سورية والتحول الأجنبي


ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن - العدد: 5935 - 2018 / 7 / 16 - 15:16
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     

لم يعن الانهيار المتسارع للإطار الوطني للصراع السوري منذ تموز 2012 دخولاً متزايداً لأجانب على خط الصراع، جهاديين سنيين من عشرات البلدان، وقوات إيرانية وميليشيات شيعية متنوعة إلى جانب النظام، ومقاتلين من تنظيم حزب العمال الكردستاني من تركيا، لم يعن ذلك فقط وإنما أكثر منه تحول أجنبي واسع النطاق للاعبين سوريين محليين، آل بسورية في المحصلة إلى أن تصير عالماً مقلوباً، عالماً بلا داخل أو عالم الأجنبية القصوى.

ست سنوات على تموز 2012
تزامنت في تموز 2012 أربعة حوادث صانعة للتاريخ إن جاز التعبير، يرجح أن نعيش مع ما ولدته من أوضاع ومعطيات ووقائع لوقت طويل.
أولها تفاهم النظام مع تنظيم حزب العمال الكردستاني على الانسحاب لصالحه من مناطق الكثافة الكردية في حلب والجزيرة، وانطلاق الحركة المعاكسة لما كان يجري خلال ثلاثين عاماً من ذهاب كرد سوريين إلى القتال مع التنظيم ضد القوات التركية، أعني دخول مقاتلين كرد من كردستان تركية إلى سورية (انظر من أجل ذلك تقرير المجموعة الدولية لتناول الأزمات، المعنون: The PKK fateful Choice in Northern Syria: https://www.crisisgroup.org/middle-east-north-africa/eastern-mediterranean/syria/176-pkk-s-fateful-choice-northern-syria). من المحتمل أن ذلك جرى بمبادرة وترتيب إيرانيين، وأن النظام وراعيه الإيراني كانا يعولان من وراء هذه المبادرة على فصل البيئات الكردية السورية عن الثورة، وتفرغ النظام بالمقابل لمواجهة ما كانت تصير أكثر وأكثر بؤراً سنية للثورة، وأن يتولى السيطرة في المناطق الكردية طرف واحد متمرس عسكرياً، ولم يكن يوماً عدواً سياسياً للنظام، ولم يسبق لأجندته أن كانت سورية.
الحدث الثاني اغتيال ضباط "خلية الأزمة" في دمشق يوم 18 تموز 2012، فيما يرجح أن يكون تصفية داخلية، أريد منها توحيد مراتب النظام في معركة مصيرية، والتخلص من تعددية أصوات محتملة داخله، لعلها تمثلت في رجال لا ينظرون باحترام كبير إلى ماهر الأسد وأخيه بشار، مثل آصف شوكت وربما هشام الاختيار. هذا الحدث جانس النظام داخلياً أكثر من أي وقت سبق، وساعده على أن يتصرف بطريقة موحدة، وأن يتخلص مما يمكن أن يكون في مراتبه بالذات احتياطياً يمكن لقوى غربية أن تراهن عليه: "الداماد" آصف شوكت بخاصة.
وتمثل الحدث الثالث في التوسع في استخدام سلاح الطيران، وأول استخدام للبراميل المتفجرة التي صارت رمزاً للنهج الإبادي الأسدي الذي يمكن التأريخ لبدايته الفعلية في ذلك الوقت تحديداً. البراميل سلاح رخيص الثمن، لا يقتل على نطاق واسع فقط، وإنما كذلك يدمر العمران وبيئات الحياة والمرافق العامة، فيدفع إلى الهجرة. وبمفاعيلها هذه البراميل سلاح تدمير شامل بالمعنى الحرفي للتعبير، وهي جديرة بأن توصف فوق ذلك بأنها سلاح كراهية، سلاح اخترعته الكراهية، واستخدام حصرا ضد البيئات الأهلية التي تخلص الكره لها الدولة الباطنة الأسدية. في ذلك الوقت بدأ أيضاً قصف طوابير منتظري دورهم أمام أفران الخبز، ومجزرة حلفايا وقعت بعد أسابيع قليلة، في آب 2012. تواتر قصف طوابير الخبز يحيل بدوره إلى الكراهية والأجنبية ونازع القتل الجماعي أو الإبادة. وبعد أسابيع إضافية بدأ استخدام السلاح الكيماوي، والأرجح أن أوباما تكلم على خطه الأحمر لأنه أخذت تصله تقارير عن استخدام النظام للسلاح الكيماوي على نطاقات ضيقة.
الحدث الرابع هو توقف المظاهرات السلمية التي كانت مستمرة حتى ذلك الوقت وفي مئات البؤر في البلد، وذلك رغم تعسكر الثورة المتصاعد منذ خريف 2011. انتهاء المظاهرات السلمية عنى عملياً خروج الداخل المدني السوري من معادلة الصراع، وتحول الثورة كلياً إلى حرب كانت صفتها السورية تتراجع أكثر وأكثر. الحرب الأهلية السورية انتهت في وقت ما بين تموز 2012 ونيسان 2013، حيث اكتمل تداعي الإطار الوطني للصراع. تواقت واقعتي ظهور داعش والمجاهرة بمشاركة حزب الله في معركة القصير في نيسان 2013 يصلح موعداً لاكتمال نهاية حربنا الأهلية. الحزب الشيعي التابع لإيران يجاهد في سورية علناً منذ أكثر من خمس سنوات.
وبدءاً من ذلك الوقت طور النظام الذي لم يعرض أية تسوية سياسية على معارضيه طابعاً أجنبياً جداً، فصار مركز التفكير والقيادة فيه إيرانياً، وصار يتصرف كقوة قتل لا يجمعها جامع بالمقتولين. البراميل وقصف طوابير الخبز وبدء استخدام السلاح الكيماوي مؤشرات على قفزة في الكراهية من قبل مركز التفكير والتقرير الجديد، قفزة في "الأجنبية" كذلك.
وتوسعت باطراد مراتب الجهاديين السنيين الذي صاروا يدخلون عبر الحدود التركية، بعد أن كانوا يدخلون البلد في البداية من العراق أساساً، ليصل عددهم إلى ما بين عشرين وثلاثين ألفاً، انضم أكثرهم إلى داعش منذ ظهورها في ربيع 2013، لكن كان منهم ولا يزال "مجاهدون" في جبهة النصرة، وهناك تشكيل أجنبي واحد مستقل، الحزب التركستاني الإسلامي.
في الوقت نفسه دان مركز القيادة في البيئة الكردية السورية لقيادة حزب العمال الكردستاني في جبل قنديل، وهي معروفة بروابط قديمة مع كل من النظام الأسدي وإيران. هذا بينما همشت الأحزاب الكردية الأخرى، الأكثر سورية، لكن غير المقاتلة.

التحول الأجنبي
بيد أن هذا الانتشار الأجنبي المتسع ليس غير وجه واحد من أوجه نزع الصفة الوطنية للصراع وتحول سورية إلى أرض لأجانب، يعيش فيها المحليون في غربة متزايدة. الوجه الثاني والأهم هو تحول قطاعات من المحليين إلى أجانب، يتبعون أجانب مقررين، ويحملون مشروعات بالغة الغرابة والأجنبية على البيئة السورية وتطوراتها المتوقعة حتى في ظروف الحرب الأهلية، ويتعاملون مع البيئات المحلية التي تحكّموا بها بوحشية قصوى، رمزية وفيزيائية، مما يتوقعه المرء من محتلين أجانب معادين فقط. العقيدة السلفية التي كانت من قبل محدودة الانتشار في سورية تعبير عن هذه الأجنبية، وعقيدة أنسب لتعزيزها، ومؤشر في الوقت نفسه على المنابع الخليجية لهذه الأجنبية.
ما أخذ يحدث أكثر وأكثر هو أن مشروعات الفاعلين، حتى إن قام عليها محليون حصراً مثل جيش الإسلام في دوما والغوطة الشرقية، أخذ يعرض وجهاً أجنبياً على البيئة المحلية، يجمع بين التجريد والكراهية والقسوة المتطرفة. منذ عام 2013 أخذ جيش الإسلام يتعامل مع دوما والغوطة الشرقية كقوة احتلال، تعتقل وتعذب وتغتال، وتخطف وتغيب، وتفكر في نفسها كأمارة مستقلة، تريد أن تتسع، لكنها تولى جهوداً كبيرة لتحصين سلطتها والقضاء على أي منافسين في عاصمتها، دوما. جرى التعامل مع الدوامنة بالذات بقسوة لم تعرف مثلها المدينة في تاريخها، كأنهم مجتمع غريب. جبهة النصرة تجمع بدورها بين أجنبية المشروع وبين اجتذابها أجانب متنوعين. المشروع السلفي الجهادي أممي التكوين أصلاً، أجنبي أو غريب في كل مكان دون أن تكون لديه أية مشكلة مع هذه الغربة. ارتباط السياسة بمجتمع محدد ومشكلاته وممكناته ليس مما ينتمي إلى عالم الجهاديين الفكري.
الأجنبية القصوى من حق داعش، هنا المشروع بالغ الانفصال عن أي مجتمع، وجذاب لأجانب تعاملوا مع المحليين بعنجهية وقسوة بالغة. داعش تصرفت كقوة احتلال واستولت على أراض وموارد، وفكرت في نفسها كدولة توسعية صراحة.
في كل حال الأجنبية هي غربة مشروع من جهة، وقسوة متطرفة في التعامل مع المحليين من جهة أخرى، بما يضعف فرص التماهي أو وحدة الحال.
على جبهة النظام ظهرت تحولات مماثلة. سيطرة الحزب الإيراني منذ مطلع النصف الثاني لعام 2012، واقترنت سيطرته بتصعيد هائل في الوحشية، رمزت له البراميل المتفجرة كما تقدم. من هذا المدخل بالذات، الوحشية، عرض الحكم الأسدي على الدوام استعداداً أجنبياً قوياً، أعني معاملة المحكومين بقسوة تدوس على الرابطة الوطنية المفترضة. لكن أثناء الثورة تفوق النظام على نفسه، على نحو يتجسد بخاصة في صناعة التعذيب المنظمة في المقرات الأمنية، مثلما كشف عنها ملف سيزار، وتقارير مركز توثيق الانتهاكات ومنظمات حقوق سورية ودولية. ويتلاقى وفود أجانب من إيران ولبنان والعرا ق وأفغانستان وغيرهم، مع تنامي أجنبية المحليين بالذات: أعني أجنبية المشروع، تحويل الجمهورية إلى حكم سلطاني محدث، يدوم "إلى الأبد" على نحو يقتضي استعباد عموم السوريين سياسياً. قاد هذا التلاقي إلى وضع لا نعرف نظائر له في عالم اليوم، تحويل سورية إلى محمية أجنبية، إيرانية روسية، مع الإسفار عن وجه طائفي بالغ الفجور. تصريحات الروس المتكررة، بما في ذلك على لسان وزير الخارجية لافروف، عن رفض قيام حكم سني في سورية (لم يُعترض عليها قط لا من قبل النظام، ولا من قبل مثقفي الدولة الباطنة العضويين و"معارضي المعارضة")، واكتسحت الرمزيات الشيعية الفضاء العام في دمشق (الشيعة في سورية نحو نصف بالمئة من السكان)، بما في ذلك طقوس اللطم في سوق الحميدية، وصولا إلى أغان تهين الرموز الدينية السنية. العراقي الذي توعد في أيار من هذا العام بـ"حرق الشام" مستخدماً رمزيات كلامية وطقوسية شيعية تصرف كممثل لقوة احتلال، ربما متجاوزاً حدود ما يناسب أن يقال علناً، لكن ليس فيما قاله ما يتجاوز منطق احتلال أجنبي على معرفة بتكوين العميل المحلي وهواه.
وفي هذا الوقت أيضاً أخذ يظهر على حين غرة وجه اجتماعي وإيديولوجي مفرط في حداثيته للتنظيم الكردي المسيطر حزب الاتحاد الديمقراطي الذي هو الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، وصار يسوق نفسه في العالم كطليعة متحررة ولا سلطوية ومساواتية في الشرق الأوسط وفي العالم. أرجح أن في جذر هذا البزوغ المفاجئ والمكتمل مزيج من نقل خبرة تنظيم العمال الكردستاني من تركيا ومن جهد منسق لتسويق النفس دولياً كشاغل للنقطة الأبعد في التقابل مع داعش والجهادية السنية، التي صار يقال إن بيئات الثورة السورية "حاضنة اجتماعية" لها، مع التطلع إلى وحدة حال مع نموذج الطبقة الوسطى في الغرب. لم يكن السطوع "الحداثي" المبهر لتنظيم الاتحاد الديمقراطي منفصلاً عن المعطيات السورية، الكردية وغير الكردية، بل هو منقطع كذلك عن دينامياتها الذاتية، وبخاصة ما تطور لمصلحته بسرعة خاطفة من خطاب استعلاء عنصري يستعيد عناصر الخطاب الحداثي الاستعماري حيال المحليين.
وفي خلفية الحالات الثلاثة: الإبادية الأسدية، التوحش السلفي والحداثية الكردية التمييزية، هناك تحول نوعي، جرى بين تموز 1012 وربيع 2013، هو ما أسميه التحول الأجنبي. أعنى بذلك تصاعد نفوذ أجانب وتقريرهم، ثم تبعية محليين لهم، وكذلك خارجية المشاريع وغربتها عن الواقع والمتوقع السوري. إثبات هذه الفرضية يقتضي اطلاعاً أوسع على الأرشيف مما قد لا يتاح قبل عقود، لكن أعتقد أن ما لدينا من مؤشرات يشجع كفاية على التفكير في هذا الاتجاه.

من الأجنبية إلى التبعية
اكتمل انهيار الإطار الوطني للصرع السوري وتحول المحليين إلى أجانب عام 2013. المجزرة الكيماوية في الغوطة الشرقية أظهرت قوة الاستعداد الإبادي في مراتب النظام، وبطلها هو ماهر الأسد، المقرب أكثر من غيره من إيران في نظام لم يبق فيها غير مقربين منها. الصفقة الكيماوية التي تلت أظهرت انكشافاً سورياً تاماً. إلهام الصفقة إسرائيلي، والتعاقد روسي أميركي، والبقاء أسدي، والجهادية السنية بلغت ذروة أجنبيتها. الثورة استبيحت من تحول أجنبي داخلي ومن خارج أجنبي عدائي. بعد عام تدخل الأميركيون في البلد المستباح (أيلول 2014)، وبعد عام آخر تدخلت روسيا (أيلول 2015)، وبعد عام ثالث تدخلت تركيا (آب 2016). ومن المحتمل أن تساهل تركية في دخول جهاديين إلى سورية في النصف الثاني من 2012 كان يراهن على استخدامهم ضد ميليشيا حزب العمال الكردستاني، وهو ما جرى فعلاً بالهجوم على رأس العين ذات الأغلبية الكردية قبل نهاية عام 2012، الهجوم الذي عزز انهيار الإطار الوطني للصراع وتفاقم الأجنبية.
وفي مسار السنوات المنقضية قادت ديناميكية الأجنبية بصورة ثابتة إلى الارتباط المباشر، التبعي، بأجانب أقوياء. الفرع السوري للعمال الكردستاني أدرج نفسه في الاستراتيجية الأميركية ضد داعش، وفي وقت سابق مد حبالاً مع الروس لتثقيل وزنه، وهو اليوم ليس العنصر المقرر في شأن مستقبل المناطق التي يسيطر عليها، ومستقبله بالذات (عفرين، منبج، والرقة على الطريق فيما يبدو). ولم تعد دولة السلالة الأسدية متحكمة بإعادة إنتاج نفسها. هي محمية اليوم من قبل الروس والإيرانيين، وقرار بقاء الحماة في سورية ليس في يد المحمية. من أجل ألا تتغير ولو قليلاً لمصلحة السوريين، وجدت الدولة الأسدية نفسها مضطرة لأن تتغير كثيراً لمصلحة الإيرانيين والروس. أما الإسلامية المسلحة غير القاعدية فهي تابعة اليوم لتركية، ومثلها الإسلامية السياسية من الصنف الإخواني. ولعله هنا يكمن خطأ من يتصورون أن سحق الثورة سيقود إلى مزيد من التطرف الإسلامي السني يتجاوز حتى القاعدة وداعش. لن يحدث ذلك في تصوري، وما يرجح حدوثه هو الانحلال التبعي بعد استنفاد طاقة التطرف في أجنبية عدوانية أثارت نفوراً واسعاً في مناطق سيطرتها. ما يبدو أنه يجري منذ الآن هو التحول من أجنبية المشروع المشفوعة بأجنبية التخطيط والتفكير والقيادة، إلى انحلال المشروع والتبعية المباشرة لقوة أجنبية.
وفي الأصل لم يكن ظهور القاعدة وداعش، وحتى جيش الإسلام وأحرار الشام، نتاج ديناميكيات ذاتية للصراع إلا جزئياً. لا ريب أن سد المخارج المعتدلة للصراع في سورية، والتكوين الاحتلالي الأجنبي للدولة الأسدية، رفعا الطلب على التشدد الديني المسلح في سورية، لكن قفزة الأجنبية المتمثلة في التشكيلات المذكورة تدين في تصوري لتطورات فكرية وسياسية ومالية تقاطرت من خارج بعد انهيار الإطار الوطني للصراع. مما نعرف، وهناك الكثير مما لا نعرف، أنه كانت هناك خميرة قاعدية في العراق بتسهيل من النظام، وأن النظام كان يسهل حركة الجهاديين حيناً ويحبسهم حيناً ويستخدمهم في العراق ولبنان ("فتح الإسلام" في مخيم نهر البارد) حيناً، وأن بعض قادة السلفية الجهادية في سورية كانوا في "أكاديمية صيدنايا"، وبُدئ بإطلاق سراحهم في حزيران 2011، وهذا لأنهم تعهدوا للنظام بأنهم ضد المظاهرات السلمية ("بدعة" في نظرهم) وضد "الخروج على الحاكم" (لكنهم ليسوا ضد "الجهاد" حين يأذن به مفتوهم). وفي هذا الشأن الإفتائي هناك دور كبير لشبكات سلفية خليجية تغذى منها التحول الأجنبي، السلفي، في عام 2012 وما بعد. ومثل ذلك في الشأن المالي، ولكن هنا تضاف إلى الشبكات السلفية الخليجية، من الكويت والسعودية بخاصة، قطر كدولة. والقصد المجمل، بانتظار أبحاث أوسع اطلاعا على السجل، أن التطرف السلفي ملعوب به بقدر كبير وليس محض تولد ذاتي. وعموماً يلزم التمييز بين أسلمة محلية تولدت عن ديناميكية العنف والتمييز والتجذر، وبين أسلمة أجنبية برزت في طور ثان من الصراع السوري، عام 2013 وما بعد. العنف المهول وانهيار الإطار السوري للصراع أضعف المحلي لحساب الأجنبي إلى درجة تقارب الاحتلال الأجنبي الكامل للإسلام السني السوري. والأرجح أن تكون لهذا المعطى عواقب طويلة الأمد، يتعذر تقديرها اليوم.


النبضة والدورة

نلاحظ نسقاً مطرداً للأجنبية يعاكس من حيث الاتجاه والحركة ما كان يصطلح عليه باسم الدور الإقليمي لسورية. منذ سنواته الباكرة تدخل الحكم الأسدي في لبنان وظل هناك لنحو ثلاثة عقود، في عملية انتداب مرعية دولياً اكتمل في ظلها نزع الصفة الوطنية للدولة السورية وتحويل البلد إلى إقليم أسدي مندرج في تحالف طائفي إقليمي. وبعد أقل من عقد كان النظام يتساهل مع ذهاب شبان كرد سوريين للقتال إلى جانب تنظيم حزب العمال الكردستاني بقيادة عبدالله أوجلان الذي كان لتوه لجأ إلى سورية من لبنان (كانت معسكرات تنظيمه في كنف منظمة التحرير الفلسطينية) بعد الاحتلال الإسرائيلي في عام 1982، وعاش في كنف النظام وأجهزة مخابراته تحديداً نحو 16 عاماً. ومنذ الاحتلال الأميركي للعراق سلك "الجهاد" طريق دمشق بغداد. ما رأيناه بعد عام ونيف من الثورة السورية هو الحركة المعاكسة: حزب الله يدخل من لبنان (قبل أن ترمي إيران علناً بثقلها)، مقاتلو العمال الكردستاني يدخلون من تركية (قبل أن تدخل تركية نفسها لاحقاً)، وقبل أن يدخل الجهاديون السنيون عبر الحدود التركية كان أول دخولهم من حدود العراق (الجهادية الشيعية بالمقابل، العراقية منها والإيرانية والأفغانية دخلت من العراق).
ماذا تقول هذه النبضة التاريخية، أعني ضخ العنف إلى خارج "قلب العروبة النابض"، ثم تدفقه عائدا إلى الداخل؟ بداية، تذكر حركة الانقباض- الانبساط هذه بتعاقب وسم تاريخ سورية بعد استقلالها من كونها موضع صراع إقليمي ودولي يجد تمفصلاته مع حياة سياسية داخلية مضطربة، إلى تحولها هي ذاتها إلى "دولة خارجية" أو إلى لاعب إقليمي يغلق الملعب السياسي الداخلي ويطرد السوريين منه (رصد هذا التعاقب باتريك سيل في كتابين مهمين: "الصراع على سورية" و"الأسد والصراع على الشرق الأوسط"، لكنه عرض في ثانيهما انحيازاً غير مشرف للطاغية المحلي، حافظ الأسد)، وهذا قبل أن تدور الدورة وتعود سورية بؤرة صراع إقليمي ودولي في شروط مغايرة لما تدرس بعد. تقول الحركتان النابضة والدورية أشياء عن ضعف التشكل الوطني لسورية، فاقمه تحويل البلد إلى مركز لحكم سلالي منذ ما يقارب نصف قرن (الكيان السوري الراهن عمره قرن واحد فقط). تقولان أيضاً أن صراع سورية المزعوم على الشرق الأوسط ليس نقيضاً للصراع على سورية، كما تظهر السنوات الستة المنقضية على انهيار الإطار الوطني للصراع السوري، بل هو طور من أطوار دورة حياته. يشهد على ذلك أن المصارع المفترض على الشرق الأوسط، حكم السلالة الأسدية بالذات، هو من بادر إلى دعوة أجانب لحمايته، في مؤشر حاسم على نزع وطنية الدولة وأجهزتها، وانقلابها إلى ركيزة محلية للتدخلات الخارجية (الشي ذاته الذي كان يؤخذ على أحزاب سورية قبل الانقلاب البعثي). نزع وطنية الدولة أو خصخصتها هو الشكل الأول للأجنبية، وهو الذي سيتوج بعد الثورة بشكلها الثاني، اللجوء العلني لحماة أجانب.
طرح الأمر في هذه الصورة يرتب تصوراً للحل يتمثل في نزع الأجنبية، بمعنى خروج كل القوات الأجنبية من البلد، وبمعنى نزع الملكية الخاصة للدولة وتحويلها إلى ملك سوري عام، وتوفير الشروط لحياة سياسية متسعة القاعدة.
ثم إن الحركتين النبضية والدورية تقولان أشياء عن الشرق الأوسط وترابط وصراعاته، السياسية والجغرافية السياسية والدينية السياسية، وهو ما يعني أن فرص سورية في معاكسة التحول الأجنبي تكون أكبر بقدر التقدم في معالجة مشكلات الشرق الأوسط الأخرى، الفلسطينية، والكردية، والمشكلات الدينية السياسية، السنية والشيعية، والمشكلة الغربية الإسرائيلية. تستفيد كل قوى التعفن في الإقليم والعالم، ومنها دولة الأسديين، من بقاء هذه المشكلات وغيرها غير معالجة وغير محلولة.