أي تفسير علمي لظاهرة إنتشار الفساد تحت غطاء ديني في منطقتنا؟


رابح لونيسي
الحوار المتمدن - العدد: 5916 - 2018 / 6 / 27 - 17:05
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     


ان ظاهرة إستغلال الدين والإختفاء وراءه لتحقيق مكاسب مادية هي ظاهرة قديمة قدم البشرية، فقد كان ذلك أحد الأسلحة الفتاكة التي تستخدمها قوى الإستبداد والإستغلال لتخدير الشعوب متحالفة في ذلك مع الكهنة وسدنة المعابد، مما جعل بعض علماء الإجتماع يرون بأن الدين هو مجرد ظاهرة إجتماعية أنتجتها الطبقات الحاكمة لتبرير وتقوية وإدامة إستبدادهم وإستغلالهم للشعوب، أما بالنسبة لمنطقتنا فقد أشار إليها بن خلدون بقوة في كتابه "المقدمة" عندما يتحدث عن توظيف وإستغلال الدين من أجل أخذ السلطة، فقد تناولنا ظاهرة التوظيف السياسوي للدين عبر تاريخ الإنسانية بالتفصيل في مجموعة مقالات متسلسلة نشرناها في الحوار المتمدن طيلة شهر أكتوبر2017 بعنوان "مقالات حول جدلية الدين والسياسة"، كما أشار إلى هذه الظاهرة روائيون وقصاصون عندنا منذ ظهور هذه الأشكال الأدبية عندنا مثل نجيب محفوظ وكذلك جبران خليل جبران في بعض قصصه بالنسبة لرجال الدين المسيحيين في لبنان في بدايات القرن20، لكن الجديد في هذه الظاهرة عندنا اليوم هو إنتشارها الواسع جدا في العقود الأخيرة، مما يرجح أن لها علاقة بالتوسع الرأسمالي العالمي، لكن للإجابة على ذلك يجب إخضاع الظاهرة لدراسة علمية عميقة جدا وبوضع كل الفرضيات التفسيرية لها أمام المختبر العلمي.
فقلما عرفت مجتمعاتنا ظاهرة التدين، كما يعرفها اليوم، فبإمكاننا القول مثلا أن 99% من الجزائريين مثلا ملتزمون بشعائرهم الدينية، بما فيها أعلى السلطات، ففي كل موسم للحج نجد حوالي 40% من النخب الحاكمة تؤدي مناسكه.
لكن المفارقة التي تحتاج إلى دراسة عميقة هي أنه مقابل هذا التدين أنتشر الفساد السياسي والإقتصادي والمالي بشكل واسع جدا لم يسبق له مثيل، وتعيش منطقتنا اليوم إنهيارا اخلاقيا عميقا جدا، فما نقصده بالأخلاق هو الإنضباط وإتقان العمل ومواجهة كل أشكال الظلم والفساد والعنصرية والتعفف وكف اليد عن المساس بالمال العام وغيرها من الممارسات الإيجابية البناءة، لكن هذه الممارسات الإيجابية قليلة جدا إن لم نقل شبه منعدمة في مجتمعاتنا
لعل ما يدفعنا اليوم على الإلحاح والإصرار على الدراسة العلمية للظاهرة هو ما وقع مؤخرا في منطقتنا عامة، والجزائر خاصة تبين فيها مدى الإنهيار الأخلاقي الكبير الذي تعرفه مجتمعاتنا وإختلاط المال الفاسد بغطاء ديني مريع، فمن هذه الأحداث قضية 701كلغ من الكوكايين في الجزائر التي مست حتى أشخاص قريبين من هرم السلطة، وكانت سببا في إقالة مدير الأمن الوطني عبدالغني الهامل الذي رشحته بعض الأوساط من قبل لأن يكون له دور سياسي كبير في السنوات المقبلة، بل تحدثت عن تحضيره لخلافة الرئيس بوتفليقة بعد الترقيات السريعة في المناصب والرتب العسكرية، فهل كانت قضية الكوكايين المكتشفة في ميناء وهران سلاح يوظف في إطار الصراع حول السلطة ولخلافة بوتفليقة في حالة وفاته، لأنه من المستبعد جدا أن يغادر السلطة وهو على قيد الحياة نظرا لطبيعته ونفسيته وسعيه لضمان مستقبل أسرته ولما لا نقل السلطة إلى شقيقه كما ترجحه الكثير من المتابعين؟.
قد أثبتت التحريات الأولى في قضية الكوكايين بميناء وهران تورط شخص يمتلك أموالا وعقارات كثيرة وله علاقات وطيدة برجالات في السلطة مما يدل على مدى إختلاط المال الوسخ بالسياسة حسب تعبير الوزير الأول أحمد أويحيى عن هذه القضية، لكن المفارقة هو أن هذا الشخص يبدو متدينا وبنى عدة مساجد، خاصة في العاصمة، كما ترددت أقوال أنه من الذين لهم علاقة بالإرهاب في التسعينيات مثله في ذلك مثل الكثير من أمراء الإرهاب الذين استفادوا من المصالحة الوطنية، لكنهم تحولوا إلى مليارديرات بحكم الأموال التي نهبوها من المواطنين، وأخذوها بسطوهم على البنوك ومراكز البريد والشركات في التسعينيات، كما لا نفهم قبول قضاة يرشيهم هذا الشخص بسكنات وأيضا بعمرات إلى البقاع المقدسة مقابل قيامهم بعمليات تزويرية له أو إصدار أحكام لصالحه، وهو ما يدل على إنتشار ظاهرة غريبة ومفارقة كبيرة تحتاج إلى دراسة عميقة، ويذكرنا هذا الفعل الشنيع المنتشر بقوة بما رواه لي أحد الأساتذة في جامعاتنا، حيث يقول أنه ضبط طالبة بجلباب تغش في الإمتحان، فقال لها: ماذا تختارين بين لبس جلبابك أو الغش؟، فرد عليه طلبة قاعة الإمتحان عليه بعنف، فلدى هؤلاء الطلبة الغش أقل جرما بكثير مقارنة بنزع الجلباب وتعويضعه بلباس محتشم، وهو ما يدل على هذه المفارقة، فلم يكن أمام الأستاذ إلا أن قال لهم ألم يقل رسول الله(ص) "من غشنا ليس منا"، وأن معناه أن الغش هو أكبر الجرائم في الإسلام لدرجة إخراج صاحبه من الإسلام، لكن لم يقل ذلك بشأن الجلباب أو الحجاب، هذا يدفعنا إلى حادثة أخرى عرفتها الجزائر، وهي إنتشار فيديو يصور أحد رؤساء البلديات يبدو أنه يصطاد النساء المحتاجات إلى مكتبه لممارسة الرذيلة معهن أمام علم الجزائر وبجانبه مصلاة ومصحف، وهذا الشخص معروف بمظاهره الدينية لدرجة أنه حج وذهب إلى العمرة عدة مرات، فهذا يذكرني بأحد رؤساء البلديات الذي لمته يوما على إنتهازيته ونفاقة الذي لم أطقه، فلم يكن جوابه لي بأنه كيف وصفته بذلك وهو الذي حج بيت الله الحرام وأدى العمرات عدة مرات.
أن كل هذه الظواهر عرفتها أوروبا في مطلع ظهور الرأسمالية التجارية، خاصة في المدن الأوربية عامة والإيطالية خاصة، فممارسة رجال الدين للزنا والرذيلة معروف جدا في إيطاليا أثناء حكم آل بورجيا في القرن 16، كما وجدت ظاهرة علي بن حاج وبن لادن وغيرهم في شخص مثل سافونارولا في نفس الفترة، أن إستغلال الدين والإختفاء وراءه الذي يعرف توسعا كبيرا عندنا قد عرفته أوروبا أيضا في الماضي، وقد ألف موليير مسرحية شهيرة عنوانها le tartuffe أي "المرائي" تصور هذا الصنف من الأشخاص المتسترين بالدين في فرنسا آنذاك، فهذه الظاهرة جعلت ماركس يقول "الدين أفيون الشعوب"، فنحن نعرف اليوم ظاهرة قوية مماثلة مع توسع العولمة الرأسمالية في بلداننا.
تدفعنا هذه المفارقة بين ظاهرة تدين قوية وإنهيار أخلاقي شامل إلى طرح أسئلة مشروعة بإمكانها ان تكون مجرد فرضيات لدراسة هذه الظاهرة: فهل ماهو سائد مجرد تدين مرضي حسب عنوان لرسالة جامعية في علم النفس نوقشت في التسعينيات؟، هل هذه الظاهرة تعبير عن مأزق شديد يعيشه العالم الإسلامي، ولاعلاقة لها بالدين الحقيقي كما يقول المصري سمير أمين؟، هل هي مجرد مظاهر هوياتية كسلاح لمواجهة العولمة الثقافية؟، ولهذا تتجلى هذه المظاهر الدينية في الشكل أكثر من الجوهر؟، وهل هو ما أسماه بن باديس "إسلام وراثي"، وليس "إسلام حقيقي"؟، هل هو نفاق إجتماعي وإستغلال للدين وتوظيفة لمصالح مادية وسياسوية؟، خاصة أننا نعلم بأن جزء من شعبنا عند الإنتخاب لا يقدر العلم والثقافة والكفاءة بقدر ما يهتم بالمظاهر الدينية، ألايدخل هذا فيما يسميه بن نبي بالشيئية، أي الإهتمام بالمظهر بدل الجوهر؟ ألايمكن أن تكون الظاهرة بديات لإضمحلال الدين في مجتمعاتنا، خاصة بعد ما أثبتت دراسة تاريخ الأديان، أنه كلما ساد الشكل على الجوهر في ممارسات أي دين معناه أن ذلك الدين مهدد بالإضمحلال والزوال، فهل نمارس إسلاما ضد الإسلام الحقيقي حسب تعابير المفكر الإيراني علي شريعتي؟، والذي يقول بأن كل دين يتم الإنحراف عنه تدريجيا بعد وفاة النبي المرسل إليه، ويستولي عليه المستبدون والإستغلاليون، ويحرفونه ويوظفونه لخدمة مصالحهم، فهذا ماوقع لكل الأديان، بما فيها الإسلام، وفصل ذلك في كتابه "دين ضد الدين"، وأشار إلى نفس الفكرة تقريبا الليبي الصادق النيهوم في كتابه"إسلام ضد الإسلام"، وهو عبارة عن مجموعة مقالات نشرها مسلسلة في مجلة "الناقد" في الثمانينيات، لكن لم تصل هذه الأفكار إلى الجمهور العريض، لأن كل مفكر نقدي محاصر في مجتمعاتنا على عكس ناشرو الكراهية والدروشة التي عادة مايسوقونها بغطاء ديني.
نحن بحاجة اليوم فعلا إلى علماء الإجتماع الديني لدراسة وتفسير هذه الظاهرة في مجتمعاتنا، فهذه مجرد أسئلة وفرضيات تحتاج إلى وضعها أمام المختبر العلمي لتبيان ومعرفة الأسباب الحقيقية لهذه الظاهرة .

البروفسور رابح لونيسي