هيومان ترافيكينغ-العلاج النفسي الأدبي27-


لمى محمد
الحوار المتمدن - العدد: 5878 - 2018 / 5 / 20 - 18:55
المحور: الادب والفن     

الموت ينادينا.. اسمعوه!

في عام 1795 قام د.فيليب بينيل و الذي يعد واحداً من أهم مؤسسي الطب النفسي الحديث بفكّ السلاسل التي تقيد حركة المرضى النفسيين...
" فيليب" هذا كان طبيباً إنساناً.. سبق عصره في زمن غابر.. حينها كان المرض النفسي يلتصق بالجنون.

بعد أكثر من مئتي عام.. قيّدت السلاسل المختلفين برمتهم.. و ليس فقط المريض النفسي و أضحت السجون أكثر من المدارس.. و التعصب لغة العصر..
فيما يعيش المجانين الحقيقيون بيننا و يدَّعُون الإنسانية!

يعد الإتجار بالبشر (human trafficking) ثالث الجرائم العالمية انتشاراً.. و في التعريفات العالمية يحتسب “ الزواج الإجباري” (Forced marriage) من غير موافقة العروس-غالباً و العريس نادراً- أو بموافقتها الشكلية نوعاً من أنواع هذه التجارة!
بعد الحرب في سوريا و العراق استفحلت ظاهرة الإتجار بالبشر، و أصبح من واجب الطب النفسي أن يتصدى لها، و يحاربها.
الزواج بالإكراه هو زنى مشرَّع بورقة .. الزاني فيه هو أولاً هو الذكر(الأب/الأخ) الذي يجبر المرأة عليه، ثم الزوج الذي يقبل على نفسه ذلك.

الإتجار بالبشر يحدث أيضاً بشكل يومي عندما يعادي بشري ما أخوته في الإنسانية بسبب صنم ما…
**********

1- ترافيكينغ أول:
حفرت صورتها في ذهني تمثالاً صلباً من الحزن، شمخَ في زاوية دماغي الأولى بعد التلفيف الكبير.. و امتد يرسل حكايا موت صغيرة ينقلها حصان ذاكرتي إلى أحلامي..

في السادسة عشرة من العمر، نحيلة و شاحبة.. تعاني من سكتة دماغية، أودت بنصف جسمها الأيمن، و تركتها مع رتّة في الكلام و حبسة في الأحاسيس...
لم يكن سبب السكتة عيباً خلقياً ما و لا كان مخدرات أو ضربة على الرأس..
بل حالة اغتصاب من زوجها تعرضت لها هذي الطفلة من عدة أيام و تسببت في نقص الأكسجة الدماغية مما أدى لأذية الخلايا الدماغية "anoxic brain injury".

كانت القصة الكبيرة لتلك الصغيرة التي ما عادت صغيرة.. موتاً ينادي:
أيها المشوّهون.. يا عبيد الجنس بالحلال أو بالحرام.. أنتم من أسباب البلاء.. أنتم من أخرجنا من أرضنا و أخرج شبابنا من الدين إلى كلام الخبلاء.
**********

2- ترافيكينغ ثانٍ:
يضع القِرَدَةُ الأقنعة ليكسبوا شبكة دعم اجتماعي في الغربة.. زلات لسانهم و فلتات وجوههم تكشف الحقيقة و قلة الأصل مع ضحالة الثقافة.

في الثلاثينيات من عمره.. بنظارة و قناع.. يحاول جاهداً الاستناد على حجر الغربة.. لم يجد من إنجازات ملكه سوى أن الأردن فتحت أبوابها للسوريين..

و يا ليته قالها هكذا، بل تغيرت ألوانه و علا جعيره ردّاً على سؤال إنسان عاش في سوريا:

-ما إنجازات الملك في الأردن؟
-هل تعرف لو لم يفتح الملك حدوده للبلدان المجاورة ما كان سيحدث بهم؟
-هذه إنجازات أم واجب؟ أتقصد أنه يعلم ما يحدث في الزعتريّ؟
-هل سألت يوماً عمّا يحدث في سوريا/يأكل السوريون بعضهم/...
-إنجاز عظيم!

إن شعار " الله، الوطن، الملك" الوطني الأردني اختلط على كثير من المغتربين، فأضحوا يعتبرون الملك مكان الوطن أو حتى الله!
و ليس هذا و فقط اعتبر قسم من الجهلة أن الأردن فتحت حدودها إنجازاً.. معتبرين أن العلم الاسرائيلي الذي يرفرف فوق أرض الأردن و يضمن سلامة الكراسي فيها غير قابل للنقاش.

نكس هذا البوق بجهل و هيوجيّة علم الأردن، عندما لم يتذكر طيبة الشعب الأردني، أخلاقه، حسن ضيافته.. قابليته لتقبل الآخر.. حبه لجذوره..
نسي هذا البوق أن الشعار الوطني يعني:

أولاً أن تتقي الله و تتذكر آلاف (السكتات الدماغية) في مخيم الزعتري مثلاً..
و أن تعرف كيف تنتمي إلى الإنسانية بدلاً عن قبائل الصحراء المتعصبة لخيمها.

ثانياً أن تدافع عن وطنك.. و إن كان لابدّ لقلبك من حدود سخيفة، فلتقرأ تاريخ " سوريا الكبرى"، فتعلم أنك سوريّ بالتاريخ و بالجغرافيا قبل أن تكون أردنياً!

أما ثالثاً و أخيراً أن تحترم ملكك..
احترامك للملك لا يعني أن تحوّله إلى صنم، بل أن تتقبل بشريته و تتعلم منه فن (الديبلوماسية) وتقبل الاختلاف...

لو كنت على قدر بعبعتك لما غادرت بلاداً تحتاجك..و لو كانت أناك معافاة من عقد الذنب لما نكست علَمَكَ و عِلمَكَ بغباء!
*********

3- ترافيكينغ ثالث:

كنتُ في نيويورك للمشاركة و التقديم في واحد من أكبر و أهم مؤتمرات الطب النفسي في العالم. 
كما في كل مدن الولايات المتحدة الكبيرة.. يوجد باصات عالية بسقف مكشوف تأخذك في رحلة في المدينة.. و تعرفك على معالمها.. باص البارحة حوى خليطاً جميلاً من كل أنحاء العالم، باص بلونٍ أحمر.. مرشده السياحي رجل أسود لطيف بدأ الرحلة بقوله:
-هنا أمريكا التي بناها المهاجرون من كل بقاع الأرض! ولا يستطيع أحد محوَ هذي الحقيقة.
 
و في نيويورك للحضارة معنى آخر.. الأبنية بتوقيع الفنان هذا و المبدع ذاك..
المشافي التي تم فيها اكتشاف أول لقاح و أول دواء..

أشهر دور الطباعة.. أشهر محطات التلفاز.. الأوبرا.. المسارح.. وول ستريت.. دور ثقافات متنوعة.. كنائس مشهورة.. كل ما سبق ذكره المرشد السياحي في رحلة الباص الأحمر...
 
لكنه عندما مرّ بالجوامع الإسلامية- التي فتح لها الأمريكيون مدنهم بكامل شرعية المساواة- حطّ على رأسه الطير و صمتَ.. 
هذا باختصار ما فعله ( المسلمون) بدينهم...

 قدمتُ مشروعيَن في المؤتمر: 
في الأول: 
طرحت حلاً لمشكلة العنصرية: بثقة الطبقة المتوسطة العربية .. علمها.. أخلاقها.. و بحرية الرأي التي كفلها القانون في بلاد العم سام... 
المشروع الثاني عن الطب النفسي في مجتمعات المسلمين: حاول تسليط الضوء على ما تفعله ( الميديا) من تحويل لجميع المسلمين إلى إرهابيين و تصنيفه كفعل لعين لا ينتمي إلى الحضارة، و لا إلى التعايش...
طرح مفهوم الطب النفسي الاجتماعي كحل للأزمات التي يخلقها التنافر الثقافي.. و ذكر حالات عن مرضى قابلتهم، تمّ تشخيصهم بشكل خاطئ من قبل أطباء سابقين بسبب اختلاف المعتقدات و جهل الطبيب بالبوتقة الثقافية للحضارات المترابطة interdependent cultures
 
الهجوم على الإسلام لا يحل مشكلة، بل يخلق مشاكل، و الحكماء لوحدهم يعلمون أن الأديان ملاذُ البسطاء و ملجأ أحلامهم في عتمة السَّاسة و التُّجَار!
 
في زحمة الاختراعات، الأدب..الفن.. الاقتصاد.. الفرح.. الأحلام .. ضاعت حضارة السلام عليكم بسبب اللحى و تحت حدّ سيف التكفير و جلباب الكبت...
وغادر سكان بلداننا الباصات الحمر كما غادروا حضارة الفرح إلى بلاد الغرب و حضارة تصنيع الفرح.

للفرح حضارة و للحزن ماضي..
و نحن من نستطيع بعقولنا تغيير القوالب الجاهزة، إيقاف (الترافيكينغ).. الإتجار بالبشر و بأحلامهم، و تحطيم الأصنام. 

غداً بعلمي و علمكِ.. بصوتي و صوتكَ.. بقليل من الذكاء و كثير من التواضع : أفضل و أجمل.