ورقةٌ مستعادةٌ من رزنامةٍ قديمة: شُرْبُ القَهْوَةِ فِي المَتَمَّة!


كمال الجزولي
الحوار المتمدن - العدد: 5876 - 2018 / 5 / 18 - 14:24
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

بصرف النَّظر عمَّا انتهت إليه مفاوضات مشاكوس بين الحكومة والحركة الشَّعبيَّة/الجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان فإن أحكَمَ ما كان يتعيَّن علينا بلوغه من تقدير لها هو الكفُّ عن اعتبارها "يوم قيامة" سياسي، ينجرد فيه الحساب الختامي، وتنغلق الدفاتر كافَّة، ويتمُّ تبادل المخالصات النِّهائيَّة، لمجرَّد أن أعضاء الإيقاد، وشركاءها، وأصدقاءها، أرادوا ذلك! فمشاكوس لم تكن محض عُشٍّ تفرخ فيه الإرادة الأجنبيَّة بقدر ما كانت مناسبة أخرى لصراعاتنا السِّياسيَّة، بحيث كان ينبغي أن نتحَّمل وحدنا عـبء مجابهتها، وتدبيرها، وحسمها. على أننا، كعادتنا، لم نحسن ذلك، ربَّما لأن أحداً ممَّن مكَّناهم من الأمر كله بغفلتنا، لم يحفل، أصلاً، بإشراكنا فيه! ولا يتوهَّمنَّ كريمٌ أن ضمير المتكلم الجَّمع عائدٌ هنا، فقط، إلى قوى المعارضة الشَّماليَّة، فثمَّة ما يدفعنا للاعتقاد بأن الحكومة والحركة، أيضاً، ظلتا تتزحزحان على طاولة المفاوضات من خانة "الذَّات" إلى خانة "الموضوع"! وما الدراما التي أخرج بها "الاتِّفاق الإطاري"، لدى ختام الجَّولة الأولى، في 20 يوليو 2002م، ببعيدة عن الأذهان!
صحيح أننا أمسينا نعيش فى عالم يزداد انشغالاً بأطرافه، على أن أغلبه منقسم، من جهة المصالح، والفكر، والأجندات، والسِّياسات، بين قوى كولونياليَّة استكملت مقوِّمات بطشها المادِّي، وشعوب ما تنفكُّ تصارع كي تستجمع عناصر قوَّتها المعنويَّة. لذا، ولأن من يفرِّط في أجندته الوطنيَّة لا يعود أمامه من سبيل لذمِّ الأجندات الأجنبيَّة، فإن الأمل كان، ولا يزال، معقوداً بالمدى الذى نفيق فيه إلى حقيقة أن ما درجنا على تسميته، ردحاً طويلاً من الزَّمن، بـ "مشكلة الجَّنوب"، هو، فى الواقع، ملمح أعلى صوتاً لمشكلة بنائنا الوطني بأسره، حتَّى كادت "الوحدة" تكفُّ، نهائيَّاً، عن أن تكون في وارد خياراتنا، وسط ضجَّة الدَّعوات إلى "تقرير المصير" تنطلق، من هنا وهناك، باسم شعوب الهامش المسحوقة، بينما تعبِّر، في الغالب، عن رغائب بعض متعلمي هذا الهامش الباحثين عن التَّمايُّز، وإنه لحقٌّ، عبر فشِّ غبينة استعلاء الجَّلابة القبيح، وإنه لباطل، فما تبرح هذه الدَّعوات كونها، في نهاية المطاف، مجرَّد كلمة "حقٍّ" يراد بها "باطل"، ومحض إيهام للجَّماهير بأن "التَّفكيك" هو أحد أهمِّ شروط "التَّغيير"، إن لم يكن أهمَّها طرَّاً. وهكذا لم يتبقَّ لنا سوى المفاضلة البائسة بين "انفصال مأساوي"، وبين "وحدة بشعرة معاوية" أكثر ما تدعمها حفنة إجراءات عجفاء! فأين، تراه، موقع العامل الثَّقافي والنَّفسي التَّاريخي من إعراب هذه التَّدابير التي نظـلُّ نُلقَّنُهـا ونلوكهـا، بلا تبصُّـر، ولا يكفُّ الوسـطاء عـن اجتراحـها، بلا هوادة؟‍‍!‍
لقد شاع تَّأكيد أغلب الباحثين والكاتبين الوطنيين الدِّيموقراطيين على عناصر "الوحدة" بين مفردات منظومة التَّنوُّع السُّوداني، بما يكفينا مؤونة الخوض في تفاصيل الاقتران الوثيق بين الثَّقافي والسِّياسي، على طول خطوط الاقتصادي، والاجتماعي، والتَّاريخي، والجُّغرافي، والدِّيموغرافي، وما إلى ذلك. على أنه، برغم علوِّ صوت السِّياسي، وسط هذه العوامل مجتمعة، فثمَّة ما يحمل على الاعتقاد بأن ثمَّة مشكل ثقافي، يقيناً، خلف كلِّ مشكل سياسي، في شأن قضيَّة "الوحدة"، لشدَّة ارتباط الَّثقافي بالهويَّة، والوعي بالذَّات وبالآخر، والاحساس المشروع بالتَّمايز، قبل أن يُخرج الاقتصاد السِّياسي، من فوق كلِّ ذلك، أثقال "قسمة" السُّلطة والثَّروة .. الخ.
ولكون الثَّقافي/النَّفسي التَّاريخي هو، في المحصَّلة النِّهائيَّة، المختبر الأدقَّ لقياس الرَّغائب الحقيقيَّة لغمار النَّاس، والتَّعبير الأصدق عن دوافعهم، وتفسير خياراتهم، فإن ضجيج التَّعانف السِّياسى، وأكثره محض مكابرة، في ما يتَّصل، مثلاً، بـ "مشكلة الجَّنوب"، ظلَّ عاجزاً عن إخفاء حقيقة المقوِّمات الثَّقافيَّة/النَّفسيَّة لـ "الوحدة"، والتي ظلت، لدى عامَّة الجَّنوبيين، ومثقَّفيهم الوطنيين الدِّيموقراطيين بخاصة، أقوى من دواعي "الانفصال" المتهومين به في مستوى الوعي الاجتماعي الزَّائف، والسَّائد في الشَّمال. وربَّما تكفي حتَّى حاطب الليل العجول نظرة عابرة للتَّاريخ الحديث كي يدلل على ذلك بما لا تستطيع أن تطمسه حتَّى أكثف المغالطات، من سنخ النماذج التَّالية:
(1) لم تحُل ذاكرة الرِّقِّ التَّاريخيَّة، وتأثيراتها السَّالبة على صورة المستعرب المسلم لقرون متطاولة، دون تبلوُر صورة الإمام المهدي، عليه السَّلام، لدى الدِّينكا، كإبن للرُّوح المقدَّس "دينق"، وانخراطهم، من ثمَّ، في حربه الثَّوريَّة ضدَّ الأتراك!
(2) وبرغم ما سمِّي "السِّياسة الجَّنوبيَّة" التي اختطَّتها الإدارة البريطانيَّة منذ مطلع القرن العشرين، وأقامت هيكلها الأساسي على ترسانة من القوانين، والإجراءات، والتَّرتيبات الرَّامية لاستبعاد المؤثِّرات الثَّقافيَّة/النَّفسيَّة الشَّماليَّة، كـ "قانون الجَّوازات والتَّراخيص لسنة 1922م"، و"قانون المناطق المقفولة لسنة 1929م"، وكلاهما قُصد منه أن يصبح الجَّنوب، فضلاً عن جبال النُّوبا الشَّرقيَّة والغربيَّة، أرضاً أجنبيَّة بالنِّسبة للسُّوداني الشَّمالي؛ وإلى ذلك "قانون محاكم زعماء القبائل لسنة 1931م"، وفرض الإنجليزيَّة لغة رسميَّة في الجَّنوب، وجعل عطلة نهاية الأسبوع فيه بالأحد، وتحريم ارتداء الأزياء الشَّماليَّة على أهله، وابتعاث طلابه لإكمال تعليمهم في يوغندا، وما إليه، برغم ذلك كله لم يحتج الأمر، بعد زهاء نصف قرن، إلى أكثر من "وعد" بتلبية أشواق الجنوبيين للحكم الفيدرالي كي يصوِّت نوابهم، في برلمان الحكم الذَّاتي، مع استقلال السُّودان الموحَّد، الأمر الذي قام حسن الطاهر زروق، نائب الجَّبهة المعادية للاستعمار "الشِّيوعيِّين"، بتحذير الأحزاب الشَّماليَّة من مغبَّة النُّكوص عنه!
(3) وبرغم تدشين الأجندة الحربيَّة الدَّمويَّة ابتداءً من 1955م، واستمرار العدائيَّات النَّاشئة من خراقة السِّياسة الشَّماليَّة التَّقليديَّة تجاه الجَّنوب، وقصر نظر المواقف الجَّنوبيَّة، والنُّخبويَّة منها تحديداً، تجاه الشَّمال، عسكريَّة كانت أم مدنيَّة، فإن صوت التَّعبيرات "الوحدويَّة"، على تفاوتها، لم يخفت، قط، لا في مؤتمر المائدة المستديرة عقب ثورة أكتوبر 1964م، ولا في بيان 9 يونيو الذي صيغ تحت إشراف الشَّهيد جوزيف قرنق، ولا في اتفاقيَّة أديس أبابا بين حكومة النِّميري وحركة "أنيانيا" الأولى بقيادة جوزيف لاقو، في الثَّالث من مارس 1972م، ولا على هامش أيٍّ من المواجهات التي لم تنقطع منذ 1983م.
(4) ورغم المكابرة السِّياسيَّة البادية في إصرار أقسام من الانتلجينسيا الجَّنوبيَّة على تضمين الإنجليزيَّة في نصوص الدُّستور كلغة رسميَّة للجَّنوب، بل واقتراح بعضهم السَّواحيليَّة (Sir Anaye, Nile Mirror, Feb. 1974)، إلا أن كلمة "الثَّقافي" الحاسمة سرعان ما مضت في الأمر، فلا تمَّ التَّعاطي الجَّاد مع مقترح السَّواحيليَّة، ولا تجاوزت الإنجليزيَّة أقليَّات النُّخب المتعلمة، وهي، أصلاً، ليست لغة أفريقيَّة بأىِّ معنى، بينما واصلت اللغات المحليَّة أداء دورها، وتكرَّست العربيَّة عموماً، وبالأخص "عربي جوبا"، لغة للتَّواصل lingua franca بين القوميَّات المختلفة فى قاعدة المجتمعات الجَّنوبيَّة، على غرار "عربي أم درمان" في الوسط والشَّمال. والعربيَّة، من قبل ومن بعد، لغة أفريقيَّة حملها "الجَّلابي .. إلى الجَّنوب .. منذ 1878م، ووزَّع مفرداتها وصيغهـا مع بضـائعه، ووجـدت فيها قبائل الجَّنوب .. لغة تفاهـم في ما بينها" (عبد الله علي إبراهيم؛ الماركسيَّة ومسألة اللغة في السُّودان، عزَّة للنَّشر، الخرطوم 2001م، ص 40). ومع أن هذا كله كان ما يزال أقصر من قامة المعالجة المطلوبة فى إطار تخطيط ثقافي وطني ديموقراطـي راشـد، إلا أننا لم نكن ".. بحاجة إلى اعتساف هذا التَّطوُّر الحرِّ والموضوعي بصيغ دستوريَّة .. تنطوي على الإكراه" (نفسه).
(5) ضف الى ذلك الملاحظة السَّديدة التى لم تغب عن تحليلات واستنتاجات الكثير من الكتَّاب والسِّياسيين حول ظاهرة نزوح أكثر الجَّنوبيين شَّمالاً، هرباً من الفاقة وويلات الحرب، مقارنة بالقليلين الذين يلجأون، اضطراراً، إلى البلدان الأفريقيَّة المجاورة.
(6) وذات محاورة مؤسِّسة لـ "السُّودانويَّة"، مطالع ثمانينات القرن المنصرم، أبدى لنا صديقنا الشَّاعر المفكِّـر الرَّاحل سر أناى كيلويلجانق، عليه رحمة الله، ملاحظة سديدة حول أن معظم اللغات الجَّنوبيَّة تستخدم مفردة "جورشول"، بمعنى "الغريب"، فى الإشارة إلى اليوغندي، أو الكيني، أو الزائيري، مثلاً، في حين تستخدم مفردة "مندوكورو" في الإشارة إلى المستعرب المسلم القادم من الشَّمال.
(7) ومن ملاحظات سر أناى ذات الدَّلالة القويَّة، أيضاً، أن إحساس الجَّنوبي، حين يتجوَّل فى مدن الشَّمال، إنَّما هو إحساس من يتجوَّل في أرض تخصُّه، بعكس إحساس الغربة الذى ما يلبث أن يلفَّه بمجرَّد أن تطأ قدماه أرض أيِّ بلد أفريقي آخر! فليس سائغاً، البتَّة، التَّرويج العدائي، وإساءة استخدام الإعلام الجَّلابي الرَّسمي لأمنية جون قرنق الشَّهيرة أن "يشرب القهوة في المتمَّة"، أو نحو ذلك!
(8) وحتى فى مفاوضات الإيقاد، وبرغم مثالبها الكثيرة، وما اتَّسمت به من صراعات، وما لاح فيها من ميل مظهري إلى المفاصلة، إلا أن عين السَّخط وسوء النية وحدها هي التي لم تلمح، خلف كلِّ ذلك، طيوف رغبة جنوبيَّة حقيقيَّة فى "الوحدة"، وإنْ بأشراط أكثر غلظة!
***