قمر الجزائر 14


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 5861 - 2018 / 5 / 1 - 22:07
المحور: الادب والفن     

سقط الليل ثقيلاً، قطيفيًا، ناعم الملمس كالمخمل، وهو يتضوع برائحة البحر، رائحة سميكة، رطبة. كانا في الشاحنة الصغيرة، سعدي إلى جانب صلاح، وصلاح ينطلق بعد أن ترك شارع العقيد لطفي من ورائه. وكان البحر من أمامهما يَطْرُقُ الصخور، وكأنه يحاول بلا جدوى أن يَغْنَمَ حطامَ سفينةٍ جانحة. كان سعدي هذا الحطام الذي يصر البحر على إبادته عن غير قصد، إلا أن صلاح لا يحس بشيء، ولا يلاحظ أن سعدي، في تلك اللحظة، كان كالفريسة التي تتصارع عليها أسماك القرش. كان يتكلم بلا كلل عن البنت التي يحبها، عن "عَلجية البربرية"، عن عينيها الخضراوين كحقل الشمس، وشعرها الأسود كفحم الليل، وبشرتها البيضاء الملساء كخبز الفجر. ومع ذلك، لم يتأمل خِصْبَ الأرضِ في عينيها عن مَقْرَبَةٍ مرةً واحدة، ولم يحرق أصابعه في أَلَقِ شعرِها الفاحِمِ مرةً واحدة، ولم يلمس بشرة الله البيضاء عند لمسِهِ لبشرتِها مرةً واحدة. كانت عَلجية البربرية تتكئ على النافذة التي تعلو الشارع، وكل مساء تشير بيدها إليه عندما يمضي.
عَلجية البربرية! كم من أحلام بددتها الأحلام!
- ربما لا يوافق أبوها على زواجي بها، قال صلاح.
- ولماذا يعترض على ذلك؟ أجاب سعدي. لا شيء ينقصك.
- أنا، المزابي، وهي، البربرية؟
- ماذا في هذا من أمر؟
- وأبي، هل سيوافق على زواجي بها؟
- هذا هو الأهم!
- هل تعتقد أنه سيوافق؟
- أنت تعرف أباك أحسن مني.
- سيرفض، لأنها بربرية.
- لا تنتظر أن تعرف رأيه، تزوج بها، لو تشاء.
- لو يشاء الله.
- أقصد لو تحبها.
- سيرفضها لأنها بربرية، ولأن أباها مُسْتَخْدَم في دار البلدية. ليست عائلة ذات يُسْر، لو تعلم.
- تزوجها ولا تسمع له.
- وهل سيوافق أبوها على زواجها بي إذا تبرأ أبي مني؟ وماذا سأفعل دونه؟ بالحاصل... دون نقوده؟
- ابحث عن عمل.
- ما هو؟
- أي عمل.
- أين يوجد أي العمل هذا، تَبًا له!
- المهم أن تعمل لتقدر على إعالتها.
- أنا أقدر، بينما الله وحده من يقدر؟
- لِمَ لا؟
وسمعا حديث البحر مع الحيتان.
كان سعدي هو من ينصح صلاح! فماذا عنه وعن حَسِي؟ سيطويهما البحر في جوفه عما قريب، هي وهو، ويهشم عظامهما على الصخور السوداء بعد أن يطهرهما من خطاياهما. سيموتان، وهما يتحاضنان كالأفاعي، وهما يتواتران من الشهوة في عناقهما الأخير. لن يجد الوقت الكافي ليخرج منها، لأنه لن يجعل منه ومنها إلا واحدًا. تأوه سعدي، ونظرته تضيع في الأمواج، وصلاح يغرق في التساؤلات. فجأة، رآه سعدي يُخرج ذراعه ورأسه من الشاحنة الصغيرة، ويلوح بيده، وهو يبتسم كالأبله في الظلام.
عند ذلك، لمح خيال فتاة تلوح بيدها من نافذة عمارة عالية، عيناها مرج أخضر، وشعرها ليل أسود، لها بشرة ناعمة نعومة الخبز... سحق وهذر وهذي! تنتظر ذكرًا بين جدرانها الأربعة دون يأس، لن يقبل الذكر بأي عمل لإعالتها، لن يقدر على إعالتها في كل الأحوال، لأن الحياة غالية جدًا، لن يقدر على إخراجها من بين جدرانها، والذهاب بها بعيدًا عن جبال البطاطا التي لها.
أكد صلاح بقوة:
- سأقتله والله إذا رفض زواجي بها، سأقتله، وستكون لي إرادة عميروش.
- عميروش أم حميروش؟
- عميروش، صاحب اليد الحديدية، الثوري الدكتاتوري، وليس حميروش الديماغوجي، الذي يعد أشياء كثيرة، الذي يعد، يعد، يعد، الذي يعد، يعد، يعد، يعد، الذي...
أخذ ينوح:
- أوه عَلجي، أوه بربريتي، أوه كاهنتي، أوه...!
ثم، وهو يبتلع دموعه، التفت إلى سعدي الذي كانت له هيئة متقززة تمامًا:
- إلى أين تريد أن نذهب؟
- أريدك أن تتركني هنا.
اندهش:
- هنا! في أي مكان وسط الطريق! في العتمة والرطوبة!
- اتركني هنا، يلعن دين!
- أنت مجنون حقًا! حبًا بالله، هيا نذهب لنشرب بيرة.
فجأة، انقض سعدي على المقود موقفًا السيارة على اليمين بقوة، وهو يتفادى الدخول في جدار، وصلاح يضغط على الفرامل، وقد أخذه الذهول. كانت فرصة سعدي للنزول من الشاحنة الصغيرة، والابتعاد باتجاه البحر هناك حيث صوت القلب وحده ما يمكنه أن يغطي زمجرة الأمواج. كيف يعبر عما يشعر؟ لم يكن في صدره غير قلب يحتضر. كانت خيبته بصديقه كبيرة، وحسيبة تزن ثقيلاً في أفكاره. كيف لا يسمع قلبه؟ هل جاء إلى البحر المزمجر ليحكي عنه؟ وماذا سيحكي عنه؟ هو الخانع الخاضع الخائن المجعجع؟ لن تحكم حسيبة عليه بالموت. هي التي ستموت. ستموت موتًا بطيئًا من فرط ما تنتظره. فلتنتظر إذن ككل حوريات البحر التي خدعها البحر.
أدركته توسلات حوريات البحر، وفي نفس الوقت، قهقهات شعب القصبة، الجماهير الشعبية لخويا الكبير، لصوص على لابوانت وشعراؤه المعربدون السكارى المخلون بالحياء. كانوا يُعَرُّونَ حوريات البحر، ويحاولون امتطاءها. وبهذا الفعل، كانوا يعرونها من جمالها وشبابها، فتشيخ، ويخطها المشيب. لم يردع "رجال العدل" كل هذا الجَوْر، وكل هذه القباحة، فيقهقهون، ويهرجون، بينما لم يكن رئيسهم، علي لابوانت، بعيدًا. كان على ظهر فرقاطة فرنسية منسية، وهو يضاجع حسيبة بنت بوعلي، واضعة القنابل، الثورية، علمًا بأنه كان لا يحب جماع اللواتي يُشَغِّلُهُن. كانت شريكته تصرخ من المتعة، وتطلب المزيد حتى أنهكته، وجعلته منهارًا، لا قوة له. وهو لسخطه وإرهاقه، بصق في فرجها، وبقدمه ضربها، وأمر رجاله أن يشبعوها، فلم يشبعوها. بقيت تصرخ مستثارة، جحشة نهمة، والرجال يتساقطون مرهقين، أضناهم فرج الله الأنثوي، كعناكب بحر قرصت، وقذفت، وتساقطت مغشيًا عليها. عند ذلك، مشى علي الجريء على أجسادهم، وهدم بمدفع من مدافع الفرقاطة بعضَ بيوتٍ في القصبة كانت على وشك الانهيار منذ قرون لكنها على الوقوف لم تزل قادرة.
عندما سأله سعدي لماذا كل هذه الجرائم في جمهوريته، أجاب:
- الحق يقال، خويا الزغير، الأمر بسيط. لألقن جماهيري درسًا في الألم، وأحثها على النهوض من سباتها.
أشار باتجاه الرجال الذين هزمهم الكشح الوقح لحسيبة بنت بوعلي، وأضاف:
- هؤلاء لم يعودوا جزءًا من جماهيري، فلا هم رجال ولا هم بغال. أضف إلى ذلك، أنا سيد القصبة، القصبة جمهوريتي، أصنع بها ما أشاء: دم أكتوبر، جثة أكتوبر، قمر أكتوبر، بطاطا أكتوبر، البطن، الفخذ، الثدي، وشقق أكتوبر التي سَتُبْنَى في أكتوبر لأكثرِ المُجَرَّدِينَ من كل شيء.