إشكالية اللغة وفهم النص


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 5944 - 2018 / 7 / 25 - 23:55
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

سؤال_ هل خدمت اللغة النص الديني؟ أم أنها واحدة من أسلحة التحرييف والتزييف الذي أصاب الفكرة الدينية في مقتل؟.
الجواب_ بكل تأكيد أقول أن اللغة سلاح ذو حدين فهي من جانب كانت الأداة والوسيلة التي يمكن من خلالها أن نصل بالفكرة واضحة وجليلة للعقل المؤمن، ومن جهة أخرى كون العربية لغة تتميز بمظاهر البلاغة والتعدد في فنون التعبير من خلالها عن أفكارنا، تحولت مع النوايا إلى حاضن طبيعي للتحريف، فمثلا لو أخذنا بعض المفاهيم المختلف عليها وعلى دلالاتها القصدية سنجد أن مساحة التعبير أحيانا تكون متناقضة فيما بينها.
الغريب في الأمر أن النصوص التي تتناول مفردة ما تتشارك بما يسمى بالنسق المعنوي والقصدي دون أن تذهب لأكثر من ذلك، لكن البعض حاول تجاوز مفهوم النسقية التكاملية وطرح مسائل بلاغية من المترادفات أو المتشاركات في المعنى وجعل واحدة بدل الأخرى مما سبب بخروج المفردة من معناها الأصلي لتصب في خدمة فكرته المبيته مسبقا، هذا جرى أحيانا بنية حسنة من باب التوسع أو الكشف عن مديات أبعد للمعنى، ولكن الغالب كانت النوايا تحريفية وتغييرية في أصل المبنى اللغوي وهو ما جر إلى الأختلافات في المخارج النهائية للفكرة.
سؤال_ هل هذا يعني أن اللغة أو اللسان العربي كما يطلق عليه النص ساهم في جزء من إشكالية الأختلاف؟.
الجواب_ ليس المدان هنا اللسان بمعنى أداة أنتقال المعرفة إلى الأخر بقدر ما كان التسخير في الثراء اللغوي لأهداف خاصة أو أستخدامه وسيله لتحقيق غايات معينة، المعروف عن اللغة العربية تكاملت ونضجت بنزول القرآن وصار لها حضور جامع في المجتمع العربي، المفترض أن يتحول هذا النضج والأكتمال إلى عامل توحيد حضاري يستفاد منه في نشر الفكر الديني وفق مرادات الديان، تحولت ومن خلال عوامل سطوة الأنا والصراع السياسي الذي نشأ مع إنقسام المجتمع الإسلامي على فهم قضايا الدين إلى عامل تفريق وتشتت، خاصة بعد تطور الأدوات المعرفية وأختلاط العرب بالأعاجم وأكتشاف قوانين الألسنية وعلم اللغة، وأول ما تفرق المجتمع الثقافي الإسلامي بظهور مدرستي البصره المنطقية ومدرسة الكوفة الذوقية وتجذر مظاهر التنازع بينهما على أسس فكرية وسياسية.
سؤال_ لا ننسى أن تطور الأدوات المعرفية عند العرب وخاصة في موضوع اللغة هو أحد أهم أسباب أنتشار الثقافة العربية والإسلامية بين الشعوب الداخلة تحت راية الإيمان، هل فعلا والسؤال هنا مكرر كان هذا التطور معرقلا لحركة الفكرة الدينية كما أرادها الله أن تكون؟ أم أن هناك جوانب خفية قد لا نعرفها تتعلق بذلك الأمر؟.
الجواب_ الأدوات المعرفية وظيفتها أن تساعد على إبلاغ الفكرة من خلال ما تنتج من أساسيات فهمية وإلاغ الإدراك التام لمضمون الفكرة، الذي حدث أن الفكرة ذاتها تعرضت للتحريف بأستخدام تلك الأدوات بدل أن يكون المفهوم ميسرا وبسيطا وذو قطعية تامة تحول إلى مسألة تنازع في بيان أي الوسائل المعرفية أجدى في التوظيف، مثلا لو رجعنا إلى سبب التنازع بين مدرستي البصرة والكوفة نجد أن المنطق اللغوي الذي تتخذه المدرسة البصرية لو طبق بحذافيره على مفاهيم النص الديني سيخرج الكثير من هذه الأحكام من دائرة العمل، وكمثال بسيط المدرسة البصرية تعتمد مثلا قانون الخبر (الخبر قابل للتصديق والتكذيب ذاتيا)، وطبقنا على كون الحكم الديني أو الدين عموما هو خبر من السماء لأهل الأرض، هذا يعني أن نضع الدين موضع الشك الأولي وعلينا إثبات أولا وجه الصحة التامة قبل أن نتعبد به، وهو ما يخالف مبدئية أننا مؤمنون به دون الحاجة إلى البرهان اليقيني التجريبي، فالدين منقول عقلي غير قياسي وإن كان هذا لا يعني أننا نقبله بدون برهان خاصة وأن الديان قد حين شرع الدين وأنزله لم يتركه معرضا للتشكيك فأنزل معجزاته على الأنبياء والرسل كبرهان عملي {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً }النساء82.
سؤال_ هناك مدرستان معرفيتان في قضية فهم النص وتأويله، الأولى تعتمد قاعدة أن اللغة العربية وشواهدها هي المعيار الأساس في التفسير والتأويل بأعتبار أن القرآن نزل بها ووفقا لنمطيتها وبيئتها فهي الأولى بذلك، والمدرسة الأخرى التي تنكر أن اللغة العربية التي كانت سائدة قبل النزول هي المعيار الوحيد بأعتبار أنها لم تولد بعد كلغة واحدة إلا بتمام النزول وقد كانت مجرد لهجات متفرقة لقبائل وبيئات مختلفة، فالأولى أن تكون لغة القرآن هي المعيار القياسي وعلينا أخضاع اللغة لمنطق وميزان القرآن لأنه اللسان العربي المبين، السؤال إلى أي أتجاه تميل في ترجيح القياس والمعيار؟.
الجواب_ كلا المدرستين فيهما وجه صحيح وقابل للتسليم به والعمل بموجبه، صحيح أن اللغة العربية كما أسلفت نضجت وأكتمل بنائها العام بتمام نزول القرآن والعمل به نصا وفكرة ومنطق، ولكن لا ننسى أنه لولا وجود الأسس التقويمية اللازمة لتطبيق اللسان العربي المبين وقدرته على التعامل مع البيئة والعقل المعرفي لم ينجح القرآن في فرض لغته الكاملة والقياسية، هنا علينا أن نبخس لغة العرب وأن لا نفرط بمنطق القرآن اللغوي وأن نعمل على تكامل منطق المدرستين، المهم في القضية برمتها أن نصل بكلا المنطقين إلى المعنى القصدي الحدي للنص ومن خلاله للفكرة الدينية دون أن ننحاز إلا للمعنى التام والكامل، وبذلك ننتصر للمقاصد أولا ونطور من أليات ووسائل وأدوات المعرفة اللغوية بما يخدم الفهم والإدراك العقلي لقضية الدين وما خلفها من أهداف وغائيات ونتائج.
سؤال_ لو أفترضنا مثلا أن المجامع اللغوية التي يوجد منها الكثير في البلدان العربية والإسلامية والأكاديميات التي تهتم بشؤون اللغة والباحثين الدينيين قد أتفقوا على مقاربات قياسية ووضعوا حدودا وأليات منطقية في مسألة دور اللغة في فهم النص، هل تعتتقد أن ذلك يساهم بإعادة الفكر الديني عموما إلى جادة الصواب؟.
الجواب_ بكل تأكيد بل سيشكل ذلك ثورة ثقافية حقيقية لو خلصت النوايا وعمل الجميع بأحترافية وتجرد، سنشهد ولادة مرحلة وعصر فكري متميز وفاعل يساهم في وضع حد لهذه الإشكالية المزمنة، بل وأبشر من الآن أن العقل العربي والمسلم سيدخل دورا ومخاضا جديدا يبعد الكهنوت وفكره عن دائرة صنع الوعي المزيف والتحريفي، وسيعيد اللغة ومفاهيمها وأدواتها كي تعمل على توحيد الوعي وخلق فكر أخر ينحاز للمقاصد الجعلية والمعاني والدلالات الحاكمة وفق منظور علمي وعملي بعيدا عن التسخيرات وفرض الأعتباطية في تدبر وفهم النص الديني.