تأمّلات في الانتخابات التركية


جلبير الأشقر
الحوار المتمدن - العدد: 5916 - 2018 / 6 / 27 - 11:07
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

ثمة طريقتان للنظر إلى الانتخابات التركية التي جرت يوم الأحد الماضي: الأولى هي مقارنتها بالانتخابات الصورية المعتادة في معظم البلدان العربية، وقد كانت الانتخابات الرئاسية المصرية هذا العام نموذجها الأبرز خلال السنوات الأخيرة. يعتمد هذا المنظار أنصار رجب طيب أردوغان في المنطقة العربية، ولاسيما جماعة الإخوان المسلمين الذين تبنّى الزعيم التركي قضيتهم إلى حد رفعه أربعة أصابع في المهرجانات (إشارة إلى المجزرة التي وقعت في ميدان رابعة العدوية في القاهرة في آب/أغسطس 2013). وحيث لا جدال ممكن في أن الانتخابات التركية أكثر ديمقراطية ونزاهة من مثيلاتها العربية، يتغنّى أنصار أردوغان العرب بفوزه، مصوّرين حكمه كمرادف عصري لحكم هارون الرشيد.
أما الطريقة الأخرى للنظر إلى الانتخابات التركية، فهي مقارنتها بما يجب أن تُقاس به أي انتخابات، ألا وهو معايير الديمقراطية الانتخابية بوجه عام، كما تتجلّى في الانتخابات التي تشهدها الدول التي لا تشكيك في احترامها لتلك المعايير، وهي لا تقتصر على الدول الغربية، بل تشمل دولاً في شتى القارات (جنوب أفريقيا وسريلانكا وكوريا الجنوبية والتشيلي، على سبيل المثال لا الحصر). أما أن تقتصر المقارنة على أسوأ النماذج التي اعتدنا إليها في المنطقة العربية فأمرٌ ينمّ عن ازدراء بشعوبنا، وكأنها لا تستحقّ سوى ديمقراطية محدودة لسبب ما، غالباً ما يعزوه الفكر «الاستشراقي» إلى الدين.
والحال أن تركيا قبل سنوات قليلة، كانت مع ماليزيا والسنغال بين الدول التي تُضرب مثلاً في دحض القول المُغرض بأن الإسلام يتعارض مع الديمقراطية، وكأنّ الديمقراطية حلّت في أي مكان بفضل دينٍ ما. أما مرادف مثل هذا التفكير لدينا فيقوم على اتهام نقّاد نظام أردوغان الغربيين بأنهم معادون للإسلام، وكأنّ أخصام أردوغان الأتراك (وبينهم حزب السعادة الإسلامي) ينتمون إلى ديانة أخرى، وكأن نقّاد بوتين الغربيين من أخصام المسيحية الأرثوذكسية ونقّاد رودريغو دوترتي الفيليبّيني من أعداء الكاثوليكية!
في الحقيقة، ومن منظار معايير الديمقراطية الانتخابية بوجه عام، لا بدّ لمن لا يعميه الانحياز إلى الزعيم التركي من أن يلاحظ أن تركيا في السنوات الأخيرة أخذت تنزلق بزعامته إلى نمط سياسي بات يبتعد عن النماذج الأوروبية، التي كانت تركيا تحتذي بها في العقد الأول من هذا القرن بقيادة أردوغان نفسه، نمط يقترب تدريجياً من مساوئ الأنظمة العربية، وإن كان لا يزال بعيداً عن مستوى استبداد هذه الأخيرة. ومن بين أسطع الأدلّة على انحطاط الديمقراطية في تركيا عدد الصحافيين االمسجونين فيها، إذ أن تركيا بلغت المرتبة العالمية الأولى في هذا المجال، وكان يقبع في سجونها في نهاية العام المنصرم 73 صحافياً، أي أكثر مما في الصين (41) وفي مصر (20) وهما في المرتبتين الثانية والثالثة.
وقد تسارع الانزلاق السلطوي في تركيا مع انتهاز أردوغان فرصة الانقلاب الفاشل ضده في صيف 2016 ليقوم بزجّ حوالي خمسين ألف شخص في السجون (هل شهد التاريخ محاولة انقلابية، وهي عملية سرّية بالضرورة، تورّط فيها خمسون ألف شخص؟!) وتسريح ما يزيد عن مئة ألف شخص من وظائفهم. والأخطر هو أن أردوغان، الذي قد يكون القصر الرئاسي ذو الألف ومئة وخمسين غرفة الذي شيّده في أنقرة خير تعبير عن توجهه نحو ذلك العرض المتفشّي بين الحكّام العرب، أردوغان إذاً سعى في المرحلة الأخيرة إلى إرساء تركيزه للسلطات بين يديه في الدستور، بحيث منح نفسه سلطات تفوق بدرجات تلك التي يتمتّع بها الرئيس في النظامين الجمهوريين السلطويين الروسي والمصري.
أما الطريف في هذا المنزلق، فهو أنه يحصل وشعبية أردوغان وحزبه في تراجع بدل أن تكون في تصاعد وفي مستوىً عالٍ يخولّه الادّعاء بأنه يلبّي رغبات شعبه. فلو قارنّا تركيا بالبلدين المذكورين، لتحتّم الإقرار بتمتّع فلاديمير بوتين بشعبية أعظم بكثير في روسيا، وإن صحّ أن شعبية حاكم ما أياً كانت ليست بمبرّر للحكم السلطوي. ولتحتّم كذلك الإقرار بأن شعبية عبد الفتّاح السيسي كانت مرتفعة للغاية في عامي 2013 و2014 اللذين أرسى خلالهما حكمه السلطوي. أما أردوغان فمن المفارقة أنه يسير في تحقيق طموحه السلطوي بينما لم يحصل سوى على 52.5 بالمئة من الأصوات في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وهي نسبة تضفي شرعية أكيدة على حكمه، لكنّها لا تشكّل أرضاً صلبة لحكم سلطوي على غرار الشعبية التي يتمتّع بها الرئيس الروسي. وللتذكير، فقد حصل هذا الأخير على 76.7 بالمئة من الأصوات في الانتخابات الرئاسية التي جرت في روسيا في شهر آذار/مارس الفائت.
وتأتي النتيجة التي حصل عليها أردوغان في انتخابات الأحد الماضي إثر تمرير مشروعه الدستوري السلطوي في العام الماضي بأغلبية لم تبلغ سوى 51.4 بالمئة، وهي محدودة جداً لإضفاء ما يكفي من القبول الشعبي طويل الأمد على مثل ذلك المشروع. ولو قارنّا النسبة التي حصل عليها الزعيم التركي في الانتخابات الرئاسية الأخيرة والنسبة المماثلة (51.8 بالمئة) التي حصل عليها في الانتخابات الرئاسية السابقة في عام 2014، لو قارنّاهما بالنسبة الأكثر ارتفاعاً بكثير التي حصل عليها سلفه عبدالله غول في الانتخابات الرئاسية لعام 2007 (فاقت آنذاك 80 بالمئة من المقترعين!)، لأدركنا مدى تراجع شعبية أردوغان. والحال أن حزبه بعد أن حصل في الانتخابات البرلمانية الثانية (الإعادة) لعام 2015 على نسبة 49.5 بالمئة من الأصوات، لم ينَل في الانتخابات البرلمانية التي جرت يوم الأحد الماضي بتزامن مع الرئاسية سوى نسبة 42.5 بالمئة، حسب الأرقام المتوفرة عند كتابة هذه الأسطر.
إن الديمقراطية السليمة هي التي تقوم على السعي وراء أوسع إجماع في المجتمع وليس على فرض مشيئة أكثرية ضئيلة على أقلية تناهز نصف الشعب. هذا النمط الأخير يسمّيه علم السياسة «استبداد الأغلبية»، وهو نمط يولّد توتّرات حادة تنذر بعواقب وخيمة. وهو عين ما يمارسه أردوغان، ومما يزيد في خطورة الأمر أن الزعيم التركي استعاد الأغلبية بعد فقدانها في الانتخابات النيابية الأولى لعام 2015 بواسطة حملة تهييج قومي، كان أحد أركانها عقد تحالف مع أقصى اليمين القومي التركي، وهو التحالف الذي حافظ أردوغان بواسطته على الأكثرية النيابية (التي لم يعد حزبه يتمتّع بها بمفرده). هكذا ينتسب أردوغان إلى ظاهرة صعود التعصّب القومي المرفق بالتوجّه السلطوي، أي الظاهرة عينها التي ينتمي إليها دونالد ترامب وعدد من زعماء أوروبا الشرقية، وبعض المشاركين في حكم إيطاليا والنمسا ودوترتي الفيليبّيني وناريندرا مودي الهندي. وهي أسوأ وأخطر موجة قومية يمينية عرفها التاريخ منذ مرحلة ما بين الحربين العالميتين التي شهدت صعود الحكمين الفاشستي في إيطاليا والنازي في ألمانيا وأمثالهما في دول أوروبية أخرى. ولا علاقة للدين بهذه الأمور.