تمدد الجذور _فصل من روايتي (النرجس والرمان).


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 5891 - 2018 / 6 / 2 - 18:41
المحور: الادب والفن     

تمدد الجذور


في أخر الشارع الذي تتفرع عنه دربونة أبو رمانة هناك بقايا بستان تمددت إليه الأبنية وصار في غالبه مجموعة من دور السكن أغلبهم الفقراء أو ممن لم يملك دار سكن سابقا, شقت البلدية شارعا عريضا يصل بين المنطقة وطريق لسائقي الشاحنات التي تنقل الحجر أو التي تحمل الزائرين من شرق كربلاء تخفيفا عن الزحام الذي أدرك وسط المدينة, من هذا البستان أشترى خضر كل الواجهة ليجعل منه جامعا كما أرادت العمة تركية, أصطحبها اليوم في ربل بحصانين لترى في نفسها المكان, كانت سعيدة جدا وطلبت أن تكون واجهة الجامع محلات تؤجر للناس ويكون ريعها لتنفق على تعمير الجامع وصيانته لاحقا.
علامات الحمل الجديد تتوالى على نرجس وعبد الله قارب من العمر عشرة أشهر وأبوه الآن منشغل بين الإعداد لبناء الجامع وبين المقهى ليعود مرهقا ليلا ليمارس لعبته الجديدة، التي لم يتذوقها من قبل تنسيه كل عمل اليوم ,عليه أن يلهوا ويلعب مع عبد الله دون هوادة حتى ينام أحدهم فيما تمضي العمة ونرجس ليلتهما في سرد الذكريات أو أداء الطقوس الدينية, مرت ليالي كثيرة تجتمعان على تذكر الزايره مريم لم تفارق بذكرياتها هذه الجدران، بل رسمت صورة لا يمكن أن تزيلها الأيام حتى لو زالت الجدران نفسها, أمنية نرجس الآن أن يكون حملها القادم مريم الصغيرة تستحي أن تطلب ذلك علنا حتى ثبت حملها تنتظر القابلة أن نقول يا نرجس (مريم) الصغيرة قادمة .
أم صالح التي سكنت دارها الجديدة في أول الدربونة لم تفارق بيت أبو رمانة حتى صالح عرف أن عبد الله ليس خصما منافسا له، أصبح يتودد له في كل حين يقضي أكثر اليوم وهو يداعبه, الفرح الذي يبرق من عين أم صالح لا يساويه تألقا إلا فرحة نرجس بقدوم مريم قريبا، أشتاقت لأيامها ولياليها لحنينها ومحنتها التي غمرتها بفيض لا يوصف، وكان ذهابا مرا ومرا فوق العادة, العمة تركية تشجعت وحاولت أن تجازف أكثر من مرة للمشي طويلا حتى أنها وصلت بالأمس إلى الصحن زارت وصلت فرحتها وهي تشعر أنها عادت مكتملة القدرة على الحركة, عادت قوية بإمكانها أن تتحرر من عجزها.
حجي عمر كما الجميع في كركوك سلموا أخيرا أن العمة تركية لا يمكن أن تغادر كربلاء حتى تنجز بناء الجامع, هذا ما أستقر عليه رأي الجميع هناك, تحولت الزيارات الأسبوعية في كل خميس وجمعة إلى منهج منتظم حتى تأكد للجميع أن أبو الياس الذي عرفوه سابقا ليس كما كان يجري به حديث النساء والرجال أنه ..... ,إنه الآن شخص أخر في كل شيء تفتحت له طاقية القدر, البعض يصر على ذلك بقوة والحقيقة أنه هو ذاته أبو الياس المعروف بشهامته وبساطته يملك خزين من الفرح والقدرة على أن يمنح يده للكل بدون عنوان وبلا حدود, المال لم يمنحه إلا مزيدا من سعة القلب مزيدا من الإيمان أن الله هو يجعل الأمور تسير هكذا.
أم صالح التي أتخذت من أبو عبدا الله سندا وأخا وأبا تكاد تشعر بالأمان لأول مرة وهي التي ما عرفت شيء منه من قبل, ما زال أمامها متسع من الوقت لتقطع الشك باليقين أن زوجها قد تخلى تماما عنها وعن ولدها, ما يهمها الآن ليس الرجل الذي يضلل عليها, إنها تتوق فقط كي يرى صالح أن له أبا حقيقيا ولا يتعلق أكثر برجل أحسن لهم وأوى, كلما مرت على السوق تتلمس أخبارا من هنا وهناك, لا عاد الرسول ولم يعد ممكنا أن تستسلم وعليها أن تسير بهذه الدنيا فأحيانا تكمن السعادة في محاولة أن نتقبل الأمور بروح راضية، المهم أننا لا نخسر أنفسنا إفراطا بالتعلق بأشياء قد تكون محض وهم.
شرع أبو الياس في صبيحة يوم الأحد بأعداد أرض الجامع كما أوصت العمة تركية لعلها كانت تؤمن أن الله جعل أول الأيام يوم أحد ليكون إيذانا بانطلاق الوجود من نقطة الصفر, ترك المقهى بيد العمال ونرجس تترقب الساعات والأيام تستبشر قدوم مريم وعبد الله نجم النجوم في البيت, العمة وحدها تملك الأمل أن تلتقي بجيل جديد من مريم ابنة عمها التي حرصت منذ أن كانتا صبيتان في بيت الحاج خضر أن تكون رفيقة عمرها، فهما بالعمر لا فرق بينهما إلا أقل من شهر نشأت تركية ومريم في حضن زوجة عمها حتى أنها كما تزعم العجائز قد رضعت مع مريم فصارتا أختين, حتى زواجها من عبد الله كان قرارا لها وسعت له منذ أن أحست أن نظرات عبد الله نحو مريم لا تخلو من أرتباط روحي .
فيما تقص تركية قصصها على نرجس تكون أم صالح أما قد ذهبت للسوق أو أنها تبعث بالغداء لعمال المقهى أو عمال البناء في أرض الجامع, اليوم تأخرت عن العودة كما المعتاد بعدما عادت من المقهى حملت الأكل للعمال وأبو عبد الله معهم, الأمر لا يستحق كل هذه المدة نادت على أولاد الجيران لعلها عادت إلى بيتها أو أنها مشغولة بشيء أخر, مرت أكثر من ساعة وأم صالح غائبة عن المشهد لم تفعلها من قبل ولا تظن أم عبد الله أن الأمر يخلو من حيرة, ذهب أبن الجيران لأرض الجامع القريب ليسأل عاد ومعه أبو عبد الله .
أحيانا يكون التمسك بالخيط الرفيع والرفيع جدا سببا في سعادتنا وعدم التمسك إهدار لفرصة قد تأت دون أن نعلم بمرورها, هذا الكلام هو خلاصة ما نطق به أبو عبدا الله من سؤال زوجته وعمته عن غياب أم صالح, في أبتسامة رضا وارتياح وفرح لم تفهم السيدات ماذا يقول ولم يدركا أن وراء هذا الكلام الشيء الذي لا يصدق, يا رجل نحن نسأل عن أم صالح لعلها في أمر محير ذهبت منذ ساعتين ولم تعود وكل وقتها اللازم لا يتجاوز نصف الساعة, الضحكة القوية التي بددت خوف السيدتان صاحبها علامات تعجب بعد أن أخبرهما أن أم صالح اليوم عروس .
صاحت العمة تركية أكيد أبو صالح ظهر وبان ليس هناك مكان لعريس في قلبها المتعب, لا بد أنه هو ولا أظن أحد أخر....
_لكن كيف يا عمتي ؟.
_عمتي جاءت ومعها الأكل بدأت توزع الصحون على العمال, كان هناك عامل تأخر حتى ينهي ما بيده من عمل,هو الأخير الذي انتظرته وهي ضجرة، قامت لتودعنا وإذا به قادم لم يصدق ما رأته عينه زوجته حسنه أمامه, خرت مغشيا عليها والعمال لا يعرفوا كيف يتصرفوا .
_وهو ؟.
_كان هو الأخر كالأهبل لا يعرف ماذا يريد أيشرح للناس أنها زوجته لا أكثر أو أن يبادر لمساعدتها .
_ وماذا فعل بعدها؟.
_كنت خائفا أن يكون هناك أمر أخطر, تدخلت فورا ونهرت بالرجل محاولا أن أبعده عنها, فرد علي متلعثما يا عمي أنها زوجتي أم صالح كنت أبحث عنها منذ شهور .
_ وكيف عرفت أنه صادقا في ادعائه ؟.
_سكبنا الماء على وجهها وناديت عليها ففتحت عينها كأنما تسألني هل أنها بحلم، أم مجرد توهم قادها لذلك, أخبرتها أن هذا الرجل صحيح هو زوجها, أومأت بعينها نعم .
_والآن أين هي المسكينة ؟.
_لقد منحته أجر اليوم كاملا وأعطيته أستراحة كي يذهب معها حيث يسكن ليأت بأغراضه بعدما أستشارتني أن أرشدها للعمل الصحيح والواجب.
_فعلت كل الخير يا كبير هو والله هذا العمل الواجب والصحيح .
بعد أن شعرت العمة تركية ونرجس بالاطمئنان عليها خرج أبو عبد الله ليلتحق بشغله مرورا بالمقهى ثم يعود لأرض الجامع وعند الباب أصطدمت به أم صالح وهي تدخل كالمجنونة على البيت، قابلها أبو عبد الله بضحكة قوية وناداها لجنب ثم دس بيدها مبلغ من المال بعد همسه في أذنها، رفعت أكفها للسماء شاكرة وهي في قمة السعادة المشوبة بالخجل .
صالح لا يفهم ما يجري ولكنه سعيد بأمه ويراها مرة تعانق نرجس وأخرى تقبل يد العمة تركية التي تأخذها بالأحضان لينقلب المشهد بعد دقيقة إلى دموع ثم بكاء, قد يكون البكاء على الغربة على الفقدان على لحظة فاصلة يشعر فيها الإنسان أنه أمام تحولات لا يد له فيها، لا يد له في تغيير المقادير, في لحظات يختلط الفرح بالحزن بالأمل أن لا تتكرر المرارة بخيبة أخرى, كفكفت نرجس دموع حسنه ومازحتها بسؤال عن بذلة العرس وعن الماكياج وعن الليالي الملاح القادمات, خجلت ووضعت رأسها ببين ركبتيها ,صاحت بها العمة قومي يا سعيدة الحظ تهيئي لزوجك بعد غياب .
عصرا عادت حسنة ومعها الحفافة وكأنها ليست تلك السيدة التي كانت في الصباح كأنها شبح امرأة تعمل وكأن ما يدفعها للعمل هو الانتقام من قوتها أو المسارعة في استهلاك طاقتها الذاتية, الاحمرار يبدو هو الغالب على وجنتيها أهي حمرة الخجل أم حمرة الفرح, سألتها نرجس عن زوجها قالت أغتسل وأعطيته ملابس جديدة وأوصلته لمقهى العم أبو عبد الله وطلبت أن لا يعود إلا معه بعد أن تغلق المقهى أبوابها, دخلت السيدات الثلاث في غرفة أم عبد الله لتبدأ حفلة التجميل والتزويق, حتى نرجس تشعر أنها وبسبب الحمل أبتعدت شيئا ما عن زوجها الرومانسي الذي أبعدته كثرة المشاغل عنها وعن لياليها الملاح أيضا .
خضر يفكر بجد في أن يجد شخص قريب منه ويمكن الوثوق به لمساعدته على انجاز الكثير من الأمور وأهمها قطعا بناء الجامع وإدارة العمال هناك, ليس أفضل من أبو صالح ممكن أن تسند له المهمة فهو شاب قوي ونشيط والظاهر من نصف يوم عمل أظهر حرصه, غير أن أرتباط أم صالح وأمانتها مع عائلته تشفع له أن يكون هو الخيار, هكذا تكلم معه وبكل وضوح قال له أنا بمثابة عمك وأرجو أن تكون على قدر ما أعطاك الله هل أنت على استعداد أن تكون كما أردت لك...
_بكل الممنونية ويكفيني جميلا أنكم حافظتم على ابني وزوجتي من الضياع لو قدر لي أن أمنحك عمري فأنا غير نادم .
_عمرك لك ولأبنك والمهم أن تتمسك بشيئين هما عماد حياتك عائلتك وعملك، والباقي يمنحك الله كل ما تريد فقط عليك أن تبني كل خطواتك القادمة على صفحة بيضاء, لا تجعل للطمع طريق ولا للهروب من المسئولية .
_سأكون عهدا لا يقبل الفكاك .
_إذا علينا الذهاب هناك من ينتظر على جمر الشوق .
عاد الاثنان لدار أبو عبد الله باكرا بانتظارهم كانت نساء حميمات ومائدة عامرة تجمع المتفرقين على بداية جديدة, فيما أتفقت العمة تركية وأم عبد الله وحسنة على أن يبقى موضوع البيت الصغير سرا لا يباح به لأبو صالح حتى تتثبت من نواياه وقدرته على بناء أسرة, أخبرهم خضر أنه ومنذ الغد سيكون أبو صالح هو المشرف على العمال في بناء الجامع وأن زوجته لا يسمح لها بعد الآن الخروج من الدار، لأن كل المهام ستكون في عهدة الفارس الجديد وأن معاشه بعد قطع إيجار البيت يسلم له في أخر الشهر, مضى الجميع ليلة قصيرة ودعت أم صالح فيها أخر ليالي الحسرة والضياع بأنتظار الفجر الجديد