صفات الفكر الرسالي وخصائصه ح2


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 5918 - 2018 / 6 / 29 - 23:28
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات     

• خصوصية التقدير السابق.
إن الإيمان بخصوصية الأحاطة والأستحكام تستوجب الإيمان بالتقدير السابق وخاصة مع علم الله السابق بما كان وما سيكون,فالله يقدر بأستحكام ويحيط بالقدر على ما أستحكم,فلا يدع النهايات سائبة أو غير معلومة بالقدر الذاتي منه فما دامت المنطلقات مقدرة بقدر ومستحكمة بقدر ومحاط بها بقدر فلا بد أن تكون النهايات بنفس الأتساق والقدر والله تعالى يقول{الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً }الفرقان2,فالتقدير ضروري ومصاحب للأحاطة والأستحكام ومتسق معها نتيجة ومقدمة,هذا التقدير ليس موازيا للتفصيل ولكن موازيا للأحكام المطلق البدوي دون أن يقابل التفصيلات الجزئية والدليل{وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ }الأنعام91,فالنص يشير إلى التقدير في التنزيل ولم يشير إلى مؤديات التنزيل وما يستجيب به الإنسان لما أنزل الله ,وهذا يعني أن التقدير لم يتناول المفصلات وإنما تناول الكليات التكوينية وترك التقدير في الجزئيات إلى النتائج التحصيلية التكسبية,مع عدم نفي معلومية الله تعالى عما ستئول إليه المقدرات والكسبيات والدليل {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ }الطور21,هذا في الكسب أما في العلم المسبق فالنص يفصح صراحة بذلك {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }الأنعام59,إن العلم بما ستئول إليه المقدرات وما هي خارجها بالظاهر من كسب وتحصيل خصيصة ملازمة لخصيصة التقدير ذاتها وهو ما لم يكن أحد من المنظرين أو المفكرين يدعي له ما نسب الله لنفسه ولفكره الرساله لا على سبيل الجزم القاطع ولا حتى على الظن الأحتمالي ,وبذلك ينفرد الفكر الرسالي بهذه الخصيصة.
• خصوصية ربط الغيب بالحاضر.
يتميز الفكر الرسالي كنظرية وتطبيق هو إيمانها بالغيب الروحي كإيمانه بعالم الحضور المادي فهذه المزاوجة بين طرفي المعرفة تتخذ لها شكل تكاملي في أطار الإيمان بالله الذي هو مصدر الرسالة كما هو خالق الغيب والحضور,فالأيمان بالغيب ليس عيبا فكريا طالما أن مفاتيحه بيد مبدع ومنزل الفكر الرسالي الذي جعل منه مكمن لعالم الحضور ينبئ به بالطريقة التي تتناسب مع مقدرة الإنسان الفكرية والعلمية العقلية وبموجب الضرورات وليس غيبا مطلقا يحال بينه وبين الإنسان إلا في حدود ضيقة تمس أصل الوجود وضرورات الكسب والتحصيل ولا تعطل النشاط البشري متعلقا بإحداثيات غيبية لا يدركها ولا يمكن له مع تطوره العلمي والفكري أن ينالها بالسبب ذاته,ومنها مثلا علم الساعة أو الموت أو الرزق,فالكشف مثلا عنها فيه تعطيل لأسباب الكسب والتحصيل المعرفي مما يشكل توقف للحياة بصورتها الديناميكية,فالنص الذي يتحدث عن الموت مثلا بعد فحصه وتدقيقه نجده يشير إلى هذه الحقيقة {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ}النساء18,فالنص يشير إلى التراخي في الأنابة والتوبة إلى الله وهذه الأنابة والتوبه من مستلزمات الإيمان الكلي وجزئيته العمل الصالح فالتراخي فيها لحين بلوغ ساعة الموت ولو كانت معلومة فيها تعطيل للعمل الصالح الذي كما قلنا هو جزئية أصيلة في الإيمان الذي هو محور الفكر الرسالي.
فمجهولية ساعة الموت وربطها بعالم الغيب تجعل من الإنسان يعيش هاجس اللحظة المجهولة فيبادر للعمل وفق مقتضيات الفكر الرسالي الذي يؤمن بالبلاء الأمتحاني المتحكم بمفصلية الأختيار على قاعدة أن البلاء كاشف حقيقي عن فعل الكسب والتحصيل{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ }الملك2,فالغيب الذي يمثله مجهولية ساعة الموت هو كما الحضور المادي الذي تشهده حضورية الحياة وكلاهما فيه البلاء والأمتحان الذي يمنح الإنسان حرية العمل والكسب وفيه السر الذاتي لعدل الله تعالى لئلا يقول من يقول{وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ }المنافقون10.
فالموت الذي هو حتم على الإنسان أن يلاقيه في ساعة مجهولة يعتبر من حالات الحاضر وليس غيبا لأنه معلوم ومكشوف أما تحديد الوقت والمكان يقدم للإنسان فرصة الأثبات على سعي الإنسان التحصيلي بعيدا عن الأضطرار والتوكل والتعلق بالأمال المحددة فيسير وفق مقتضيات الفكر الرسالي أساسا وليس وفق مقتضيات الأضطرار والأتكال والتعليق بما هو معلوم{قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }الجمعة8 ,فالعمل هو الفيصل في الفكر الرسالي سواء أكان خيرا أو شرا والإنسان مخير بين المسارعة في الخيرات أو الأنكباب كالأعمى على الشرور والنزوات.
فالغيب يلعب الدور المحفز والداعم للحياة الحضورية وعالم الأشهاد وبدون الغيب بالصورة التي سقنا فيها مثل ساعة الموت تصبح الحياة الإنسانية مسيرة بالجبر والتقديرية الجزئية التي تتناقض مع مجمل خصائص الفكر الرسالي وتمنح عناصر التعطيل قوة الفعل المانع من فاعلية مبدأ الحرية والأختيار ويتحول الإنسان عبدا لساعة الموت ويخشاها ولا يخشى الله الذي بيده سلطان الأحياء والأماته{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }الزمر42,فالأجل الممنوح للنفس ليس بمعنى الأمهال العبثي ولا بمعنى الأرجاء بغير سبب بل هو في تقدير الله وعلمه تدعيم لعالم الأشهاد من خلال التذكير الدائم بالموت والأحتساب النفسي اليومي ومراجعة الحسابات التي تعطي للنفس فرصة التصحيح والتدقيق فيما يستوجب عمله أقتداءً بركنية التوبة وأنفلات من حالات الخلل المناقضة للفكر الرسالي.
فالمزاوجة بين الغيب المحتم والحضور المعاش كحصيصة ينفرد بها الفكر الرسالي متعلقة بالخصيصة الأصل وهي مصدرية المنشأ الألهي المحيط والمستحكم بالأشياء بمستويات التقدير والتفويص بالحق,وهذا ما لم يتوفر بأي فكر وضعي أو نظرية فكرية إنسانية مرت على الوجود من خلق سيدنا آدم وحتى تقوم الساعة لسبب وعلة مفهومة وثابتة ألا وهي أن الله الكامل المطلق قد أنزل أمرا مطلقا لا يحدد بحدود البشر ولا يتمثل بنفس مقاسات ومقياسات الخلق.
• خصيصة التفرد بالشكل.
يقول الله سبحانه وتعالى في وصف أنفرادة ذاتاً وصفاتاً وأمراً بمقام التفرد بالشيئية أنه {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ... لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ }الشورى11,هذا الجزم قطعيا لا على سبيل الظن والأحتمال بل هو قطع يقيني من ثلاث وجوه هي:
1. بالنص المحكم الذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ,وحيث ورد قطع بالنص النقلي المقدس فهو مبني على التصديق التام الكلي ما لم يقابله نص بالنسخ أو الأستثناء من قاعدة وحيث أن البحث في كل النصوص القرأنية لا تدعم النسخ ولا يوجد أستثناء جزئي للقاعدة اللفظية المعنوية لا بالمعنى ولا بالقصد فيكون القطع في جازما باليقين التام من أن الله ليس كمثله شئ.
2. بالعقل وحجته القائمة على أن العقل مصدق للنقل وبه يستهدي ,فما قطعه النقل لا يعارضه العقل بل ويتوافق معه كون العقل غير حائز للقدرة على النقض وأدعاء المخالفة مع أنعدام الدليل العقلي المعارض,من جهة ومن جهة أخرى أن حدود العقل البشري في أوج أتساعها لا تدعي المخالفة ولم تبرهن على ذلك بل أن العقل يسلم بها كونه من مخلوقات الذي ليس كمثله شيء وبذلك لا يمكن للجزء بمعنى المتكون من أثر الشيء أن يثبت مثلية أو عدم مثلية الأصل الفاعل وهو تحت سلطانه,فلو كان العقل ليس من أثر الخالق لأمكن له أن ينظر إليه خارجا ويحكم بالمثلية من عدمها على أساس الخارجية الشكلية وهذا محال على العقل.
3. العلم بشقيه الرباني والوضعي عاجز عن أثبات دليل قيام الشكلية والمشابهة,ولم يصرح العلم بذلك وإن حاول العلم الوضعي أن يأتي بمثال إلا أن عجزه النابع من العجز الأصلي لأدات العلم وهو العقل من الأحاطة بما هو محيط به أصلا,فلا قواعد العلم ولا المنطق تزعم أن المحاط به قادر على أن يحيط بما أحاط به أصلا ,وهذا ضد العلم.
4. الوقائع المادية والعملية تنفي أن يكون لله شبيه أو مشاكل لا على وجه الأحتمال ولا على وجه اليقين ودليلنا قول الله تعالى في ذلك{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }البقرة258,فالعجز التام نصيب المحاولات الدعوية لذلك ولا دليل عملي لنجاح أي محاولة للتشبيه أو أدعاء المماثلة.
فعندما يكون الله ليس كمثله شيء فما هو موصوف لله ومن فعله وأثره ليس كمثله شيء فالجزء يتصف بصفات الكل الجوهرية دون الشكلية وحيث التفرد بالمثلية التي تعني الجوهرية والشكلية فيكون ما نزل من الله كفكر رسالي ليس كمثل الفكر البشري بالخصائص والصفات ويحمل نفس الخصيصة,فلا يحق لنا أن نسند ما تعارفنا عليه من شكلية بنائية أو وصفية لما هو إنساني وأسقاطه على ما هو لله ونقول أن المشاكلة تامه ,فلا قول الله مثل قول البشر ولا فعله كفعلهم وأمره كأمرهم فالمقياس بالقياس لا يعود لما هو بشري بل لما هو أصلي أي رباني لذلك كان علم الله لا يفهم ولا يدرك إلا بوسائل تنبع من نفس القاعدة ومبعثها وهو الإيمان به { هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَـذَا أَتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }يونس68,فلا قول على الله إلا ما قاله هو لأنه منه وما كان لله فهو له وحده ولا ينال إلا به {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ }الرعد33,فظاهر القول الذي نعلمه مبنيا على ما تشاكل به مع ما عندنا من طرائق لفهم القول دون أن يكون هذا حقيقيا لأن ما ظهر من القول ليس في حكم الله وعلمه وفكره الرسالي لأن قول الله ليس كقول البشر فعليهم أن يردوه إلى المصدرية الباعثة ومن ثم الحكم بما تنطق به من غائية وقصدية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً }النساء59.