامة قد لدغته. حاول الأخ الاتصال بالإسعاف بواسطة الهاتف الخليوي دون جدوى لأن المحمية كانت خارج التغطية، مما اضطره إلى ترك أخيه في الموقع والسير على قدميه إلى أن وصل إلى الطريق العام بعد ساعات، واتصل بأهله وأقاربه، الذين "فزعوا" لنجدته واتصلوا بدورهم بالسلطات طالبين إرسال طائرة مروحية لحراجة حالة الرقيب ولكونه عسكري. مرَّت ساعات ولم يستجب أحد إلى نداء الاستغاثة، وتفاقمت حالة عواد واشتدت آلامه وتفشى سريان السم في شرايينه، وأخذ يتلوى ألماً ويتوسل المساعدة وغاب عن الوعي. وبعد لأيٍ أحضر أقاربُه حمارة لنقله من قاع الوادي إلى أعلى التله بجانب الطريق العام، ثم في سيارة الدفاع المدني إلى أقرب مستشفى، ولكن روحه فاضت وصعدت إلى بارئها قبل الوصول إلى المستشفى.

المشهد الثاني: المدينة الوردية
قال الراوي (واحد ثاني)، الذي أكَّد أنه ليس مجرد راوٍ وإنما شاهد عيان كذلك، إن المطربة أشجان التي قال إنه حظي بمشاهدتها عن قرب والتقط صورة سيلفي نادرة معها بعد هبوط الطائرة المروحية االعسكرية االتي أقلَّتها من عمان إلى المدينة الوردية، والتي دفعت أجرتها عداً ونقداً من حرّ مالها وعصارة حنجرتها الماسية، على العكس مما زعم المرجفون والفاسقون (وتلا الآية الكريمة: يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم فاسق بنبأ فتبيَّنوا..." وأصحاب الأجندات الأجنبية من ديدان الأرض الأردنيين. وأقسمَ أنها آية من آيات الجمال وأنها تفكُّ عن حبل المشنقة. وأضاف أنه سمع أن بعض الحُسَّاد، وخاصة الحاسدات، يقول إنها سمينة قليلاً، ولكن ذلك ليس إلا من باب القول الشعبي المأثور "ما لقوش في الورد عيب، قالوله ياحمر الخدين" (يُقال إن الراحل ياسر عرفات "أبو عمار" كان يردده كلما "انزنق" في النقاش)، فضلاً عن أنه، بصراحة، يعشق النساء "الملزلزات" على أيِّ حال.
وفي تأويل الوقائع، "عنعَنَ" الراوي الأول روايته المتعلقة بالرقيب عواد، ونقل عن فلان وعن ابن فلان وعن أبي فلان. فقال أحدهم إن الرقيب ذهب إلى محمية الموجب كي يفكر في إيجاد حل لمشكلته العويصة كمعيل لخمسة أطفال وزوجة وأبوين مسنّيْن، أكل وشرب وتعليم وطبابة ومواصلات وقسط الإسكان العسكري لبيته المكون من ثلاث غرف ومنافعها الذي بناه للعائلة في القرية. و"اللي بسطحه أكثر شي" موبايلات الأولاد وبطاقات الشحن التي ليس لها نهاية. وقال آخر إن الوقت كان غُرَّة رمضان والناس صيام، وأراد لعائلته أن تفطر على زفر، شأنها شأن بقية خلق الله من الصائمين، فيمَّم وجهه صوب المحمية كي يصطاد بعض الأرانب البرية أو ما تجود به الصدفة، على الرغم من أن الصيد فيها محظور، فاصطادته أفعى وحدث ما حدث.
لكن الراوي الثاني دحضَ أقوال الراوي الأول، وقال إن عواد رقيب متقاعد، وليس تحت السلاح، ويتقاضى راتبيْن، راتب التقاعد العسكري وراتب لقاء عمله حارساً أمنياً في أحد مولات عمان، ولكنه طمَّاع وعينه فارغة. وهو فوق ذلك ليس من دافعي الضرائب كصاحب المول الذي أيَّد الاحتجاجات ضد قانون ضريبة الدخل من تحت لتحت، على عكس عواد الذي لم يعبِّر عن موقفه ولم يتزحزح من موقعة في الحراسة خوفاً من فقدان عمله أو حسم أجر يوم عمل من راتبه.
وفيما يتعلق بالمطربة أشجان، فقد حاججَ الراوي الثاني بأن هذه المطربة العظيمة تستحق من الحفاوة والتكريم أكثر مما قوبلت به (نقلها على متن طائرة مروحية عسكرية وفتح خزنة البترا لها)، وقال: انظروا إلى ملامحها ودقِّقوا في قسَمات وجهها النبطية، سترون أنها تشبه الملكة "شقيلة" زوجة الحارث الرابع ملك المدينة المنحوتة في الصخر التي زارتها المطربة، فمدينة البترا إذن مدينتها ومدفن الحارث الرابع خزنتها، فعلامَ هذي الضجة الكبرى علاما؟ كما استشهد بآراء العديد من الصحفيين الذي أكدوا أن هذا الأمر شائع تاريخياً في علاقة الفنانين والكتاب والمفكرين بالحكام والحكومات، وأن الدول التي تريد أن تحجز لها موقعا مرموقاً على خريطة العالم، تدفع الأموال من أجل إقناع المشاهير بزيارتها، وترتِّب لهم برامج خاصة لزيارة معالمها الحضارية والثقافية، على أمل أن تحظى منهم بلقطة قصيرة أو تعليق موجز.

المشهد الثالث: صحراء الجفر
يتدخل الراوي الثالث متأخراً، لكن منفعلاً، لينبِّه إلى أنَّ حدثاً أدهى وأمرُّ وقعَ للرائد المقدام معاذ الحويطي الذي ارتقى مع ثلة من رفاقه العسكريين شهداء في المذبحة الإرهابية التي اقترفها دواعش معروفون في الفحيص والسلط، بعد أن قاد بنفسه عملية اقتحام المبنى المفخَّخ. فقد نُقل الرائد معاذ في عربة نقل الموتى إلى بلدته الجفر على بُعد نحو مئتي كيلو متر عبر الصحراء في عز قيظ الصيف، بدلاً من زفافه مكرَّماً ومطوَّقاً بالأكاليل على متن مروحية عسكرية تحلِّق به بين صقور صحراء الجفر الحرة وتطوف فوق أطلال معتقل الجفر الشهير كي يتأكد قبل إيداعه مثواه الأخير من أن المعتقل الذي كان السجين الدكتور يعقوب زيادين يعالج فيه آباءَه وأجدادَه ويجري لهم عمليات صغرى بسكين المطبخ في أواسط القرن المنصرم، قد أُزيل عن وجه الأرض إلى الأبد، وكي يطمئن على أن مقثاة البندورة والخيار والكوسا التي زرعها المعتقلون، ودوالي العنب وأشجار الخوخ والرمان التي غرسوها في أرضه اليباب لا تزال تؤتي ثمارها يانعةً ومزدهرة، والفقاسة السحرية التي صنعوها وكانت تُخرج الحي من الميت- أي تُخرج الصوص من البيضة من دون وجود دجاجة- لا تزال تعمل، والعُود الرنَّان الذي صنعوه من خشب صناديق الشاي المستعملة وخيطان النايلون لا يزال محفوظاً في مكان يليق به وصالحاً للعزف على أوتاره.
ويستدرك الراوي الثالث ليقول إن مثل هذه الجريمة الإرهابية النكراء سُرعان ما يتم طمسها في زوبعة تجريم اغتيال الشخصية، لا اغتيال الشخص، وبرفع فزاعة الإرهاب الذي "يداهم أوكتا وفوهم نفخ".
هنا يتقدم المعلق ليذكِّر بأن الاحتفاء بالمشاهير من الفنانين والمفكرين ليس من الأحداث النادرة في التاريخ، وأن فنانين ومفكرين عظاماً نالوا أعلى درجات التكريم والاهتمام من قبل زعماء عظام:
* أم كلثوم وعبدالناصر
في خطاب التنحي الشهير الذي ألقاه الرئيس عبد الناصر غداة الهزيمة التي مُنيت بها مصر والعرب في حرب حزيران 1967 أعلن عبد الناصر تنحيِّه عن منصبه، فخرجت مصر "بهيَّة" عن بكرة أبيها لتقول لا للتنحي، وغنَّت له سيدة الغناء العربي أم كلثوم:
"قُم واسمعها من أعماقي، فأنا الشعب
إبقَ فأنت السد الواقي
لمُنى الشعب
إبقَ فأنت الأمل الباقي لغد الشعب
إبق فأنت حبيب الشعب..."
أُنظر الرابط: https://soundcloud.com/focosylamparas/hkkin40if6rv
وعندما قرر عبد الناصر خوض حرب استنزاف ضد إسرائيل تحت شعار إزالة آثار العدوان، بادرت سيدة مصر الأولى، وهو اللقب الذي أطلقه عليها الرئيس عبد الناصر واغتصبته جيهان السادات بعد رحيله، إلى الإسهام بفنِّها في ما سُمي حينئذ بالمجهود الحربي من خلال القيام بجولة غنائية عالمية وعربية، حيث خصصت ريع حفلاتها بأكمله للمعركة القادمة. وقد استهلَّت جولتها الأوروبية بحفل باريس الذي أُقيم على مسرح أولمبيا في نوفمبر/تشرين الثاني 1967 وحضرَه الرئيس شارل ديغول، الذي أرسل لها لدى مغادرتها بلاده برقية قال فيها: "لقد لمستِ بصوتك سيدتي شغاف قلبي وقلوب الفرنسيين جميعاً." أترون مستوى التكريم والمكرِّم والمكرَّم يا رعاكم الله؟
- وبمناسبة الحديث عن الرئيس ديغول واهتمامه بالفنانين والمفكرين، يذكر المعلق أن الفيلسوف الوجودي جان بول سارتر ورفيقته حتى الموت سيمون دي بوفوار كانا يُعتبران من أبرز أيقونات انتفاضة الطلبة والعمال التي اجتاحت فرنسا في مايو/أيار 1968. ولذا قدَّم أحد مستشاري ديغول لرئيسه نصيحة باعتقال الفيلسوف "المحرِّض" سارتر إذا أراد وقف الانتفاضة، فجاء رد ديغول رمزياً وعلى مستوى سارتر: "إن فرنسا لا تعتقل فولتير".
* في رثاء عبد الناصر
وعندما رحل عبد الناصر في 28 سبتمبر/أيلول 1970 سجَّلت أم كلثوم القصيدة المغرقة في الحزن "رسالة إلى الزعيم"، التي كتبها نزار قباني ولحَّنها رياض السنباطي ومنع بثَّها السادات، حيث ذكر مدير استوديو التسجيل في الإذاعة أن "الست" كانت توقف التسجيل وتجهش بالبكاء بين كل مقطع وآخر:
زعيمنا، حبيبنا، قائدنا،
عندي خطابٌ عاجلٌ إليكْ،
من أرض مصر الطيبة،
من الملايينِ التى قد أدمنتْ هواكْ،
من الملايين التى تريدُ أن تراكْ..

عندي خطابٌ كلُّه أشجانْ،
لكنّني..
لكنّني يا سيّدى
لا أعرفُ العنوانْ..
يا أيُها المعلّمُ الكبيرْ،
نقسمُ باللهِ العليّ والقديرْ
أن نحفظَ الميثاقْ،
ونحفظ الثورة..
وعندما يسألُنا أولادُنا:
من أنتمُ؟
في أي عصرٍ عشتمُ؟
في عصرِ أي مُلهمِ؟
في عصرِ أي ساحرِ؟
نجيبُهم: في عصرِ عبدِ الناصرِ..
في عصر عبد الناصرِ.
أُنظر الرابط: https://www.youtube.com/watch?v=mgc7pwttH3Q
يتدخل المعلق: على رسلكم يا قوم، إنْ هذه إلا مقارنات ضيزى، لنعُدْ إلى جوهر السياق، وهو صراع الأضداد الذي لا يتوقف بالريموت كونترول، والتناقضات الصارخة التي لا تُحل بتبويس اللحى، وحفرة الانهدام الكبير التي لا يمكن ردمها براحة اليد. وبوسعي هنا أن أضيف مشهديْن تاريخييْن لهما صلة بالموضوع على سبيل المثال:

المشهد الرابع: لندن "أُمتان"
تخبرنا زوجة لينين ورفيقته ناديجدا كروبسكايا أن إليتش، أثناء إقامته في لندن في الفترة في مطلع القرن العشرين درسَ الحياة هناك، حيث كان يهوى الذهاب في جولات طويلة على أسطح حافلات الركاب، وأحبَّ ازدحام السير في تلك المدينة التجارية الضخمة، والميادين الهادئة بمنازلها الأنيقة المحاطة بالمساحات الخضراء، حيث لا تسير سوى عربات الخيل الأنيقة. بالمقابل كانت هناك شوارع ضيقة حقيرة مكتظة بحبال الغسيل والأطفال المصابين بالأنيميا وهم يلعبون على عتبات البيوت التي تستأجرها الطبقة العاملة من مالكي العقارات في لندن. إلى تلك الأماكن كنا نذهب سيراً على الأقدام، وكلما شاهد إليتش تلك التناقضات المخيفة والهوة السحيقة بين الثراء والفقر، كان يصك أسنانه وينطق بالإنجليزية كلمتين: Two Nations "أمتان"، ومنها ربما استشرف حتمية الثورة الاشتراكية.

المشهد الخامس: قصة مدينتين
في رواية "قصة مدينتين" يصف تشالز ديكنز حادثة وقعت في باريس، حيث يدهس الماركيز سان إيفرموند ابن الفلاح الفقير جاسبارد، ثم يلقي إليه بقطعة نقدية ثمناً لفلذة كبده. هنا يسارع مسيو ديفارج إلى مساعدة جاسبارد، فيلقي إليه الماركيز بقطعة نقدية أخرى هو الآخر. ولكن، بينما يهمُّ سائق عربة الماركيز بالرحيل، يقذف ديفارج القطعة النقدية داخل العربة، مما يثير غضب الماركيز.
في تلك الليلة، يعمد جاسبارد (الذي اختبأ أسفل عربة الماركيز وتبعه إلى قصره) إلى قتل الماركيز أثناء نومه، ويترك خلفه ورقة كُتب عليها: "انقلوه بسرعة إلى قبره، التوقيع جاك".
ومن المعروف أن المدينتين في رواية ديكنز هما باريس لندن في نفس الفترة خلال عام 1775. وتصوّر الرواية حياة البؤس والشقاء في الأحياء الفقيرة في مدينة باريس، وتسلط الضوء على اضطهاد الطبقة العاملة الفرنسية ومحنتها في ظل القمع الوحشي للارستقراطية الفرنسية خلال السنوات التى مهَّدت إلى الثورة الفرنسية.
ويقول ديكنز فى مقدمته الاستهلالية: "في كلا البلدين كان السادة المهيمنون على مخازن الدولة الخاصة بالخبز والسمك يعتقدون أن الأوضاع ستظل على حالها الراهن أبدَ الدهر، ذلك لأنهم كانوا يرون الواقع في حالة سكون، بيد أن كل شيء ما لبث أن تغيَّر وتبدَّل بسرعة منقطعة النظير.
هنا يتدخل الراوي الأول ليوضح أن لا يتمنى أن يضطر ابن الرقيب عواد الأردني إلى القيام بما قام به الفلاح الفرنسي جاسبارد فيختبئ تحت بردعة الحمارة التي نقلت والده إلى المستشفى جثةً مسمومة ويترك رسالة مشابهة موقَّعة باسمه الحقيقي أو المستعار أو بدون توقيع يقول فيها: "ادفنوه بسرعة، فإكرام الميت دفنه"، وخصوصاً لأنه لا يعرف شخصاً بعينه أو عنواناً محدداً يرسلها إليه سوى الفقر، الذي لو كان رجلاً لما تردَّد لحظة في قتله. ولكنه يخشى فيما إذا استمر الحال على ما هو عليه أن يخرج مع أقرانه على الناس جميعاً شاهرين سيوفهم في "ثورة" للجياع والمهمشين والمستعبدين تهدم المعبد الليبرالي على رؤوس "المؤمنين والكافرين" أجمعين، وستكون "ثورة" لا تُبقي ولا تذر، وهي هواجس مرعبة عبَّر عنها حتى أحد كبار المصرفيين الأردنيين أثناء اعتصام الدوار الرابع.

المشهد السادس
* اعتصام الرابع: الليلة الأخيرة/الليلة الكبيرة
يشرح الراوي الأول كيف يصل الجندي المتقاعد عدنان المرايات إلى الدوار الرابع بعمان قادماً من الطفيلة للمشاركة في الاحتجاج على الأوضاع المعيشية والاقتصادية التي يعاني منها كغيره من الأردنيين. ينضمُّ إلى صفوف المحتجين بصورة سلمية طبيعية، متزنِّراً بشبريته التي لا تفارق خصره أينما ذهب، لا ليستخدمها ضد أحد، وإنما كممارسة اجتماعية ولزينة الرجل (كالجنبية اليمنية). يُمسك به أحد رجال الدرك ويحاول تخليصها منه فيُصاب الأخير بجرح بسيط في يده، ويُعتقل عدنان بتهمة طعن الدركي، وتجري محاولة استغلال تلك الحادثة العرضية لإدانة المحتجين وفض الاحتجاج. تكتب ابنته كلاماً جميلاً عن والدها توضح فيه الحقيقة البسيطة، وتَثبت براءته من تلك الفرية بعد وقت قصير، ويتم التسامح والتصالح. ولكن على الرغم من ذلك يزعم الراوي الثاني أن الرقيب عواد هو نفسه أبو شبرية الطَفيلي الذي طعن الدركي بسلاح أبيض، مما أثار اضطراباً كبيراً بين صفوف المحتجين وأحدث انقساماً حاداً بين أنصار الحراك السلمي الحضاري الصديق للبيئة وبين جمهور الغاضبين الزاحفين من المحافظات الذين رفعوا سقف الشعارات والهتافات "العاقلة" حتى طاولت المقامات العليا، الأمر الذي حدا بجماعات عديدة ومتنوعة الأطياف من المحتجين إلى الانسحاب ومغادرة المكان وإنهاء الاعتصام بعد أن سادت المؤاخاة بين أفراد الدرك والشباب المعتصم، وتناولوا طعام الإفطار الرمضاني معاً وتجاذبوا أطراف الحوار وتبادلوا القُبل والحلوى (في جو أشبه بأجواء ثورة 25 يناير في ميدان التحرير بالقاهرة)، وصدرت أوامر مشددة لرجال الدرك بعدم التعرض للمعتصمين بسوء، بل إن ولي العهد زار "موقع الاعتصام" بنفسه وأوصى رجال الدرك بالشباب خيراً ورِفقاً. وفي أرجاء الدوار الرابع حيث تقع رئاسة الوزراء، دوَّى هتاف "يسقط يسقط هاني الملقي" بحيث يصل إلى مسامع الرئيس المطلوب إسقاطه مع قانون ضريبة الدخل، سبب المشكلة ومحور الحراك وهدفه. وبالفعل أُقيلت حكومة الملقي، وأعلن الرئيس المكلف عن نيته "سحب" القانون من مجلس النواب.
هنا يذكر المعلق أن سفيراً أردنياً سابقاً وكاتب مقال مهم في صحيفة لندنية، نقل عن مصدر وثيق الصلة أن الملقي، عندما طالت الاحتجاجات وتأجَّجت واستشعر خطورتها توسَّل أن يُسمح له بسحب القانون من مجلس النواب، إلا أن طلبه رُفض لأن مَن يشعل شرارة الاحتجاجات يجب ألا يكون هو نفسه مَن يُطفئها. واعترف بعض وزراء الحكومة المقالة بأثر رجعي أن القانون هبط عليهم من علٍ وجاءهم مترجماً من الخارج، وطُلب منهم إقراره دون مناقشة أو اعتراض، بل إن معظمهم لم يطَّلع عليه.
هكذا إذن حُلَّت الأزمة، وخرج كل طرف رافعاً إشارة النصر، كلٌّ بحسب هدفه وغايته، وانتهت "ثورة الطبقة الوسطى" التي أطلقت شرارتَها النقابات المهنية بكل شرائح منتسبيها ثم خافت في أول الطريق، ودعمتها الشركات والمصانع، وأمدَّتها الجماهير الشعبية بزخم كبير، حيث شاركت فيها الحراكات الشعبية في المحافظات ومجموعات شبابية يسارية صغيرة وقيادات وكوادر يسارية وقومية سابقة وحالية محدودة والعديد من المنظمات والجماعات الشبابية التابعة لأجهزة الدولة "الفوقا". وهكذا ايضاً توقف الحراك الشعبي وساد الهدوء وانصرف المتظاهرون راشدين- وأنا منهم - ("انصرفوا راشدين" تعبير دأبَ قادة الإخوان المسلمين على استخدامه لإنهاء المظاهرات التي ينظمونها، أي تفرَّقوا بهدوء وبدون مشاكل، وبالمناسبة لم يشارك الأخيرون في هذه الاحتجاجات على نحو فعال).
في تلك الليلة الأخيرة، الليلة الكبيرة في الدوار الرابع، وقبل أن تنفضَّ الجماهير وتعود الأمور إلى سيرتها الأولى والطيور إلى أعشاشها، كان المشهد مهيباً؛ حشدٌ ضمَّ مختلف ألوان الطيف، كلٌ له صوته ولونه ومشرَبه: هؤلاء من جبل عمان وعبدون ودابوق، وأولئك من جبل النظيف ووادي الحدادة وسحاب.. هؤلاء من الكرك ومعان والمفرق، وأولئك من الوحدات والبقعة والحصن.. يا لها من ثورة وردية أفسدت أريجَها الفئاتُ الرثة يقول المعلق، وكي يحتفظ لنفسه ولنا بالطعم الحلو والرائحة العطرة ارتأى أن يضيف إلى هذا "الكولاج" مشهد الختام بأوبريت "الليلة الكبيرة" الرائع للكبار الرائعين صلاح جاهين وسيد مكاوي وصلاح السقا وناجي شاكر.
من كلمات أوبريت الليلة الكبيرة:
"قُبَّة سيدنا الولي دول نوَّروها
ما حلى البيارق والناس بيزوروها
قُبة سيدنا الولي .. بالجو عالية
ما حلى البيارق لما دوَّروها...
الليلة الكبيرة يا عمي والعالم كتيرة
ماليين الشوادر يابا من الريف والبنادر
دول فلاحين ودول صعايدة
دول من الكنال (القنال) ودول رشايدة
دي الليلة الكبيرة يا عمي والعالم كتيرة."
أُنظر الرابط:
https://ar-ar.facebook.com/robayat.jahen/videos/%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%8A%D9%84%D9%87-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%A8%D9%8A%D8%B1%D9%87/902427303130548/
أحمد جرادات