ما زال العالم يعيش عصر الثورة الإشتراكية - 11


فؤاد النمري
الحوار المتمدن - العدد: 5955 - 2018 / 8 / 6 - 18:40
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

ما زال العالم يعيش عصر الثورة الإشتراكية – 11

نعم، إنه دون شك يعيش عصر الثورة الإشتراكية لكن أحداً لا يدرك ذلك بسبب الأزمة الطاحنة التي تمسك بخناق العالم . الأزمة تستفحل كل يوم طالما أن القلة القليلة تعترف بها حتى بين الشيوعيين والماركسيين . المعلومات التي ينشرها البنك الدولي والأمم المتحدة تقول أن العالم ومنذ نهاية السبعينيات يستدين كل عام 2 ترليون دولار حتى وصلت ديونه اليوم إلى أكثر من 75 ترليون دولاراً . هذا يعني أن العالم ينتج سنوياً أقل مما يستهلك بترليونين من الدولارات ينفقها من مخزون ثروته عبر التاريخ . لكن هذا المخزون سينضب في المدى المنظور، وسيدرك العالم إذاك، حين تنزل به النازلة، أنه كان يكابد أزمة خطيرة وأنه لم يكن يمتلك نظاماً اجتماعياً مستقراً، بل كان يعيش في فوضى اجتماعية عارمة .

ليس ثمة مغالاة على الإطلاق في الإدعاء أن الماركسيين أو الأحرى أدعياء الماركسية يتقدمون العوامل الأخرى في استفحال هذه الأزمة فهي بحكم التاريخ أزمة الثورة الشيوعية تحديداً . ففي العام 1848 أطلق ماركس نداءه الشهير "يا عمال العالم اتحدوا فليس لديكم ما تفقدونه إلا أغلالكم"، يهيب بالعمال أن يقوموا بثورة شيوعية تطيح بالنظام الرأسمالي العالمي . ظل صدى النداء يتردد في الأممية الأولى 1864 – 1873 وفي الأممية الثانية 1889 – 1916 إلى أن برز لينين يقود البلاشفة الروس وتعهد بالقيام بالثورة الشيوعية والإطاحة بالنظام الرأسمالي الإمبريالي العالمي ؛ ولهذا أقام الأممية الثالثة 1919 – 1943 . الثورة الشيوعية بقيادة لينين ثم ستالين حققت نجاحات باهرة كان أهمها الإطاحة بالنظام الرأسمالي الإمبريالي العالمي في السبعينيات . إلا أن الثورة الشيوعية البولشفية التي أبهرت العالم وخاصة في حربها ضد النازية بدأت بالإنكفاء والدخول في أزمة خانقة وصلت إلى حد أن يستعطف قائدها ليونيد بريجينيف خليفة لينين وستالين، يستعطف قادة المعسكر الرأسمالي الإمبريالي في مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي في هلسنكي 1975 "لملاقاته في منتصف الطريق كيلا يخسر كلانا" !! الثورة التي عمّدها لينين برسالة الإطاحة بالنظام الرأسمالي العالمي باتت في السبعينيات تستعطف قادة الدول الرأسمالية بلسان قائدها بريجينيف للتصالح كيلا تعود الخسارة على الإمبريالية !!
لم يصدق عامة الشيوعيين في العالم أن الثورة الشيوعية البولشفية كانت قد بدأت بالإنكفاء أو الأحرى قامت البورجوازية الوضيعة السوفياتية بالإنقلاب عليها في الخمسينيات إلى أن أعلنت البورجوازية حقيقة إنقلابها في العام 1991 وأعلنت أول حكومة شكلتها البورجوازية الوضيعة، المكشوفة من كل غطاء شيوعي مزور، تحريم النشاط الشيوعي .

الشيوعيون الذين لم يدركوا أن ثورتهم كانت قد انكفأت في الخمسينيات وحتى "انهيارها " في العام 91 هم أنفسهم لا يدركون اليوم أن الثورة الإشتراكية البولشفية التي تجبرت حتى تقويض النظام الرأسمالي الإمبريالي في العالم لم تنتهِ ولم تمت . أحداً منهم لم يعد يستذكر نداء ماركس التاريخي "يا عمال العالم اتحدوا" بادعاء أن البلاشفة الروس كانوا قد لبوا هذا النداء وانتهوا إلى الفشل . ولهذا علمتهم التجربة ألا يعودوا إلى استذكار نداء ماركس !!
حقيقة موقف هؤلاء الشيوعيين أنصاف الماركسيين هي أن موقفهم لم يكن جراء الفشل المزعوم لثورة البلاشفة بل العكس هو الصحيح بسبب النجاح التام للثورة . لم يعد العمال هم الطبقة السائدة في المجتمعات المركزية في العالم . لئن كانت طبقة العمال كانت قد شكلت 30 – 40% من مجموع السكان في العالم في العام 1913 فهي اليوم بعد قرن طويل لا تشكل أكثر من 10%، فلماذا ينادون ولمن ينادون !؟
لكن لماذا هذا الإنكماش الهائل في أعداد الطبقة العاملة ؟ الإجابة الوحيدة على هذا السؤال المفصلي هو الغياب التام للنظام الرأسمالي الذي لا يقوم بغير زنود العمال . لقد غاب وانتهى النظام الرأسمالي في العالم . رب من يدعي بأن الأوتوميشن حل محل العمال لكن الحقائق تكذب مثل هذا الإدعاء حيث التقنيات الرفيعة في الولايات المتحدة لم تنتج ما يغطي احتيااجات الولايات المتحدة من البضاعة مثلما كان النظام الرأسمالي قبل الأوتوميشن يغطي ؛ ثم إن أسعار مختلف البضائع تضاعف أربعين ضعفا خلال العقود الأربعة الأخيرة وهو ما يعني أن كمية العمل البشري التي تختزنه السلعة وهو معيار قيمتها لم تقلّ الأمر الذي يعني أن التقنيات لم تلعب دوراً ملموساً في تقليل كمية الشعل المختزن في السلعة وخفض قيمتها التبادلية بالتالي .
ما يغيب عن عقول الفقراء في نقد الفكر السياسي الإقتصادي لماركس هو أن مراكز النظام الرأسمالي في العالم لا تستطيع أن تحافظ على حيوية النظام الرأسمالي بدون أسواق خارجية ولذلك رأينا الحروب الإستعمارية تمتد من منتصف القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين بهدف تأمين وتوسيع الأسواق الخارجية . كانت الحرب الاستعمارية الأخيرة هي الحرب العالمية الثانية التي انتهت باندحار القوى النازية والاستعمارية وخروج الإتحاد السوفياتي كقوى تحررية جبارة لا توازيها أية قوى أخرى . إذاك شكل الإتحاد السوفياتي مظلة حامية لقوى التحرر الوطني التي تفجّرت في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية 1946 – 1972 حين أعلنت الأمم المتحدة إنتهاء النظام الإمبريالي في العالم وهو ما كان قد أكده المؤتمر العام التاسع عشر للحزب الشيوعي البولشفي في العام 1952 بحضور ستالين . استقلال كافة المستعمرات في العالم يعني أول ما يعني أن هذه الدول المستقلة لم تعد مصرفاً لفائض الإنتاج المتحقق بالضرورة في مراكز الرأسمالية وهو الفائض الذي يجسد فائض القيمة، مصدر ربح الرأسمالي . طبعاً الهدف الوحيد للنظام الرأسمالي كما هو معروف هو الربح ومراكمة المال . لكن عندما يمتنع الربح بعد انسداد مصارف فائض الإنتاج المجسد للربح فلماذا إذاً النظام الرأسمالي !؟ ملايين العمال الذين كانوا يتعيشون من النظام الرأسمالي ترتب عليهم حال انهيار النظام الرأسمالي أن يتدبروا أمر معاشهم من وسيلة إنتاج أخرى فكانت تلك الوسيلة هي إنتاج الخدمات . في السبعينيات والثمنينيات من القرن المنصرم تحول عشرات ملايين العمال من الإنتاج البضاعي إلى الإنتاج الخدمي في الولايات المتحدة فبات اليوم عددهم حوالي 30 مليوناً بعد أن كان في الخمسينيات حوالي 70 ممليوناً .
القصور الفظيع الذي يعاني منه أدعياء الماركسية هو عدم التمييز بين الإنتاج السلعي من جهة والانتاج الخدمي من جهة أخرى . الإنتاج الخدمي ليس من الإنتاج بشيء بعرف ماركس وهو لذلك لم يبحث فيه على الإطلاق ؛ وفي هذا السياق أكد ماركس أن الإنتاج الذي لا ينتج فائض القيمة ليس من الإنتاج، والخدمات بمختلف أجناسها لا تحمل فائضاً للقيمة، حيث هي تستهلك تماما حال إنتاجها، وهي لا يتم تغريبها عن منتجها فهو يقبض جعالتها حتى قبل أنتاجها، وبذلك هي لا تصل للسوق لتتسنم صنميتها كما صنمية السلعة في السوق، وهي لكل ذلك ليس لها قيمة تبادلية حيث جعالتها لا تتحدد وفق كمية الشغل المبذول في إنتاجها بل وفق المعرفة في الشغل ويتم تحديد الجعالة تعسفياً – جعالة وليس قيمة تبادلية . الخدمات لا تنتج نقودا على الإطلاق، هي تنقل النقود من جيب إلى جيب أخرى دون أن تضيف إليها مليماً واحداً . ويسيء الكثيرون قراءة ماركس حين ساوى بين المدرسة الخاصة ومصنع النقانق في كتابه (رأس المال) ؛ كان ماركس يشير إلى أن كلتا المؤسستين تحققان الأرباح لكن النقانق في السوق ثمة فائض للقيمة في قيمتها التبادلية بينما المعلومات اتي علمها المعلمون للتلاميذ ليس لها أية قيمة مادية عداك عن فائض القيمة .

تعلن الولايات المتحدة أن مجمل إنتاجها السنوي يبلغ 17 ترليون دولاراً، وهي تعلن أيضاً أن 80% من إنتاجها هو من الخدمات التي لا تخلق نقودا بمعنى لا تخلق إنتاجاً حقيقياً أو ثروة ؛ فالإنتاج الحقيقي للولايات المتحدة هو فقط 3.4 ترليون دولارا ولعل الصين تنتج ضعف هذا المبلغ . أما وأن 80% من مجمل إنتاج الولايات المتحدة ليس من الإنتاج بشيء فلا يجوز بحال من الأحوال إعتبار أن الولايات المتحدة ما زالت دولة رأسمالية وإمبريالية، خليك عن أن الصناعات التي تساوي 17.5% من مجمل إنتاجها هي في معظمها من صناعة الأسلحة والفضاء وهي ليست من البضاعة وليست صناعات رأسمالية . الرأسمالية هي في الجوهر ضد صناعة الأسلحة رغم أنها تضطر لصناعتها من أجل عبور أزمتها فقط وهو ما يثبت أن صناعة الأسلحة ليست صناعة رأسمالية خلافاً لما يعتقد الجميع . من شروط إنتاج السلعة الرأسمالية حسب ماركس هو أن تكون ذات قيمة استعمالية مفيدة للإنسان . الأسلحة لا تمتلك مثل هذه القيمة فهي بذلك ليست إنتاجاً رأسمالياً .

(يتبع)