إضاءات - طبيعة النظام السوري


منذر خدام
الحوار المتمدن - العدد: 5873 - 2018 / 5 / 15 - 14:14
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

(إضاءات)
طبيعة النظام السوري
منذر خدام
لقد نجح الراحل حافظ الأسد بعد انقلاب قاده في عام 1970 في بناء نظام سياسي استبدادي من طراز خاص، وإن خصوصياته سوف تلقي بظلالها على مسار تغييره. هذه الفرضية لم تأخذها بالحسبان قوى التغيير المستجدة (الحراك الشعبي في الشارع) وكان ذلك خطأ جسيما دفعت ثمنه باهظا، ودفع معها الشعب ثمنا باهظاً أكثر. اللافت أن هذه الخصوصيات التي شكلت في حينه فهما مشتركا لدى جميع قوى المعارضة الوطنية الديمقراطية في سورية، سواء في التجمع الوطني الديمقراطي ( تجمع سياسي جبهوي أنشأ في عام 1979 ضم الحزب الشيوعي السوري- المكتب السياسي بقيادة رياض الترك، وحزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي بقيادة حسن عبد العظيم، وحزب البعث الديمقراطي العربي الاشتراكي، بقيادة ابراهيم ماخوس وزير الخارجية السوري الأسبق، وحزب العمال الثوري بقيادة طارق أبو الحسن) أو في إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي( عقد مؤتمره الأول في عام 2005 في دمشق، وضم إلى جانب احزاب التجمع الوطني الديمقراطي العديد من الأحزاب الأخرى مثل حزب العمل الشيوعي وبعض الأحزاب الكردية، وكثير من الشخصيات الثقافية والسياسية المستقلة) ، أو في تحالف الأحزاب الكردية(تحالف ضم نحو خمسة احزاب كردية منها حزب الاتحاد الديمقراطي، والحزب الديمقراطي الكردي السوري وغيرها) ، أو لدى النخب الثقافية، وكان الأساس الذي تأسس عليه مطلبها في التغيير السلمي الآمن، والمتدرج، منذ نحو عشر سنوات، غير أن اغلبها تخلى عنه للأسف خلال الأزمة الراهنة. من هذه الخصوصيات نذكر ما يأتي:
أ- استطاع مؤسس النظام خلال ثلاثة عقود بناء نظام أمني جهازي قل نظيره، في تعميم شامل لمفهوم الأمن، إذ شمل جميع مناحي الحياة في سورية.
ب-القوة الحقيقية في هذه النظام هي للأجهزة الأمنية، فهي المرجع والمقرر في كل ما يخص الدولة، والسلطة، والمجتمع.
ت-وفي سياق الرؤية الأمنية الشاملة تم تسييس الجيش، تحت غطاء من العقائدية البعثية، التي أخفت تحتها استخدامًا واسعًا وفجًا لكثير من البنى الأهلية في بنائه. واكثر من ذلك فقد أعدته أيضا للقيام بمهام أمنية، وشكلت قوات النخبة فيه (الحرس الجمهوري) كقوة طليعية للدفاع عن النظام.
ث-ومن أجل إخفاء، وتمويه الحقيقة الأمنية الجهازية للنظام، تم استخدام حزب البعث، والأحزاب المتحالفة معه، في إطار ما سمي بالجبهة الوطنية التقدمية، بعد قتل روح الحزبية فيها، وتحويلها إلى مجرد أجهزة للسلطة، لتؤدي وظيفة الغطاء السياسي الديكوري لها.
ج- وفي السياق ذاته، نجح مؤسس النظام بتوظيف حزب البعث، من خلال توسيع إطاره، وإرغام الفئات الشابة على الانتساب إليه، أو من خلال المنظمات التابعة له، لشل إرادة قطاعات مهمة من الشعب، ومنعها من رؤية الأسباب الحقيقية لمعاناتها، ولما تعاني منه سورية بصورة عامة. ومن أجل تأمين مزيد من السيطرة، والتحكم بالمسجلين في حزب البعث، أصدر النظام قانون أمن الحزب، لترهيب البعثيين أنفسهم، ولقتل روح التساؤل لديهم. لقد حول النظام البعثيين، وقاعدتهم الاجتماعية إلى مجرد آذان تسمع، وأياد تصفق، وحناجر تصرخ بالروح بالدم...
ح‌- ومن أجل الهدف الأمني ذاته، تم تحويل جميع التنظيمات النقابية، وهيئات المجتمع المدني والأهلي، بعد القضاء على الروح النقابية فيها، إلى مجرد أجهزة للسلطة، تقوم بمهام أمنية بالمعنى الواسع لمصطلح أمن.
لقد كان واضحاً منذ البداية لمؤسس النظام وشركائه، أن الغاية من بناء النظام الأمني الجهازي هو المحافظة على السلطة، والبقاء فيها، ومن أجل ذلك تم تكريس كل الوسائل المتاحة لبناء نظام سياسي يسهر عليها، ويعيد إنتاجها. وكان واضحا لهؤلاء، ومنذ البداية أيضاً، أنه لكي ينجح النظام السياسي المنشود في مهمته المركزية، كان عليه أن يعتمد السياسات الآتية:
أ-سياسة الإدارة بالفساد.
ب-سياسة قتل الروح السياسية في المجتمع.
ت-إنعاش البنى الأهلية، وتوظيفها سياسيا.
لقد كان من نتيجة النهج المعتمد على سياسة الإدارة بالفساد، إنعاش الغرائز اللصوصية في أجهزة الدولة، والمجتمع، والاقتصاد، بحيث صارت السرقة والرشوة من الوسائل الأساسية في الإدارة، والضبط المجتمعي. لقد أدت هذه السياسة إلى تشكيل تحالف ذي طابع طغموي أمني بين شرائح البرجوازية البيروقراطية، والكمبرادورية، والطفيلية، والأجهزة الأمنية، لتكوين سلطة سياسية شديدة المحافظة.
ومن جهة ثانية، أدت هذه السياسة إلى انهيار شبه كامل لمنظومة القيم الحميدة في المجتمع، لتحل محلها منظومة قيم جديدة فاسدة، تعلي من شأن الفاسد، والسارق، والمهرب ( برافو قد حالو..)، وعملت تحتها مجموعات استزلامية باسم الشبيحة ( لقد صار لكل متنفذ شبيحته...يستخدمها في تأمين مصالحه، وفي الدفاع عنها). وأكثر من ذلك استخدمت الشبيحة في صيغ مختلفة( كتائب عمالية مسلحة، أو كتائب بعثية مسلحة، أو لجان شعبية ...واخيرا شركات أمنية) لترهيب الناس، والدفاع عن النظام في الأزمات، وهذا ما تم اختباره بنجاح في الأزمة الراهنة.
أما فيما يخص سياسة قتل الروح السياسية في المجتمع فقد تم العمل بموجبها على جبهتين:
على جبهة النظام، جرى العمل على قتل الروح الحزبية في أحزاب السلطة، وخصوصا في حزب البعث، وإغراق قياداتها في الفساد، والإثراء غير المشروع، وتحويلها إلى مجرد ديكورات سياسية.
على جبهة القوى المعارضة، عمل النظام، وبكثافة لمنع نمو تيارات سياسية معارضة فاعلة وجماهيرية، من خلال تكثيف حملات الاعتقال لأعضائها، إلى درجة أنها أخذت طابعا استئصالياً في بعض المراحل، كما حصل خلال أزمة أواخر السبعينات أوائل الثمانينات، التي تسبب بها الإخوان المسلمون، والنظام، ودفع الشعب بأسره تكاليفها الباهظة. كان من نتيجة هذه السياسة من جهة، إضعاف القوى السياسية المعارضة إلى درجة كبيرة، حتى صار الكثير منها مجرد صور لأشكال حزبية معارضة. ومن جهة ثانية تم تعميم الخوف في المجتمع، حتى صار عنوانا للسلبية والابتعاد عن الخوض في القضايا السياسية الوطنية، وخصوصا ما يتعلق منها بالشأن الداخلي. واستخدم النظام بذكاء ما حصل في العراق، من جراء الغزو الأمريكي له، وهو يستخدم في الوقت الراهن ما يجري في ليبيا من أجل تعميق الخوف من أية مطالب بالتغيير. لقد نجحت هذه السياسة في تكوين مجتمع منزوع السياسة، منزوع الحزبية، منزوع الثقافة السياسية، لتملؤه ديماغوجيا تعظيم الزعيم، وتصديق كل ما يصدر عنه، أو باسمه من مواقف، وسياسات دون تبصر، وصرف اهتمامات السوريين عن الشأن الداخلي.
أما فيما يخص سياسة إنعاش البنى الأهلية، وتوظيفها سياسيا، فقد نجح النظام باستخدامها في صيغ وأشكال مختلفة، بدءا من سياسة التوازنات الطائفية، أو العشائرية في تكوين قياداته الحزبية، أو في توزيع المناصب في الدولة وأجهزتها، وصولاً إلى تعزيز دور المؤسسة الدينية الرسمية، وربطها به أمنيا واقتصاديا. لقد حول النظام الزعامات الأهلية من طائفية، وعشائرية إلى خلفية اجتماعية له، يستدعيها عند الحاجة لتمارس دورها في الضبط المجتمعي. لقد توسع النظام كثيرا في بناء دور العبادة، والمدارس الدينية، ومعاهد حفظ القرآن وغيرها، فانتشر ما يسمى بالدين الطقوسي على حساب تفريغ المجتمع من الخطاب السياسي العلماني، أو اليساري، أو الديني المعتدل، مما أسس، ويؤسس لوعي طائفي خطير في مجتمع متنوع مذهبيًا وطائفيًا، يدفع البلد ثمنا باهظا له.
بطبيعة الحال ما كان باستطاعة الحكام في النظام السوري الاستمرار في السلطة لمدة تزيد على أربعة عقود بالاعتماد على النهج الأمني فقط، لذلك عملوا على جبهات أخرى اقتصادية، واجتماعية، وثقافية، وسياسية، وغيرها، أدت في المحصلة إلى بروز تناقضات كارثية هي من جملة الأسباب التي أسست للدعوة في السابق إلى التغيير الجذري، والعميق تحت عناوين إصلاحية، وهي اليوم من الأسباب المباشرة للأزمة الراهنة تحت شعار اسقاط النظام. لقد حصل تراكم مهم على صعيد رسملة المجتمع، ودخلت المدنية إلى الريف، وانتشر التعليم على نطاق واسع، وتوسعت وسائل الاتصال بالعالم.. كل ذلك عمل على تكوين شخصية المواطن السوري، بصورة تجمع التناقضات في داخلها، وتتعايش معها، وكأنها من الأمور الطبيعية. فهي من جهة غير راضية مثلا عن طريقة إدارة المجتمع بالفساد، الذي استشرى إلى حد لم يبق أحد خارجه. لكنها في الوقت ذاته، لا تعمل شيئا من أجل الحد منه، أو محاربته خوفا من السلطة. لم يعد الاقتصاد قادرا على تأمين فرص عمل لطالبيه، خصوصا، من الفئات الشابة المتعلمة، مما أدى إلى انتشار البطالة، والفقر في المجتمع، لكن لا أحد يشير إلى المتسبب به، إلا في الدوائر الضيقة، خوفا من المخبرين. صار التوظيف في جميع مستويات الإدارات الحكومية على اختلافها، خاضعا لموافقة الأجهزة الأمنية، وللواسطة، وفي بعض المجالات، صارت الوظيفة تباع وتشرى . وحتى في المسائل التي تشكل نوعا من الفخر، والاعتزاز للسوريين، مثل الموقف من القضية الفلسطينية، ودعم المقاومات العربية، وممانعة بعض السياسات الأمريكية في المنطقة، أي تلك المسائل التي تمس بالعمق وطنية السوريين، استخدمها النظام بمهارة أيضا لحرف اهتماماتهم عن الشأن الداخلي. لقد بدأ النقد الهامس ينتشر في أوساط السوريين عن حقيقة هذه المواقف الخارجية للنظام ومدى جديتها، خصوصا، وقد اختار النظام نهج التفاوض مع إسرائيل كخيار استراتيجي. وعندما يرون أنه يحرص على بقاء جبهة الجولان هادئة، وعندما يرون أن إسرائيل تنفذ عمليات أمنية خطيرة في سورية دون رد، أو دون محاسبة المقصرين.. باختصار تجمعت جملة من الأسباب، التي تمس حياة السوريين المباشرة، وكرامتهم، جعلتهم غير راضين عن الظروف التي يعيشون فيها، وكان لا بد من حصول ما يكسر حاجز الخوف لديهم لكي ينتفضوا، وهذا ما جاءتهم به الثورة التونسية، والثورة المصرية، وغيرها من انتفاضات عربية، في تأكيد واضح على تشابه الأنظمة الاستبدادية العربية.