الإنسان وروح التدين جدلية أم أفتراض مسبق؟.


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 5913 - 2018 / 6 / 24 - 00:58
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

الإنسان وروح التدين جدلية أم أفتراض مسبق؟.


هل قاد الإنسان وجوده العام والخاص لاكتشاف الدين أم أن العقل هو من أستدل على مفاهيم العقيدة والارتباط بعوالم خفية وغيبية صارت مع قوانين الوجود جسم الدين وشكله الخارجي ليعطي إيمانه بهذا الوجود المتبلور فكريا وحسيا روح التدين ,الحقيقة قد يكون كلاهما مسئول نسبيا عن حدوث ما جرى أو لنفترض أم العلاقة بين الوجود والعقل هي علاقة كاشف ومكشوف ولكن كلا حس دوره وواقعيته في الكشف , واقعيته بمعنى موقعه المتقدم في كل حالة على حدة .
وقد يكون إحساس الإنسان الأول قبل مرحلة أكتشاف الدين أو ممارسة ظاهرة التدين بوجود ظواهر تتعلق بعالم غير محسوس لكنه مؤثر وحقيقي علامته الغيب والخفاء ,ومع وجود التكيف التكويني للإنسان ذاته لمحاولة الكشف أو أختراق هذا العالم الذي يثير شكوكه أو حتى توجس شعوري منه علاقة ما بذلك الذي سيتحول لاحقا إلى ما يعرف اليوم بالدين أو التدين كنتيجة منطقية لوجود عقل ومشكلة واقع بحاجة لفهم وبحاجة لطرد القلق والخوف والريبة والشكوك .
ولكن من المؤكد هنا ووفقا لنظرية أن العقل طريق واحد بعدة أتجاهات مهمته ليس البحث فقط ,بل التدخل أحيانا في ما لا يعني وجوده المباشر ليصنع من الإنسان قائد للواقع ومسيطر على حركته , لذا نؤكد على أستحالة حدوث وبلورة فكرة الدين بعيدا عن العقل في النمذجة والتسويق فضلا عن الإيمان والتصور ,لولا وجود العقل المفكر المحلل الذي تعود على التفسير بعد السؤال والتعليل والفرز والخزن والاستحضار في كل مرة لم يكن هناك لا معرفة ولا وجود لنتاج علمي أو حتى ما يسمى بالتراتيب الدنية التي صنعها بوجوده العقلي .
لا ينكر أحد من دارسي علم اجتماع الإنسان ولا الباحثين في المعرفة العامة ولا من مختصي علم الأديان أن ارتباط الإنسان بالدين هو قديم قدم وجوده على الكوكب الأرضي , كما أن لا أحد منهم يستطيع أن يبرر كيف أكتشف الإنسان ضرورة الدين أو الإحساس به على وجه اليقين الذي لا يرتقي له شك خارج دلالة العقل الذي تحركه العوامل النفسية الحسية المستثيرة من مجهولية الواقع وشكه الدائم بوجود عالم أخر عالم خفي ,وخوفه أيضا من الأخر الثاني الشريك أو القرين من المزاحمة الطبيعية أو حتى من أحتمالية الفناء .
البعض من الدارسين وخاصة من الذين يؤمنون بنظرية قدم العالم وتقدم الدين على العقل حينما يشيرون أن أبو البشرية آدم خلقه الله هكذا وهو حامل رسالة الدين , هذا الآدم كان متدينا وقد ألهمه الله روح التدين من خلال ما يسمى بالعهد السابق للتكوين ,عهد ما قبل النفخ فهو متدين حينما لم يكن بعد قد عبر مرحلة الكن فيكون ,هذا الفهم اللاهوتي الديني يستعير الفكرة من مجمل ما وصله الإنسان لاحقا وليس مما يكون طبيعيا حسب المذهب العقلي , فلو لم يخبرنا النص الديني بالحكاية هذه كيف سيكون تصورنا لها .
الدين مجردا والدين الواقعي
الفكر الديني والذي يؤمن بأن الله الخالق البعيد المتخفي وراء الغيب العظيم هو من أوجد الدين طبيعيا وقبل ذلك زرعه في ذات الإنسان الأولى (بذرة التكوين ) ,وبالتالي فالدين جزء فطري وأصيل من وجود الإنسان ككائن مكيف ومبرمج على الإيمان به , لذلك من الصعب عليه أن يتصور عالما بلا أديان أو وجودا خارج مفاهيم الدين ,هذا الفهم ينطلق من نقطتين الأولى والأساسية أن هذا الفهم أو التصور مستمد أساسا من إيمان لاحق وليس من حقيقة تسبقه كما قلنا سابقا , فلو تجرد المتدين من إيمانه بالنقطة هذه لا يمكنه أن يبرر هذا الزعم لأن لا دليل ولا حجة تؤيد ما ذهب إليه ,إنه فقط يكرر مقولة ولدت من رحم الظاهرة ولا يزيد فيها ولا يناقش لماذا فعل الله هذا الأمر .
العقلي وأصحاب المدرسة المنطقية التجريبية يعزون ويفسرون ذلك على أن نشاط العقل في حالة تصادم مع الواقع يجنح أحيانا لإقناع ذاته بوجود قوى خفية غيبية تحرك الوجود من بعد غير محدود ولا يمكن قياسه أو تصوره , هذا التصادم له مردودات تتغلغل لذات الفرد فتثير فيه خشيه من مجهولية المجهول , وليس بالضرورة تتحول هذه الخشية لتقديس أو خوف ,بل أحيانا تتحول إلى ترقب وأنتظار وتتبع لسيرورة التحولات التي تدور في عالم وجوده العام والذاتي .
وقد تتحول هذه الإعتبارات إلى خوف ورهبة متعاظمة مع غياب التبريرات واليقين بقناعة خاصة إلى نوع من التصرف الإنزوائي (الأتقاء) ومن شدة خشيته منها وأحتسابا لما يمكن أن تسببه من تأثيرات سلبية على الإنسان قادته للإيمان بقدرة الغيب وقواه التي عبر عنها بفكرة الدين ,على أنها تفعل وستفعل ما لا يمكن توقعه أو تحمله إلا من خلال الإذعان لبعض الوسائل والممارسات التي يعتقد أنها ستخفف هذه العواقب وقد تصل به لمرحلة القرب من هذه القوى والهواجس .
الفلاسفة وبعض الماديين وإن لم ينكر الوجه الأخر من حقيقة الوجود لكنهم لا يربطونه بالمحتم كعلاقة مع الدين ,بل يعود في كل مرة إلى أن العقل في تعامله مع أشياء يصعب عليه أحيانا تفسيرها وتبريرها أو حتى تبرير وجودها ,ينسبها في كل مرة إلى عجزه هو في أن يفك أسرار أكبر من قدرته على اكتشافها , فينسبها لقوى عاقلة متحكمة ولكنها تفعل كل ذلك من خلال فكرة دفع الإنسان لأن يخضع ذاتيا للمجهول كحقيقة موجودة ولكنها غير محددة بأنتظار أن يمنحه الزمن المقدرة العلمية والوقت المناسب لاكتشاف حقيقة هذه القوى وكيفية عملها وتأثيرها على الإنسان .
كثيرون حاولوا الفصل بين الوجود الملموس والغيب على أنه أفتراض موضوعي وأختراع بشري خلقه الإنسان ليحيل له وجوه ناقصة من فكرته عن العالم وعن ذاته ,وكل ما في الموضوع أصلا هو حاجتنا كأفراد إلى إعادة التوازن بين العقل الذي يشكو إشكالية عدم فهم وقائع لنقص في قواعده وبين شكه أنه لن يصل لها لأنها أكبر من قدرته على ذلك , ومنهم من حاول أن ينكر وجود الغيب أصلا بتعبير أنه مجهول لا بد أن تصل له دلالات العلم وينكشف للعلم فيصبح ظاهرة معلومة له كما يظهر هذا الفهم زيف فكرة تعدد العوالم والوجود ما هو إلا قانون المادة والحركة ,وبالتالي فتوهم وجود عالم غيبي هو توهم غير واقعي مستند أساسه من قصور التجربة أو قصور في الوصف ,
إذن الغيب عند منكريه هو ما لا ندركه أما لنقص توصيفي أو لنقص في بيان حدود ما هو الوجود ذاته أو لأننا لا نملك بوجه تام معنى لحدود العالم المادي ذاته , وبالتالي يصل هذا الطرح النظري بمفهومه التجريدي إلى أن أنتساب الدين في جزء منه للغيب هو إصلاح خداع العقل لذاته ونظامه التشغيلي قبل أن يكون جزء من توهم في الواقع المحسوس .
العقل هو من خدعنا وليس الدين هو من قادنا للتفكير الغيبي وأصطناع عالم متعدد المراحل أو متغير في تفاصيله أستنادا للراهنية الزمنية التي يمر بها الإنسان , والدليل أن الفرد الأجتماعي الأول كان في حدود تدينه في الأقل الممكن به أن يدافع عن وجوده ويؤمن له إنشغالاته الحياتية بقليل من الممارسات التدينية التي توصل لها من الملاحظة والتجريب , ولكن عندما تعاظمت تجربة العقل مع الدين والتدين أنشأ نظاما معقدا من الأفتراضات والفرضيات والصور الذهنية والسلوكية حتى تحول مفهوم الدين والتدين إلى حيز كبير جدا في حياته وتحول إلى مؤسسة أجتماعية نافذة تقهره وتسيطر عليه .
هذه التحولات التي قادها العقل معتمدا على قبول فرض الأنا الذاتية الطبيعي وهي تحاول الحفاظ على قوتها من جهة وفرض المزيد منها على الخارج ,شكلت ما يمثل جريمة بحق الإنسان الفرد والإنسان المجتمع وهو يحصر نفسه في أسر ما أصطنع ويقيد وجوده بالمزيد من المفاهيم والنظريات دون أن يمنحها مزيدا من الحرية ليؤدي أصل وظيفته الكونية , فعانى من تعارض بين الحرية والتدين وبين التدين ومحاولة الفكاك من ربط الوجود الحياتي بعالم أخر , وبين التدين وضرورة البحث عن حلول أكثر جدية لمعالجة واقعه والبحث عن فكرة عابرة للخوف والقلق والترقب الدائم من وجود متخفي ونافذ .