سأضع الحجاب- العلاج النفسي الاجتماعي- حكايتي4


لمى محمد
الحوار المتمدن - العدد: 5954 - 2018 / 8 / 5 - 23:46
المحور: الادب والفن     

حدث فعلاً:

ذلك القزم بضحالة ثقافته، جميل الطول جسداً.. قال لي: لماذا لا تضعين الحجاب؟ انظري بأم عينك.. انتشر الحجاب وأصبح علم الأخلاق وشعار الشرف.. أنتِ كاتبة متميزة، موهبتك قلّ نظيرها-مع أني لا أتفق و جرأتك- خذيها مني: إن أنت وضعت الحجاب ستصبحين رمزاً للملايين…

-سأضع الحجاب…

*******

حكاية هند:
“ دكتورة أنا أراجع طبيب نفسي، و لكِ الشكر في هذا..
زواجي كان حكايةً تقليديةً.. وصلتُ لسن يجب فيه أن أتزوج.. أردتُ أن أصبح أمّاً.. تزوجت هيثم تاجر الورق.. ميسور الحال، سمعته جيدة.. اشترط عليّ الحجاب، ثم العباءة.. و اليوم يشترط النقاب…بعدها لفني الاكتئاب لفاً.. نفس الأعراض التي تتحدثين عنها دكتورة.. أطفالي يفقدون ثقفتهم بي، لا أعلم لماذا.. ابني الكبير يتقمص سلبيات والده..
راجعت الطبيب، فأعطاني دواء (زولوفت) تحسنت مع زيادة الجرعة..”.

حكاية سهير:
“فقط (فشة خلق ) يا دكتور.. أريد أن أخبرك ما يحدث في جامعاتنا:
دخلتُ الجامعة في مصر كي أتعلم، عدد المحجبات ازداد كثيراً في آخر عشرين عام، و كأن الدين قد اُكتشفَ فجأة أو أن أجدادنا كانوا جميعاً كفّار.. انتشر الحجاب و استشرى النقاب و ازداد التحرش لأن النساء أصبحن على رفوف السلع الممنوعة و السلع الممنوعة مرغوبة.. ضربني أخي و قال لي أنني مريضة نفسية أريد أن أُظهِرَ مفاتني للناس..
مع العلم أن ملابسي دوماً محتشمة و لا أضع مساحيق تجميل.. المهم بعد شهور من الأخذ و الرد، قررت: سأضع الحجاب، لم لا ؟ إن الشرف هنا أصبح يقدر بكمية قدرتك على تغطية المعاصي.. الشرف هو خرقٌ و مِيتَة!
أنا حزينة .. أحس أنني لا أمتلك جسدي…
لا أجرؤ على مراجعة طبيب نفسي فلقب مجنونة كفيل بقتلي و دفني في بيت أخي إلى الأبد”.



قصة هند و سهير أفضل من غيرها، أقلها لم يفرض لباس ما على طفولتهما، كما هو الحال في كثير من بنات المسلمين…

انتشرت ظاهرة التسليع المضاد مع زمن العولمة، و لكأن الذكور خافوا على أنفسهم عندما شاهدوا الرجال الحقيقين في الفضاء الافتراضي.. أو في أحسن الأحوال كردة فعل على التسليع بالتعريّة الذي أصبح متاحاً بشكل أكبر.
استطاع الذكر أن يفرض حكم القضيب على حكم العقل، و أن يعتبر شعر المرأة عورة واجبة التغطية و إلا فإنه لن يقدر على السيطرة على غرائزه و سيسمح لأفعوانه بالخروج من الكهف…

كثيرات من الحريم وقفن في صف الذكور و قبلن الرضوخ و حتى الإذعان لكونهن سلع، و مع الاحترام لحريّة الإنسان في اختيار الملبس.. فرضتْ نظريةُ الحجاب القمعَ و محاكمَ التفتيش على صغيرات السن، رافضات الفكرة.. وميّزت بين الطوائف-بحسب شكل الحجاب- كما أعلنت قوامة الرجل الذي ليس من واجبه أن يتغطى!


في حين تستطيع المرأة أن تفرض احترامها بعلمها، قوة شخصيتها و طموحها.. انحصر اهتمام النساء على المظهر و الستر المادي.. كثيرات أيضاً قبلنّ الموضوع كعادة و عرف اجتماعي، فوضعن الحجاب كي يتقوا المشاكل و يسايروا المجتمع…
في العشرين سنة الأخيرة تحوّلت قضية الحجاب إلى ركن من أركان الإسلام، و استشرى العرف إلى درجة ليس بعدها حدّ و لا حدود..

-أشفق على الذكور الذين لا يُحسِنُونَ تثقيف أنفسهم و لا توعية بناتهن.. و ليس لهم من قوامتهم شيء إلا الوصمة!


إن القمع و الكبت من ألدّ أعداء الطب النفسي، تخرج جميع القصص المؤلمة و ينمو التحرش بقوة في ظلّهما، و هذا ليس وليد البارحة:

الاستغلال السياسي للطب النفسي “political abuse of psychiatry” هو:" تعمّد استخدام تشخيص نفسي خاطئ واحتجاز المريض و علاجه، وذلك بغرض منع جماعات معينة أو بعض الأفراد في مجتمع ما من حصولهم على حقوقهم المنصوص عليها ضمن حقوق الإنسان الرئيسية. يتضمن الطب النفسي إمكانية للإساءة للإنسان تفوق غيرها من فروع الطب الأخرى- لأن الطبيب النفسي يمتلك صلاحيةً تؤهله لاحتجاز المريض في المستشفى و علاجه-، يتيح تشخيص المرض العقلي للدولة احتجاز أشخاص ضد إرادتهم والإصرار على أن العلاج يصب في مصلحتهم الشخصية والمصلحة الأكبر للمجتمع.”.

عبر التاريخ استغل ذكور السياسة الطب كما استغلوا الدين لخدمة الكراسي و النفوذ، في عصر محاكم التفتيش اِتُهِمَ كل من يجادل السلطة و الكنيسة بالهرطقة و الجنون..
و في العهد النازيّ استغلّ الساسةُ ذكور الدين و معدومي الضمير من الأطباء النفسيين لوصف المعارضين السياسين بالتهم ذاتها الهرطقة والجنون وإخضاعهم لحجاب العقل بعلاجات لاإنسانية...

كانت النساء عبر التاريخ العنصر الأضعف في أزمنة الرسل الذكور، التاج الذكوري.. الدين الذكوري و الطب المحتكر -قديماً- من قبل الذكور.
عَلِمَ الدهاةُ أنّ السيطرة على نصف المجتمع -النساء- كفيل بجعل مهمتهم في ربح تجارة النفوذ و المال، لذلك انتشرت كل السبل التي تكفل قوامة الذكر على المرأة.

هذا جزء يسير مما حدث في تاريخ الطب النفسي، و جزء مما حدث في تاريخ سحق النساء .. استمر هذا إلى يومنا هذا عبر: عَارَين:
الوصمة تجاه الأمراض النفسية و ثقافة تسليع المرأة.. و للحديث شجون…
************


حدث فعلاً:
أنا بنت الطبقة المتوسطة..عشت الفقر و عايشت قلة الحيلة.. أعرف معنى الدراسة على ضوء الكاز في عصر الانترنت.. أعرف أيضاً معنى غربة قلبك في وطنك.. يفجعني صوت الخوف من الأنظمة و ترعبني صرخات الهلع من (التكبير )..
 
لا حدود لقلبي.. العالم كله وطني.. ولدت في سوريا و أجمل أيام طفولتي كانت في الجزائر.. وصيّتي أن أُدفَن في العراق.. و أؤمن بالتقمص و أريد أن أولد يوماً في مصر..
لا حدود لقلبي و لا توجه سياسيّ: - اكتبوا على قبري: "ماتت تبكي على أطفال خسروا أطرافهم في حرب الكراسي.. و تكتب لأحفاد بلا أحقاد...".
 
دخلتُ بلاد العم سام للمرة الأولى عام 2009  طبيبة جلد..كاتبة و مكافحة!
 
لم ينقذني لقب طبيبة الجلد.. لأنهم هنا لا يعترفون بشهادات اختصاصاتنا العربية.. لم أحصّل دخل أخصائية عاينتْ من المرضى ما يفوق عدد شعر رأسها بل بدأتُ من الصفر .. 
 
وقفت أمام نفسي للحظات و سألتها: 
-اختصاصي كان جميلاً.. اللغة العربية التي أتقنها ل أستخدمها.. هل سأعلنُ الهزيمة؟! وماذا عن حلمي الجميل الطفولي في أن أدخل أسرار الله في خلقه و أصبح طبيبة نفسية ..هل سأسمح للصعوبات أن تميته!..
 
و تذكرتُ.. لو أنني لم أتابع العمل لما حصدت شيئاً.. و هكذا صفة "مكافحة" صنعت غدي... 
 
قررت أن أستمر، و فعلت :
تطوعت للعمل في مجال الطب النفسي، ثم أنهيت اختصاصيَن آخرين: في الطب الباطني الابتدائي و الاختصاص الحلم في الطب النفسي..
برئاسة مقيمين في الطب النفسي .. تخرجت مع جائزة ديانا كوين لأنبل روح شافية و أفضل طبيب مقيم بإجماع التصويت.. و جائزة أخرى "التميز في تدريس طلاب الطب"-بعد أن كنت رئيس المقيمين الوحيد في تاريخ الجامعة الذي قام بوظيفة أستاذ جامعي بتدريس مقررات فصلية كاملة من الطب النفسي إلى الطب الباطني..- 
 و بعد ذلك بحمد الله و فضل الأحبة أنهيت -تحت اختصاص- تخصص دقيق في الطب النفسي الجسدي/ النفسي الاستشاري، عُرِضَتْ عليّ مناصب لا يرفضها كثير من الأطباء، و رفضتُ و أرفض أي ما يجعلني تابعةً.. منافقةً.. رفضتُ أي مكان لا أستطيع أن أكون فيه عقلاً شريفاً مستقلاً و روحاً غير خاضعة لثقافة التطبيل…
 
تحديات كثيرة تواجهني، فأواجهها.. و أحمد الله على شرف المحاولة... 
 
أنا بنت الطبقة المتوسطة و لا حدود لقلبي.. أسمع استغاثة الجائع و المريض بنفس الضمير بغض النظر عن لونه.. جنسه.. جنسيته.. دينه أو توجهه السياسي.. 
 
أنتمي إلى الحب وطناً و إلى الإنسانية ديناً .. و مذهبي بيّن لا يشبه موروث التقليد و لا يقلّد غربة المستحدث.. أنت تعتبر أنني لست محجبة، و أنا أرى حجابي و لوكنت بلباس البحر…
************

خذها مني:
عِلْمُ ابنتك هو حجابها.. ثقافتها هي نقابها.. علاقتها بربّها تخصها و لا تخصكَ..
و أخلاقها في مساعدتها لغيرها، و نفعها للناس…

-سأضع الحجاب الذي لا تعرفه و أمثالك.. طالما وضعته لكنك أعمى البصيرة…

اللّهم خلقتنا سواسية لنقول كلمة الحق و لو خسرنا الملايين…

يتبع…