شروط الثورة الديمقراطية بين ماركس وبن خلدون


رابح لونيسي
الحوار المتمدن - العدد: 5888 - 2018 / 5 / 30 - 23:29
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     



يعد بن خلدون أبرز من درس المجتمع المغاربي، وأوضح دور العصبيات فيه، خاصة أثناء بدايات إنحطاط الحضارة الإسلامية في عهده، وكأنه في كتابه "المقدمة" يدعو بشكل غير مباشر إلى قطيعة مع ممارسات يراها معرقلة لإستمرار هذه الحضارة، خاصة في المنطقة المغاربية، لكن لم يهتم المسلمون بإنتاج ابن خلدون، ولم يسمعو به إلا بعد أن أكتشفه المستشرق الفرنسي دوسلان في القرن19م، وتجاهله معاصروه لأنه خرج عن مألوف المجتمع الغارق في تخلفه وإنحطاطه آنذاك، والذي يسيطر عليه خطاب العصبيات وفكر ديني خرافي بعد دخول الحضارة الإسلامية عصر الإنحطاط، فكان بن خلدون حالة شاذة بتفسيراته العلمية للظواهر الإجتماعية بدل التفسيرات الدينية والميتافيزيقية السائدة، ولم يكن يجتر الكتب الصفراء التي لازالت طاغية إلى حد الساعة على مجتمعاتنا.
فقد تحدث بن خلدون بإسهاب عن العصبيات وإستغلال السياسوي للدين في عصره، ومايؤسف له أن مجتمعاتنا لازالت تعيش نفس الوضع إلى اليوم، وتكرر نفس ظاهرة العصبيات وإستغلال الدين في الصراعات السياسية، مما أدخلنا في اللاإستقرار المعرقل لتراكم البناء والتنمية، ونجد إستمرار نفس ظاهرة تجاهل مجتمعاتنا للأفكار البناءة والجادة، كما تجاهلت أفكار بن خلدون، ويسود مجتمعاتنا اليوم الخطاب المغلف بالخرافة والتأويل الإنحطاطي للدين، إضافة إلى الخطاب الداعي للعصبيات القبلية والطائفية ولمختلف الكراهيات، ومايؤسف له أنه خطاب مدعوم بوسائل إعلام تسعى لإرضاء مختلف العصبيات السائد بقوة في المجتمع مقابل مال محدود، وذلك كله على حساب دورها التنويري للمجتمع والحفاظ على تماسكه ووحدته.
فلا زلنا مجتمعات متخلفة تعيش نفس العصر الخلدوني، فالناشر للخرافات والعصبيات والكراهيات الدينية والطائفية والقبلية والعرقية هو المسموع، لأنه مجرد صورة معبرة عن مجتمع غارق في تخلفه وإنحطاطه وعصبياته وكراهياته وعنصرياته.
ما يؤسف له أن هؤلاء المثيقفين والسياسويين الذين نسميهم ب"مثقفي وسياسويي العصبيات" لايمتلكون حلولا لمشاكل مجتمعاتهم، وتدور أغلب كتاباتهم حول هذه العصبيات، إن مثقفي وسياسويي العصبيات لايمتلكون حلولا عملية للمشاكل الإقتصادية والإجتماعية وغيرها التي تعاني منها مجتمعاتنا، ويعود ذلك إلى ضعفهم الفكري الكبير جدا، فيلجأون إلى خطاب العصبيات ودغدغة العواطف لإكتساب الأنصار، والمتمثلة في العصبيات الدينية والطائفية والقبلية والجهوية واللسانية وغيرها التي بقيت سائدة عندنا منذ العصر الخلدوني إلى اليوم، فهؤلاء بخطابهم وممارساتهم لاينقلونا إلى عالم جديد متقدم، بل سيكرسون أكثر إستمرارية هذا العصر الخلدوني الذي سماه بن نبي ب"عصر ما بعد الموحدين"، أي بدايات إنحطاط الحضارة الإسلامية، والتي لازالت مستمرة إلى حد اليوم رغم كل المحاولات التي تقوم بها أقلية من المثقفين والسياسيين للخروج منها، لكنهم للأسف محاصرين من "مثقفي وسياسويي العصبيات" الذين يحرضون ضدهم بتشويههم بأساليب لاأخلاقية والكذب عنهم ونعتهم بنعوت شتى والتلاعب بالعواطف وإستغلال الدين والعصبيات الموجودة بقوة في مجتمعاتنا المتخلفة للأسف الشديد.
لقد أبرزت لنا الأحداث الأخيرة في منطقتنا وإنعكاسات ما يسمى ب"الربيع العربي" بأن كل تغيير أو إسقاط للأنظمة القائمة لا يكون إلا تمهيد طريق لمثقفي وسياسويي العصبيات بتنظيماتهم، فيزرعون الفوضى بعصبياتهم الطائفية والدينية واللسانية، وإن أخذو السلطة، كرسوا الإستبداد بشكل أنكى لأنه مغلف بالدين والتعصب للطائفة أو اللسان أو "وهم عرقي"، كما سيكرسون أكثر التخلف، لأنهم إستمرارية لعصر الإنحطاط وعصبياته وأفكاره المتخلفة، ولا يمكن لنا التقدم إلا بالقطيعة التامة مع هذا الإنحطاط الذي بدأت ملامحه الأولى في عصر بن خلدون.
يطرح علينا هذا الوضع سؤالا جوهريا يحتاج إلى نقاش عميق بين القوى الحية في منطقتنا، وهو مالعمل أمام هذه الحالة؟، خاصة أن عناصر من الأنظمة تدعم هذا الصنف من مثقفي وسياسويي العصبيات كي تشوه بهم مثقفي التنوير والقوى الوطنية الديمقراطية التي تعتبر هي قوى التقدم والتغيير الحقيقية، لكنها ضعيفة أمام مجتمع يسوده خطاب العصبيات، ولازال لم يخرج بعد من العصر الخلدوني، والتي تعد القطيعة معه شرط ضروري لأي تغيير إيجابي بدل البقاء في الدائرة المغلقة والإنتقال من السيء إلى الأسوء.
نعتقد أنه من الأوهام الحديث فقط عن الديمقراطية والحداثة في مجتمع تسيطر عليه العصبيات الدينية والطائفية واللسانية والقبلية، فهذه الأفكار كي تنتشر في المجتمع نظريا وتطبيقيا وقولا وفعلا يجب مرافقتها بتغيير قوى الإنتاج والبنية التحتية للمجتمع التي بدورها ستؤثر على البنية الفوقية للمجتمع، ومنها إنتشار أفكار الديمقراطية والحداثة وغيرها، فإن لم نقم بذلك، ونضع الشروط المادية لإنتشار الأفكار الديمقراطية والحداثة، فإن كل دعواتنا ونداءاتنا تتبخر في الفضاء، ومن يقم بذلك دون السعي لتوفير شروطها المادية المتمثلة في الثورتين الصناعية والعلمية اللتان ستغيران ذهنية وثقافة المجتمع فهو كأنه يحرث في البحر، وننطلق في ذلك من نظرية كارل ماركس القائلة بأن تغيير البنية التحتية المتمثلة في قوى الإنتاج هي التي ستؤدي حتما إلى تغيير البنية الفوقية المتمثلة في الثقافة والذهنيات والأفكار وحتى شكل الدولة، فلنع بأن شعوبنا غير مستعدة لإعتناق أفكار الديمقراطية والحداثة ويجسدها عمليا في كل ممارساته، لأنه لم يعرف أو يمر بما أسميناه رأسمالية صناعية وطنية تدور حول الذات وتكون في خدمة إقتصادنا الوطني بدل الرأسمالية التابعة التي يسطر عليها المستوردون الكبار والمرتبطة بالإقتصاديات الغربية وفي خدمتها، كما يشترط علينا أيضا القيام بثورة علمية كما عرفتها أوروبا القرنين 18و19م، فإن لم نقم بذلك ونربط نضالاتنا الديمقراطية بثلاث مطالب أساسية وشروط أساسية يجب علينا السعي لإفتكاكها وهي: ثورة صناعية وثورة علمية وتعليمية، فلتتذكر القوى الديمقراطية في الجزائر مثلا كيف أختطف الفيس المنحل كل نضالاتهم منذ1962، وكيف أنتهت أحداث أكتوبر1988 إلى بروز قوى معادية للديمقراطية ومتجذرة بقوة في المجتمع، وكاد هؤلاء القضاء على الدولة الوطنية برمتها؟.
وعلى هذا الأساس نطرح مشروعنا التكتيكي، الذي سيحقق الهدف الإستراتيجي المتمثل في الدولة الديمقراطية والإجتماعية، ويستند على العمل في إطار المؤسسات المتوفرة لدينا اليوم وإستغلالها للدفع بواسطة المتاح أمامنا مثل القوانين والآليات بهدف قيام ثورة صناعية وعلمية في منطقتنا الذي هو الشرط الضرروي لدخول عالم الحداثة وإنتشار أفكار الحريات والديمقراطية وغيرها.
إن طرحنا ومانراه مشروعا لنهظة المنطقة في حدود المسموح به اليوم، وبهدف وضع الشروط المادية لثورة صناعية وعلمية في بلادنا وبإستغلال كل المؤسسات والمساحات المتاحة أمامنا اليوم، ولهذا يتطلب منا الضغط والعمل بالتعاون مع كل الخيرين من أجل إستصدار وإفتكاك القوانين والقرارات لمحاربة الفقر والبطالة والتخلف، ومن هذه القوانين التي يجب العمل من أجل إستصدارها قانون وآليات تدفع أصحاب الأموال للإستثمار في القطاعات المنتجة لخلق الثروة ومناصب الشغل بدل الإستيراد-إستيراد الذي يحطم يوميا المؤسسات والإقتصاد الوطني، وبذلك نحول الجزائر إلى ورشة صناعية كبيرة تحررنا من التبعية للريع النفطي وللرأسمالية العالمية، ونستلهم ذلك من الآليات والقوانين التي اعتمدتها الصين الشعبية بعد الإصلاحات الإقتصادية التي وقعت فيها بعد وفاة ماوتسي تونغ، والتي كانت وراء تحول الصين اليوم إلى قوة إقتصادية عالمية، وطبعا سنعمل من أجل تحيينها مع ظروف المنطقة، وكذلك الضغط والعمل من من أجل إستصدار وإفتكاك قانون للخروج من التخلف، ويخص البحث العلمي حيث يجب وضع قانون وآليات يعيد النظر في أساليب الترقية الإجتماعية، وذلك بإعطاء الإمتيازات لكل مخترع في المجال العلمي والتكنولوجي يخدم به بلده، وبهذا الشكل سيلد الطفل وهمه هو أن يصبح مخترعا في مجالات العلوم والتكنولوجيا بدل السعي إلى المناصب السياسية أو التجارة، كما سيضم هذا القانون والآليات جلب الباحثين العلميين العالميين إلى المنطقة، فتتحول بلادنا إلى قبلة للعلماء والباحثين .
ان تحقيق وإفتكاك هذه القوانين اليوم ستصطدم بمصالح سياسويين إنتهازيين ومال فاسد الذين يجب على كل مواطن أن يعمل وينتظم لقطع الطريق عليهم جميعا كي لايواصلوا إستيلائهم التدريجي على كل دواليب الدولة ، ويدفعوا ببلداننا إلى ما لايحمد عقباها، فتحقيق الشروط الآنفة الذكر في نظرنا سيقوي الدولة، ويطور قوى الإنتاج التي بدورها ستغير ذهنيات المجتمع وممارساته، وتحدث قطيعة مع كل عصبيات العصر الخلدوني التي تعرقل قيام مجتمع حداثي وديمقراطي في بلدان منطقتي شمال افريقية والشرق الأوسط.