دولة مستوحاة من تنظيم الكون وتوازنه


رابح لونيسي
الحوار المتمدن - العدد: 5882 - 2018 / 5 / 24 - 00:24
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

لو نتتبع أغلب الإختراعات التكنولوجية نجدها مستوحاة من الطبيعة والكون مثل آلة التصوير مثلا المستوحاة من عمل عين الإنسان، فماذا لو فكر الإنسان في الإستلهام من الكون لتنظيم مؤسسات الدولة التي تحتاج إلى توازنات دقيقة جدا، كي لايختل التوازن بداخلها، وتحفظ حقوق وواجبات كل مواطنيها بتوازن دقيق، ويعد الفرنسي مونتيسكيو أول من فكر في هذه التوازنات بين السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية، ومنها تم إستلهام الكثير من دساتير وتنظيمات الدول الديمقراطية في الغرب، وتعد التوازنات في النظام السياسي الأمريكي دقيقة جدا على عكس دول عديدة، ويعود ذلك إلى ظروف نشأة كل دولة، ففرنسا مثلا تطورتنظيم الدولة تدريجيا، وتحسنت هذه التوازنات حسب الظروف والتغيرات الإجتماعية، وعرفت نقلة نوعية مع الثورة الفرنسية التي أستلهمت من أفكار التنويريين كمونتيسكيو في الفصل بين السلطات وجان جاك روسو بفكرته "سيادة الأمة" بتشكيل مجلس تشريعي منتخب وممثل للأمة، أما انجلترا فقد طورت أفكار الماجنا كارتا بالتدريج أيضا حتى أصبحت اليوم من أفضل الديمقراطيات في العالم.
لكن عرفت أمريكا هذه التوازنات منذ تأسيها ولازال دستورها الذي صيغ في 1787 المفعول إلى اليوم بإستثناء بضعة تعديلات أدخلت عليه، فقد وضعت هذه المؤسسات وفق الدستور الأمريكي في 1787 الذي صيغ في إجتماع لممثلي الدول الأمريكية الثلاثة عشر بعد التي أستقلت م عن بريطانيا في 1783، ثم فكرت في إقامة الوحدة الأمريكية فيما سيسمى فيما بعد ب"الولايات المتحدة ألأمريكية"، فلنلاحظ أن في هذا الإجتماع لم تكن رغبات تسلطية لدى البعض، بل فكروا في نظام مثالي يخدم الأمريكيين، وهو على عكس مايحدث في حالة إستيلاء مجموعة على السلطة في الدولة، فتضع الدساتير والقوانين وتنظيم المؤسسات حسب رغبات هذه المجموعة أو الفرد، فمثلا الجمهورية الإسلامية في إيران التي أستلهمت نظامها في عمومه من النموذج الأمريكي، لكن رغبة رجال الدين في التسلطن مزجت تلك المؤسسات بفكرة ولاية الفقيه التي وضعها الخميني قائد الثورة، فلهذا فقد هذا النظام كل التوازنات بإعطاء رجال الدين سلطات واسعة جدا رغم أن النظام في مؤسساته يشبه النظام الأمريكي، ونجد نفس الأمر في عدة دول، خاصة العالم الثالث، فنظريا أنظمة منطقتنا المغاربية مثلا تشبه كثيرا النظام السياسي الفرنسي نتيجة تأثر نخبنا السياسية بالفكر السياسي الفرنسي، لكن رغم ذلك لانجد فيها أي توازنات، لأن إما فرد أو حزب أو جيش أستولى على السلطة بعد ثورة أو حركة تحرير ضد المستعمر، فعند بناء النظام السياسي لهذه الدول تم الأخذ بعين الإعتبار مصالح المجموعة أو الحزب أو الجيش الذي استولى على السلطة، فبناء على كل هذه التجارب، فإنه لايمكن لنا أن نقيم تنظيم دولة بمؤسسات متوازنة في دولنا إلا بالطريقة الأمريكية في 1787 أو في إطار إما مجلس تأسيسي أو دستور توافقي بين كل أطراف وأطياف الأمة المختلفة والتفكير في المصلحة العليا بدل المصلحة الخاصة، كما يجب أن يدرك الجميع أن ذلك في خدمة مصالح الجميع بما فيه الطرف الأقوى تحسبا لإنقلاب الموازين ضده مستقبلا.
ظهر اليوم نوعا من التذمر في كل الديمقراطيات بما فيها الأمريكية بسبب سيطرة المال على صناعة القرار، ونفس الأمر في الديمقراطيات العريقة الأخرى، ولهذا أنخفضت نسب المشاركة في الإنتخابات، لأن المواطنين لايرون أي تغيير سواء بالإنتخاب على هذا أو ذاك، وكأن لا دور للناخب في وضع السياسات، ويبدو أن الخلل تم عند تطبيق مبدأ جان جاك روسو "سيادة الأمة" الذي يجب التفكير في إعادة النظر فيه اليوم، فقد تجسدت سيادة الأمة من خلال ممثليها المنتخبين في الهيئة التشريعية التي تسن القوانين التي هي العامل المؤثر في أي مجتمع كان، لكن طريقة إنتخاب هؤلاء الممثلين أقصى عدة شرائح إجتماعية من التمثيل، فيمكن مثلا أن لانجد من يمثل البطالين أو الفلاحين أو أي شريحة كانت، كما يمكن أن تسيطر شرائح معينة على الهيئة التشريعية، فتخدم مصالحها من خلال سن القوانين على حساب الشرائح الإجتماعية والمهنية التي لاتمتلك أي تمثيل فيها، ولهذا ضرورة تبني أسلوب إنتخابي آخر مبني على أساس الشرائح الإجتماعية والمهنية التي ستصبح هي الدوائر الإنتخابية بدل الولايات أو المقاطعات، مما يضمن تمثيل لكل شرائح المجتمع في هذه الهيئة التشريعية، فيضمن من خلاله فعلا سيادة الأمة التي قال بها روسو، لكن يجب أن ترتبط مصالح ممثل أي شريحة أو فئة إجتماعية بالشريحة التي يمثلها، لكن لضمان تمثيل فعلي يمنع نهائيا الإمتيازات التي يحققها هؤلاء النواب أو الممثلين من خلال عضويتهم في المجلس ويحاسبون عن كل ماكسبوه من خلال ذلك، والهدف هو كي لا ينفصلوا عن شريحتهم الإجتماعية والمهنية، ويدافعون عنها لأن دفاعه عن مصالح شريحته هو أيضا دفاع عن مصالحه هو.
كما يعد المجتمع المدني والأحزاب السياسية ومختلف التظيمات عامل رئيسي في حفظ التوازنات داخل الدولة، فالألماني هيغل أول من استعمل مصطلح المجتمع المدني في القرن 19م، فبعد تحليله الدقيق للنقابات المهنية والقوى السياسية والمجتمعات المحلية التي كانت سائدة آنذاك في المجتمع الألماني، توصل إلى القول بأن الجمعيات “ضرورة بشرية لا غنى عنها، وبدونها يتحول الناس إلى مجرد جمهور لا تأثير له”، وذهب إلى حد وضعه انتماء الفرد إلى جمعية من الجمعيات كشرط ضروري لاكتساب صفة المواطنة، لأن بقاء الفرد لوحده دون الالتحاق بأي جمعية أو تنظيم هو الذي سيسهل على السلطة قمعه وامتصاصه، فيضعف المجتمع أمام السلطة، فيختل التوازن داخل الدولة بين الطرفين.
إن المجتمع المدني والأحزاب السياسية هي وسيلة للحفاظ على التوازن في الدولة بين السلطة والمجتمع الذي يجب أن يتهيكل في مختلف الجمعيات والأحزاب، مما يمنع ويحد السلطة أو أي حزب وصل إليها عن طريق الانتخابات من استعمال أجهزة الدولة ضد المجتمع ومصالحه.
إن إضعاف المجتمع المدني والأحزاب السياسية هو إضعاف للدولة، لأن ذلك سيسمح للسلطة بالتخلي عن خدمتها للمجتمع والأمة، فينخر جسم الدولة بسبب انعدام كابح سلمي للسلطة، فتتمادى في الطغيان الموجود طبيعيا في كل سلطة، فيؤدي ذلك إلى رد فعل فوضوي من المواطنين ضد طغيانها، فتقع الدولة في فوضى وعدم الاستقرار وحتى إشعال حرب أهلية يمكن أن تكون سببا في زوالها، فقوة الدولة نابع من قوة أحزابها السياسية ومجتمعها المدني، وأن أكبر خطر يهدد الدولة هو سعي السلطة لإضعافها أو تحويلها إلى أدوات في يدها أو إحتوائها.
إن المهمة الرئيسية للمجتمع المدني في الديمقراطيات الغربية هو الحد من طغيان السلطة ومنعها من استخدام أجهزة الدولة ضد المجتمع، فإنه بإمكاننا إضافة وظيفة أخرى له، وتتمثل في مراقبة وفضح كل من لا يقوم بواجباته المهنية والوطنية كما يجب، فمثلا لو كنا نملك جمعيات قوية ضد الرشوة هل يتشجع أي كان أن يمد يده إلى المال العام بشكل أو بآخر؟ وقس ذلك على كل نشاطات الدولة والأمة.
نعتقد أنه يمكن لمختلف الجمعيات أن تلعب دورا مهما في دفع كل مواطن مهما كان موقعه على القيام بعمله على أحسن وجه خوفا من رقابتها عليه، خاصة إذا امتلكت الحق في رفع دعوى قضائية أمام القضاء المستقل ضد أي متهاون في واجباته، وذلك بوصفها تدافع عن مصلحة المجتمع، لكن هذا الأمر يتطلب تنظيما قانونيا فعالا ودقيقا يحفظ التوازن والمصالح، فبهذا الشكل يدفع كل طرف في المجتمع الطرف الآخر إلى إتقان العمل واحترام القانون وخدمة الدولة والمجتمع بصفة مثلى، فتتطور الدولة والمجتمع بفعل تراكم الإنجازات مهما كانت بسيطة، ويشبه هذا التنظيم للدولة النظام الكوني أين نجد كل عنصر من عناصره تجذب بعضها بعضا بتوازن عجيب ودقيق، مما يحفظ سلامة الكون وعدم اختلاله.