الوقوع في حُبِّ كارل ماركس


عبدالرزاق دحنون
2018 / 7 / 11 - 22:36     


"جائزة نوبل تنتظر ذلك الاقتصادي الذي سيبعث كارل ماركس ويجمع آراءه كلها في نموذج حيِّ متماسك"

بالعودة إلى الساعة الثامنة من مساء الأحد المصادف الخامس عشر من تموز عام 1971 وفق توقيت واشنطن العاصمة الأمريكية حيث جلس ريتشارد نيكسون في حجرة صغيرة في البيت الأبيض, وبين يديه مخطوطة تسبب محتواها في تغيير مجرى الاقتصاد العالمي برمته. وما خلا نيكسون وبضعة من مساعديه, ما كان أحد في العالم يُدرك أن الرئيس الأمريكي السابع والثلاثين قد هيأ نفسه لأن يذيع بياناً يتضمن قراراً تاريخياً. وأنا هنا أعتمد في رواية الوقائع اعتماداً كلياً على كتاب الباحث الاقتصادي الألماني أولريش شيفر انهيار الرأسمالية الصادر في فرانكفورت عام 2009 والمترجم إلى اللغة العربية في سلسلة كتب عالم المعرفة عام 2010.



جلس الناس أمام شاشة التلفاز يستمعون إلى خطاب نيكسون قلقين, فزعين, وجلين, فنيكسون يخاطبهم بأن لدى أمريكا الآن فرصة فريدة كي تحقق لجيل كامل من المواطنين السلام والرفاهية. لكن هذا الهدف لا يمكن التوصل إليه إلا إذا تغلبت أمريكا على الأزمة الاقتصادية المخيفة.لذلك فإن الرئيس الأمريكي يعلن تخلى الولايات المتحدة الأمريكية عن تعهدها بتحويل الدولار الأمريكي إلى ذهب. بهذا القرار قوض الرئيس الأمريكي أركان نظام أسعار الصرف الثابتة للعملات العالمية. هذا النظام الذي أسبغ الاستقرار على الاقتصاد العالمي على مدى ربع قرن من الزمن, وساهم في خلق ازدهار اقتصادي مشهود.فقد عمل نظام أسعار الصرف الثابتة على خير ما يرام, ونشر الاستقرار في الاقتصاد العالمي, وصان أسواق المال من التعرض لشطط وإسراف مبالغ فيهما. بيد أن نظام أسعار الصرف الثابتة تعرض لرجات قوية في نهاية الستينيات. فالأمريكيون كانوا قد دأبوا على طبع مزيداً من الدولارات الورقية بغية تمويل حربهم في فيتنام. فهم صاروا يغرقون الأسواق بعملتهم, تماماً كما يفعلون اليوم, لكنهم ومع مرور الأيام أصبحوا يواجهون صعوبات جمَّة في العثور على من يرضى بالاحتفاظ بعملتهم الورقية.

لهذا السبب أخذ الأمريكيون, بدءاً من عام 1968 يستجيبون لطلبات المصارف المركزية فقط لصرف قيمة العملة الورقية بالذهب؛ غير أن هذا التدبير لم يجد نفعاً أيضاً.فاحتياطي الذهب المُخزّن في خزائن فورت نوكس صار يتآكل من يوم إلى آخر, وأشرف على النفاد. وهكذا لم يبق أمام نيكسون سوى الاعتراف بأن النظام النقدي القائم على أسعار صرف مثبتة مقابل الدولار قد مات.

خيَّمت الحيرة على الدول الصناعية؛ فهي أُخذت على حين غرة كما يُقال حين سمعتْ بقرار الرئيس الأمريكي في صبيحة اليوم التالي. وأغلقت الحكومات في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا واليابان بورصات العملات الأجنبية في بلادها, واجتمع أعضاء كل واحدة من هذه الحكومات لمناقشة الوضع الجديد.وقطع المستشار الألماني فيلي براند إجازته السنوية حال سماعه بالخبر, وعاد إلى بون للتداول مع وزير الاقتصاد كارل شيلر. على صعيد آخر, رفض عديد من المصارف الأوربية في الأيام التالية تحويل الدولار إلى عملتها الوطنية, وذلك لأنها ما عادت تعلم بماهية القيمة الفعلية للدولار. وقد بذلت الدول الأوربية قصارى جهدها لإعادة الحياة إلى نظام أسعار الصرف الثابتة. غير أن هذه الجهود باءت بالفشل في نهاية المطاف, ولم تستطع الحيلولة دون بلوغ هذا النظام نهايته المحتومة في العام 1973 .

إن النهاية المفاجئة لنظام إصدار العملات والذي كان يُعرف شعبياً بتحويل قيمة الذهب المخزون في البنوك المركزية الحكومية إلى عملة ورقية لا يمكن أن تتخطى نسبة المطبوع من هذه العملات الرصيد الذهبي الموجود في البنوك المركزية لهذه الدولة أو تلك. هذه النهاية تشير إلى بزوغ فجر ما صار يُعرف بالعولمة في اليوم الراهن . فالقرار الذي اتخذه نيكسون من طرف واحد في تلك الأيام, مهَّد, بلا وعي من نيكسون, الطريق لاندلاع تطور غيّر ملامح الاقتصاد العالمي في الأربعين سنة التالية.فقد تحررت أسواق المال من التوجيه الحكومي وخلخلت الدول الصناعية أسس الحماية الجمركية التي كانت قد أنشأتها عقب تعرض الاقتصاد العالمي لأزمة الكساد الكبير في ثلاثينات القرن العشرين. كما عكفت على فتح أبواب مصارفها للمستثمرين الأجانب وشركات الخدمات المصرفية غير الوطنية. وهكذا, اندلعت حقبة التحرير والخصخصة وحذت حكومات بقية العالم حذو الولايات المتحدة الأمريكية وراحت تتخلى عن شركاتها ومشاريعها الوطنية اعتقاداً منها أنها لم تعد بحاجة إليها.

كان آرثر برونز محافظ البنك المركزي في إدارة ريتشارد نيكسون قد تنبأ في السبعينيات من القرن العشرين باندلاع هذه المخاطر. فوفق تنبؤاته يؤدي تحرير أسواق المال إلى شقاء الإنسانية بكل تأكيد.وها نحن بعد أكثر من أربعين عاماً نجد باول فولكر أحد أهم المستشارين الاقتصاديين في الإدارة الأمريكية يؤكد: إنه لمن الصعب جداً الزعم بأن النظام المالي العالمي الجديد قد حقق منافع ذات بال. وهذا النظام لم ينجح في اجتياز الاختبار على الرغم من توافر لاعبين موهوبين له, وعلى الرغم من التسهيلات العظيمة التي تمتع بها.

وقد صرّح أحد العاملين المخضرمين في أضخم بنك للاستثمار في وول ستريت في أمريكا قائلاً:

كلما طال بقائي في وول ستريت, ازدادت قناعتي أن آراء كارل ماركس الاقتصادية كانت على صواب. وجائزة نوبل تنتظر ذلك الاقتصادي الذي سيبعث كارل ماركس ويجمع آراءه كلها في نموذج حيِّ متماسك. أنا مقتنع بالكامل أن طرح ماركس هو أفضل طريقة لرؤية حركة رأس المال .لأن رأس المال أخضع الكائنات البشرية للتهالك على كسب وده واختزانه . ألم يؤمن يقيناً أن الطريقة التي يعمل بها المجتمع على تنظيم الإنتاج تصوغ في النهاية مواقف الناس ومعتقداتهم.